مقالات
محمد بدر أبو صالح – أهميّة الفحوصات الجّينيّة في تحقيق الأنساب التّأريخيّة
محمد بدر أبو صالح(1) – التاريخ السوري المعاصر
ممّا يُتّفق عليه الآن في الوسطين العلمي والدّيني أنّ كل البشر الحاليين يعودون (بالنّسبين الذّكوري المُباشر والأُنثوي المُباشر) إلى رجل وامرأة كانا يعيشان في نفس الفترة الزّمنية… تكاثرا، ثمّ بدأت ذرّيتهما بالازدياد، هاجر بعضٌ من بلد المنشأ، وبعضٌ بقي، ثمّ في كلّ بلدٍ جديد يُهاجر بعضٌ ويبقى البعض الآخر فيه حتّى توسّعت رقعة البشر، لتشمل الأرض من أقصى الشّرق لأقصى الغرب. وارتسمت عادات وتقاليد تدلُّ على بلد المنشأ في بلد الهجرة الّذي يليه، وتجتمع معاً لتشكّل صورةً يمكن من خلالها استنتاج الأصل المُشترك لجميع البشر.
حصل الاختلاف لديهم في 3 أمور:
1- اسم الأبوين: حيث يُنص على اسميهما (آدم وحوّاء) في الكتاب المُقدّس، واسم (آدم وزوجه) في القرآن، بينما يصطلح العُلماء على اسمين آخرين Y-Chromosomal Adam وMitochondrial Eve ليخلصوا من هذا الاختلاف.
2- مكان الأرض الأولى الّتي سكنها الأبوين: حيث تذكر بعض الكتب الدّينيّة المُتأخّرة أماكن جغرافيّة محدّدة، بينما يتّفق العُلماء على أنّ أفريقيا، بالتّحديد أثيوبيا، هي المكان الأرجح للأصل الأوّل للبشر.
3- زمن معيشة الأبوين: بينما يذكر العهد القديم أنساباً وأجيالاً يُمكن من خلال حسابها بحسب الأعمار المذكورة تصوّر أنّ آدم كان يعيش بين الألفيّات الرّابعة – السّادسة قبل الميلاد، تجد العُلماء يُرجّحون ما هو أقدم من ذلك، حوالي 250 ألف سنة قبل الحاضر.
قد نسمع عبارة: (هذا الأمر تمّ تأكيده أو نفيه من خلال الفحص الجّيني). ما هو الفحص الجّيني؟
يتألّف جسم كل إنسان من الخلايا، كل خليّة فيها حمض نووي DNA يكون نفسه تماماً في كل خلايا الشّخص، 23 شفع من الصّبغيّات، 22 منها تسمّى الأشفاع الصّبغيّة الجّسميّة، 1 يُسمّى الشّفع الصّبغي الجّنسي (لأنّه المسؤول عن تحديد الجّنس).
أ- الذّكر يكون عنده الشّفع الصّبغي الجّنسي مُؤلّفاً من قسمين: X من الوالدة وY من الوالد. فتكون صيغته الجّنسيّة النّهائيّة XY.
ب – الأنثى يكون عندها الّشفع الصّبغي الجّنسي مُؤلّفاً من قسمين: X من الوالدة وX من الوالد. فتكون صيغتها الجّنسيّة الأخيرة XX.
لاحظ كيف أنّ Y ينتقل فقط من الذّكر إلى الذّكر عبر العصور -فهو ليس موجوداً عند الإناث-؟ (لذا، فهو ثابت ينتقل بطريقة عموديّة يُمكن الاعتماد عليه في دراسات علم الأنساب).
لاحظ كيف أنّ X ينتقل بطريقة عشوائيّة من الإناث إلى الذّكور والإناث؟ (قد تجد أخّين شقيقين: أحدهما أخذ X من والدته غير أخيه الّذي أخذ X الثّاني من نفس الوالدة… لذا، لا يُمكن الاعتماد عليه في علم الأنساب).
بالإضافة إلى ذلك،
1- فإنّ الميتوكوندريا (معمل الطّاقة في خلايا الجّسم) يُمكن استخدامها لترسم الخط الأُنثوي، لأنّها تنتقل دائماً من أُنثى إلى أولادها الذّكور والإناث عبر العصور، فتتوقّف السّلالة عند الولد الذّكر ولا ينقلها إلى أولاده -الّذين سيأخذون الميتوكوندريا من والدتهم-، بينما تنتقل من البنت الأُنثى إلى أولادها الإناث والذّكور. لذا، يُمكن استخدامها لإثبات الأُمّهات المُشتركات.
2- الصّبغيّات الجّسميّة Autosomes (هي نفسها الـ 22 شفع صبغي جسمي الّتي ذُكرت أعلاه) تنتقل مُناصفةً في كُلّ جيل من الوالدين إلى الولد. حيث يقوم كلٌّ من الوالدين بإعطاء نصف مادّته الوراثيّة -بشكلٍ عشوائيّ- إلى ولده، فينتج ولد نصف مادّته الوراثيّة (الصّبغيّات الجّسميّة) من والدته، والنّصف الآخر من والده. ولهذا الاعتبار، فإنّها افتراضيّاً سيكون ربعها من الجدّين والجّدتين، وثمنها من والدي الأجداد…. وهكذا دواليك. يُمكن استخدامها لإثبات النّسب المُشترك والمصاهرات (من الطّرفين غير الّذكوري المُباشر الّذي يُعني بهY-chromsomal DNA ، وغير الأُنثوي المُباشر الّذي يُعني به Mitochondrial DNA).
كيف نُوظّف هذه المعلومات في تحقيق التّراث النَّسَبي للشّعوب والقبائل؟
1- الصّبغي الجّنسي الذّكوري Y: إنّ الصّبغي Y سريع التّطفّر، تحصل طفرة فيه في كل جيل تقريباً، كل شخص تنشأ عنده طفرة مميّزة له في موقع ما من 58 مليون موقع من الصّبغي واي، يحتفظ بها، وينقلها إلى أولاده الّذين بدورهم سينقلونها إلى أولادهم مع طفراتهم، هكذا دواليك إلى آخر جيل حي.
الأب الأوّل (سمّوه اصطلاحاً Y-Chromosomal Adam) هو صاحب الطّفرة الأولى في الصّبغي واي الّتي لم تسبقها طفرات من قبل. هو ورَّث من بعده، لكنّه لم يرث ممّن قبله، لأنّه لا أب له.
أي شخص يعيش الآن، في حال فحص الصّبغي Y لديه سنجد أنّه يحمل طفرات آبائه من عنده إلى الأب الأوّل. بمُقاطعة طفراته مع شخص آخر سنتمكّن من تحديد عدد الأجيال الّذي كانوا فيه معاً (يملكون نفس الأب) من عند الأب الأوّل، وعدد الأجيال الّذي ينفرد فيه كلٌّ منهما عن الآخر بخطّه الخاص. عند زيادة عدد المفحوصين سنجد أنّا حصلنا على شجرة نَسَبيّة جينيّة بشريّة Phylogenetic Treeتصل كلّ الذّكور مع بعضهم البعض (سواءً قبل جيل أو جيلين، مثل أبناء العائلة الواحدة… أو قبل 50-60 جد مثلاً، كما في أبناء القبيلة الواحدة… أو قبل 10 آلاف أو 100 ألف سنة -ممّا يدل على التّباعد في النّسب). هذه التّفاصيل الصّغيرة عند تضخيمها سنجد أنّ البشر على الرّغم من أنّهم من أصلٍ واحدٍ، إلا أنّ سلالاتهم تتباين بتباين المناطق الجّغرافيّة والقبائل والشّعوب الّتي ينتسبون إليها. هاك خريطة لتوزّع السُّلالات الذّكوريّة الكُبرى عبر بلدان الأرض وأقاليمها.
خريطة تحتوي على الهجرات عبر العصور للبشر والسّلالات الطّاغية في الأماكن الجّغرافيّة (تظهر سوريا ضمن نطاق التقاء السّلالتين J1-J2).
كون هناك أشخاص ينتسبون إلى جد واحد، يجب لإثبات هذا أن يلتقوا جينيّاً عند فحص الصّبغي واي في طفرة جينيّة (تمثّل جيل) نشأت في نفس الفترة الزمنيّة للجد المُفترض. إن التقت عيّنتان تدّعيان الانتساب إلى جد واحد في فترة زمنيّة أبعد أو أقرب من الجد المُفترض، هذا يُفيد الاختلال في موروث صاحبي العينتين، أو أحدهما.
أصحاب المواريث الصّحيحة يُعرفون بالتّكتّلات الحقيقيّة (حيث تتجمّع مثلاً مئات العيّنات من أشخاص مُختلفين ذوي أنساب وبلدان مُختلفة كلّهم أو جلّهم يحتفظ بموروثه المدوّن المُشتهر به ويلتقون عند جد جيني يطابق في الزّمن والموقع الجّيني الجد المُفترض).
2- الصّبغيات الجسميّة والصّبغي الجنسي X: يُمكن استخدامها لإثبات وجود نسب (جد أو جدّة) مُشترك بين شخصين، ومعرفة الجيل الّذي يلتقي عنده شخصين من أحد أطراف الإنتساب، وإثبات الأبوّة والأمومة، وإحصاء الأعراق والبلدان الجّغرافيّة التّي ينحدر منها جميع أسلاف الشخص خلال الـ 7 أجيال الأخيرة. مثلاً، يجب على البنت ووالدها أن يملكا نفس الصّبغي X، لأنّها ترث قطعاً إحدى الصّبغيّين X من والدها، والآخر من والدتها. ومثلاً: يجب أن تكون المادّة المُشتركة بين الوالد والولد 50% تقريباً، لأنّ الولد يرث نصف مادّة والده الوراثيّة.
3- الميتوكوندريا: تُستخدم لتأكيد الانتساب من خلال خط الأمّهات. فمثلاً، يجب أن يكون أولاد الخالة والخال والخالات وخالات وأولاد خالات الأمهات كلهم يملكون نفس السّلالة الميتوكوندريّة.
هذا العلم هو علم جليل يتم استخدامه في الأوساط العلميّة الأوروبّيّة بكثرة، وذلك لتوثيق الأنساب والمصاهرات بين العائلات الملكيّة المُختلفة والتّفرّعات من مؤسّسي الأُمم المختلفة. وتأكيد حصول أو عدم وقوع حالات من أحداث عدم الأبوّة في العائلات الملكيّة لتوثيق أو نفي الوثائق التّاريخيّة. في البلدان العربيّة، يُستخدم لتأكيد الانتساب للقبائل العربيّة المُختلفة أو انتساب بعض العائلات إلى علي ابن أبي طالب مثلاً. وهذا كما قال لي أحد النّسّابين يُسمّى بعلم المُفاجآت، كونه يكشف أصول بعض الأفراد والعائلات بصورة قد تخالف موروثهم الشفاهي، وفي نفس الوقت، يُثبت في بعض العائلات نسباً ضاع منهم، فيُصحّح انتسابهم. لذا، تجد المُرجفين والمُتردّدين ممّن لا يُريد أن يُغيّر ما هو عليه يخاف من إجراء الفحص، بينما تجد من يريد توثيق نسبه بطريقة علمية وليعرف الحقيقة، يهرعون إلى هذا العلم الجديد الّذي يكشف خفايا التّاريخ والنّسب.
(1) محمد بدر أبو صالح: صيدلاني من مدينة حلب، باحث في علم الأنساب، مدير مشروع الدنا السوري ضمن شركة فاميلي تري دنا (FTDNA) الأمريكية ووكيل شركة (YSEQ) الألمانية