شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – جولة شكري القوتلي الانتخابية عام 1943
من مذكرات أكرم الحوراني (11 /92)
من مذكرات أكرم الحوراني – رمية من غير رام:
بدأ شكري القوتلي نشاطه السياسي في دمشق، بعد الإعلان عن الانتخابات، بحذر وتردد، فاقتصر نشاطه على الزيارات والولائم والاجتماعات المحدودة مع بعض التجار وبعض رجال السياسة السابقين وسواهم ممن كان يدفعهم الحس الانتهازي لممالأته باعتباره خلفاً للشيخ تاج في زعامة البلاد.
وفي التاسع من أيار توجه القوتلي إلى حمص لرد التحية لهاشم الأتاسي الذي اعتذر للجنرال كاترو عن قيادة العهد من جهة، وللتودد للأتاسي ليكون عوناً له على جمع صفوف الكتلة الممزقة من جهة أخرى، فتمت زيارته لحمص بجو طبيعي لم تشارك فيه الجماهير الشعبية بأي استقبال أو احتفال.
ومن حمص توجه القوتلي إلى حلب للغرض ذاته، وهو لم شعث الكتلة الوطنية، فمر بحماه حيث استقبلته الكتلة الوطنية، واقتصر الاحتفال به على زيارة بيت توفيق الشيشكلي بيت الأمة وبيت نجيب البرازي، وكان استقباله طبيعياً وهدف الزيارة أيضاً هو إعادة ما انصرم من علائق رجال الكتلة الوطنية بحماه’
ومنها ذهب إلى حلب، فانفجر الطوفان الشعبي المكبوت لاستقباله، فمكث بحلب بضعة أيام لم يتمكن خلالها من تحقيق هدفه بتوحيد صفوف الكتلة الوطنية، ولكنه عاد منها زعيما للبلاد، وكان مروره بحماه في طريق العودة يوماً مشهوداً.
وقد وصفته الصحف بما يلي:
“وصل الموكب إلى حماه وكان في انتظاره وفود تمثل جميع طبقات المدينة برتل من السيارات، وقد اصطف على جانبي الطريق عدد غير قليل من الجماعات المسلحة بالبنادق لتستقبل الموكب وتسير معه، إلى أن وصل إلى مدخل المدينة في حي الحاضر، وقد أعدت سيارة خاصة زينت بالأعلام والزهور ركبها السيد القوتلي وبجانبه السيد سعد الله الجابري، واخترقت الجموع الحاشدة بصعوبة بالغة، بينما كانت هتافات جماهير الأهلين بحياة السيد القوتلي تشق عنان السماء. وقد استغرق سير الموكب من أول المدينة إلى ساحة العاصي مدة ثلاث ساعات، وهناك دخل السيد القوتلي وصحبه إلى فندق أبي الفداء وأطل من شرفة الفندق حيث استعرض الجموع الحاشدة التي كانت تسير بشكل عراضات وتحمل الرايات وتهزج بالأهازيج الشعبية الحماسية وتلعب بالسيف والترس وترقص الرقصة العربية المعروفة بالدبكة. وبالاختصار فان استقبال حماه كان بالغاً منتهى الروعة والحماس.
وقد القى السيد القوتلي خطاباً حماسياً شكر فيه الجموع وحيا التضامن الشعبي، ثم قصد دار المغفور له المرحوم الدكتور توفيق الشيشكلي، حيث تعاقب الخطباء يحيون الزعيم القوتلي ويعلنون مبايعته على الزعامة، نذكر منهم الأساتذة رئيف الملقي وعثمان الحوراني. ثم ألقى المطران أغناطيوس حريكة خطاباً جاء آية في الوطنية والخلاص قال فيه: إنني أبايع هذا الزعيم -مشيراً إلى السيد القوتلي- بعد أن بايعته على الزعامة هذه الجموع المحتشدة. إن سوريا، وهي في المرحلة الأولى من الاستقلال، تتلفت يمنة ويسرة لتفتش عن ابن بار حقيقي يقودها إلى الكرامة والعزة القومية، فلم يقع نظرها إلا على هذا الزعيم الذي بايعته سوريا الشمالية، والآن تبايعه حماه قلب العروبة النابض”.
وأثناء مرور القوتلي بحمص استقبل باحتفالات شعبية مماثلة. وعندما عاد إلى دمشق خرجت العاصمة على بكرة أبيها لاستقباله.. وبذلك أصبح القوتلي زعيماً شعبياً للبلاد فاستعاد الثقة بنفسه، وأخذت الصحف تنشر بعناوين بارزة: “القوتلي يدعو رجال الأحياء بعد عودته من حلب”.
لم يحقق القوتلي من هذه الجولة الأهداف التي رسمها لها. إذ أنه لم ينجح في لم شعث فلول الكتلة الوطنية الممزقة. أما مجاملته لهاشم الأتاسي فقد ردها الأتاسي إليه بمجاملة عبر عنها بعد الزيارة، بقوله: “إني لفخور بزوال الغيمة التي كانت قد خيمت على علاقات الوطنيين في عاصمة الشمال العزيزة، على أثر الأحداث المؤلمة التي أصابت البلاد سنة 1939، وها هم أولاء لم يكادوا يروا ما للأحداث المقبلة في سوريا من أثر خطير على حياتها السياسية حتى تناسوا ما كان قد عرض، وتسارعوا لجمع الكلمة لمجابهة الأحداث القريبة بإرادة قوية موحدة. وقد كان الفضل في تحقيق النتيجة المنتظرة في وقتها إلى الزعيم الوطني السيد شكري القوتلي الذي شد الرجال مع رهط من الشباب الوطني إلى الشهداء لأجلها. ليس الاتحاد الحاصل قائماً على أساس حزبي، بل اتحاد جميع العناصر الوطنية وتآزرها لتحقيق غايات البلاد في الاستقلال الصحيح”.
إذن ما هو السبب ياترى في هذه الاستقبالات الشعبية المفاجئة في حلب وحماه وحمص ثم في دمشق، وما هي الخلفيات الكامنة ورائها، بعد انهيار الكتلة الوطنية حتى الحضيض؟
لا شك أنه كان لفرنسه وبريطانيا معاً يد في تحريك هذا الاستقبال لتكريس القوتلي زعيماً للبلاد، فقد كانت كل منهما تأمل بأن يكون القوتلي متعاوناً معها منفذاً لسياستها.
ولكن السبب الجوهري هو أن الحركة الوطنية ظلت طيلة سنوات الحرب خاملة ساكنة، إلا من انتفاضات كان يقضي عليها سريعاً، فتعود البلاد- بلا قيادة وطنية- للضياع والاستسلام والانهزام أمام الاستعمار وعملائه، وكان عهد الشيخ تاج صورة كالحة لهذا التمزق واليأس، فأتت رحلة القوتلي مناسبة عفوية لانفجار هذا الكبت الذي عانى منه الشعب طويلاً وكانت بداية الرجاء والمناسبة التي أثبت فيها الشعب وجوده واستعاد ثقته بنفسه واستعرض قوته.. فكانت نتائج هذه الرحلة بالنسبة للقوتلي رمية من غير رام.. ولكن كيف كان موقفنا من استقبال القوتلي؟
لم يكن موقفنا من تلك الاستقبالات الشعبية العارمة للقوتلي موقفاً متحمساً مندفعاً ولا موقفاً معارضاً، بالرغم من معارضتنا للكتلة الوطنية ولسياستها، كان يسرنا أن تنفجر الحركة الوطنية الشعبية بعد طول استسلام وانهزام وانحباس، فهي الضمانة الوحيدة لكل سياسة وطنية في المستقبل، وكانت زيارة القوتلي سبباً في انفجارها. وكان بودنا أن تتهيأ لهذه الحركة قيادة بمستواها، ولكن البلاد كانت محرومة من مثل هذه القيادة. يضاف إلى ذلك أن رحلة القوتلي لم تحقق هدفها بلم شعث تلك الشركة الإقطاعية الرأسمالية، وظلت تناقضاتها تنخر بنيانها مما سيساعد المعارضة الشعبية التقدمية أن تشق طويقها في المستقبل.. هذه الأفكار كانت واضحة لدينا وضوحاً تاماً. وعلى أساسها انطلقنا في وضع خططنا السياسية بعد أن أخفقت بقيادة الملقي وبين الطبقة الإقطاعية العشائرية التي كانت ترى أن فرصتها قد حانت للانقضاض على هذه الحركة..
انظر
من مذكرات أكرم الحوراني (91) – بدء النفوذ البريطاني في سوريا
من مذكرات أكرم الحوراني (90) – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: