شهادات ومذكرات
من مذكرات أكرم الحوراني – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا
من مذكرات أكرم الحوراني (11 /90)
من مذكرات أكرم الحوراني – القوتلي ينطلق من سياسة التعاقد مع فرنسا:
تساءل الناس: على أي أساس سوف تعود الحياة الدستورية للبلاد والانتداب الفرنسي لا يزال قائماً ومسيطراً على جميع شؤونها الإدارية والسياسية والمالية والاقتصادية وقوى الأمن والجيش؟ .. هل تعود الحياة النيابية كامتداد لعهد الشيخ تاج الدين مع تبدل الأشخاص؟
وكان جواب الناس: لابد من نضال مرير لإحداث تغييرات جذرية أولها إلغاء الانتداب وإعلان الاستقلال وممارسته وتنفيذه.
أما رجال الكتلة الوطنية وعلى رأسهم القوتلي فقد كان لهم جواب آخر عبر عنه مقال بعنوان: “أنصال التعاقد مع فرنسا لا يزالون على رأيهم من عشرين سنة” نشره في الفبس(1) بتاريخ 30 آذار عام 1943 نجيب الريس الناطق الرسمي للكتلة الوطنية، قال فيه: “لعل بعض الناص بتساءلون عن مصير السياسة الوطنية التي كانت قبل هذه الحرب والتي كان زعماؤها ينادون بالتعاون والتعاقد مع الدولة الفرنسية، لعلهم يتساءلون: ماذا طرأ عليهم من تطور؟ وماذا أدخل عليها من تعديل؟ .. والقبس في أول عدد يصدر منها بعد غياب تسعة أشهر تجيب على هذا السؤال:
لقد كان الوطنيون أول من دعا إلى إبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدة تعقد بين سوريا وفرنسا على أساس المعاهدة التي عقدت بين العراق وإنكلترا، وكان أول صوت جرئ لأشجع رجل في سوريا ارتفع عالياً يطلب التعاقد وإبدال الانتداب بمعاهدة قبل الثورة السورية وقبل تعيين المسيو دوجوفونيل مفوضاً سامياً لسورية ودعوته لإبدال الانتداب بمعاهدة إنما كان صوت الزعيم الشجاع إبراهيم هنانو في حلب، وكان أول قرار اتخذه الوطنين بصورة رسمية إنما كان في أول مؤتمر وطني عقدوه في بيروت عام 1927 برئاسة الرئيس الجليل السيد هاشم الأتاسي، حيث وضعوا أساس التعاون مع فرنسا، وقرروا الخروج من السياسة السلبية إلى السياسة الإيجابية وطالبوا بعقد معاهدة مع فرنسا تستوجى من مبادئ التصريح الفرنسي الإنكليزي المعروف بتصريح سايكس – بيكو، والمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم وظل هذا هدفهم حتى عام 1930 حيث عقدت المعاهدة العراقية الإنكليزية الأخيرة. فقرروا يومئذ أن الحد الأدنى لمطالبهم هو عقد معاهدة كمعاهدة العراق روحاً ونصاً وتطبيقاً حتى تم التفاهم مع فرنسا وعقدت المعاهدة.. وها نحن اليوم، وبعد كل شء ورغم كل شيئ لا ننكر رأينا ولا ننتقل من صداقة دولة إلى صداقة دولة أخرى. وليس فينا والحمد لله من يبدل مبادئه السياسية كما تبدل القمصان”.
وبغض النظر عن مناقشة اتهام هنانو بالتعاون مع فرنسا الذي يدحضه واقعياً إسقاط الفرنسيين له ولقائمته في حلب بانتخابات 1932، فإن المهم في هذا التوجيه الصريح هو أن عهد القوتلي سوف ينطلق مع الجنرال كاترو من معاهدة سايكس بيكو ومن نصوص ميثاق عصبة الامم وبنودها التي فرضت الانتدابات الفرنسي والبريطانية على منطقة المشرق العربي، وهذا ما يفسر الأحداث السياسية التي تعاقبت على البلاد حتى الجلاء في عام 1945م.
لقد تغير العالم بعد الحرب ولكن عقلية رجال الكتلة الوطنية لم تتغير.. فقد تبدلت الظروف الموضوعية داخلياً وعربياً، وألغيت عصبة الأمم وألغي ميثاقها، وأصبحت فرنسا دولة محتلة تجاهد في سبيل حريتها واستقلالها واشتد التناقض الاستعماري في سوريا بين فرنسا ديغول وبريطانيا.. ولكن عقلية الكتلة الوطنية لم تتغير.
كان لابد من خوض المعركة ضد الانتداب والمتعاونين معه واستسناح الشعب هذه الفرصة لتحقيق استقلال البلاد وحريتها في هذه الظروف الدولية الملائمة.. لكن الشعب، بعد تلك الفترة الطويلة من خمول الحركة الوطنية وانهزامية زعمائها، كان ضائعاً يبحث عن رجل لقيادة البلاد، بينما السيد القوتلي لم يقبل حتى الآن – نيسان 1943- أن يجيب على أي سؤال يتعلق بالموقف الانتخابي، ولم يسمح حتى بطرق موضوع الانتخابات من أساسها. بل كانت نصائحه دائماً بالحض على الهدوء والأناة والصبر. وقد شهدنا له مساء أول أمس- والكلام لجريدة القبس 2 نيسان 1943- حديثاً وجهه إلى فريق من عيون تجار المدينة يرمي به إلى مقاومة كل حركة تزعج هدوء المدينة واستقرارها الطبيعي، وأنه من الواجب أن ينصرف الناس إلى مزاولة أعمالهم، وأن يتركوا حديث الانتخابات للذين يتولون أمورها، وأن يتركوا شؤون الخبز أيضاً للحكومة لتعالجها بالطريقة الحكيمة”.
هذا بالوقت الذي أرسل فيه الجنرال ديغول البرقية التالية إلى رئيس الدولة معرباً فيها عن مضمون السياسة الفرنسية الجديدة:”نهنئ دولتكم على دعوتكم لتديروا بروح نزيهة رفيعة البلاد السورية وهي في طريق الحياة الدستورية التي أعيدت إليها. وإني واثق بنجاح هذه الجهود وببقاء روابط الصداقة القديمة التي توحد بين وسوريا وفرنسا”.
ولتحقيق هذه السياسة كان لايد للقوتلي من أن يعيد شمل الكتلة الوطنية الممزقة بقيادته، فكتبت جريدة” القبس” تحت عنوان: “الوطنيون القدماء يتفقون بدمشق ويختلفون بحلب” قائلة: “لماذا هذا الخلاف؟.. إن كان على الماضي وكان في ذلك الماضي خطأ فإن الجميع مسؤولون عن ذلك الخطأ لأن الوزراء ارتكبوه، ولأن النواب أيدوهم فيه فلم يرتفع لواحد منهم صوت في انتقاد عمل الوزراء. بل بالعكس كانوا مؤيدين لهم ولعملهم إلى أبعد حدود التـأييد.. قد يختلف رجال الحزب الواحد أو الهيئة الواحدة على مبادئ سياسية كبرى فيفترقون وينقسمون لأن كل واحد منهم يتجه اتجاهاً أساسياً في سياسته بالنسبة للقضية التي يخدمها مثلاً. أما أن يفترق رجال هذا الحزب أو الهيئة وهم متفقون في العقيدة والغاية والوسيلة فهذا اختلاف شخصي لا يبرره شيئ”.
(1) كانت القبس ناطقة باسم الكتلة الوطنية في سورية طيلة عهد الانتداب.
انظر
من مذكرات أكرم الحوراني (89) – عودة الحياة الدستورية للبلاد
من مذكرات أكرم الحوراني (88) – انهيار الكتلة الوطنية في عهد الشيخ تاج
انظر ايضاً مذكرات أكرام الحوراني: