وثائق سوريا
كلمة محمد الفاضل في تأبين مصطفى السباعي عام 1964
في الثالث من تشرين الأول عام 1964 توفي الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام لجماعة الاخوان المسلمين في سورية.
أقامت جامعة دمشق حفل تأبين للدكتور السباعي في مدرج جامعة دمشق في الثامن عشر من كانون الأول عام 1964.
الدكتور محمد الفاضل عميد كلية الحقوق والذي اغتيل على يد جماعة الطليعة المقاتلة في دمشق ألقى كلمة في الحفل.
نص الكلمة:
السباعي رائد الطليعة في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي
السيد وزير التربية والتعليم، السادة الوزراء والسفراء، أيها الحفل الكريم:
ان الشعور بمرارة الفجيعة، وفداحة الخطب، يزداد على الزمن عمقه، واتساعه، وامتداده، كلما كانت شخصية الفقيد عميقة للالتصاق بجذور المجتمع، واسعة الاتصال بآفاق الحياة، ممتدة الجنبات في رحاب المعرفة.. والفقيد الراحل من هذا الطراز الإنساني الرفيع :كلي النظرة قوى الاحاطة والشمول، متعدد الجوانب، متشعب المواهب، رائد.. في الطليعة من رواد الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي: حمل زنده راية الدعوة الإسلامية زهاء ربع قرن، دون أن يهن الزند أو يلتوي، ورفع ساعده راية محمد – صلى الله عليه وسلم- فلم يضعف الساعد، وبقيت راية محمد خفاقة تزحم النجوم.. ودعا لسانه الجرئ الحر المتدفق إلى الوحدة تحت علم القرآن، فنديت العربية بالحق على لسانه الجريء، واعشوشبت المنابر بالمعين الثر من بيانه، وكان في ذلك كله عزمة لا تسعها قدرة، وشعاعاً لا يحصره أفق، وحيوية مؤمنة دافقة صمدت في وجه الشدة حتى خجلت الشدة ذاتها من الصمود..
ثم قضى الفقيد الكبير كما يقضي الفارس المتعلم في قلب المعركة: كبرياء النصر في عينيه، ودعوة الحق بين شفتيه، ووهج العقيدة المؤمنة يعمر في جنبيه، ولواء المعرفة مشرع بين زنديه، وهذا الأمل العريض، بمستقبل كتائب الايمان في الأجيال الصاعدة من بعده يملأ شعاف نفسه، ويأخذ بمجامع لبه.. فلا والله ما بقيت ريحانة من رياحين الغوطتين الا تمنت أن تكون ضفيرة من ضفائر المجد على جنبيه، ولا والله ما بقيت مزنة طيبة عطرة من سحائب رياض الفيحاء الا رجت أن يضمخ بها جثمانه، أو يندى بها ضريحه.
ومن هنا كان مأتم الفقيد الكبير السباعي مأتم الأمة العربية جمعاء، ويوم ذكراه من أيام نكل الأمة جمعاء..
أيها السيدات والسادة:
لقد كانت لي غبطة الاتصال بالفقيد منذ أن عين مدرساً في كلية الحقوق في جامعة دمشق، ولم أكن أعلم عنه الا ما روته لنا آيات جهاده ضد الانتداب وزبانيته. وكانت شخصية السباعي، كشخصية كل نابغ عظيم في هذا البلد، يلفها خصومه بأوشحه من الخرافات والأساطير والحكايات التي تمليها المصالح والأحقاد. وأشهد أنني ورعيلاً من زملائي أعضاء هيأة التدريس لم نقرب الفقيد الكبير في السنوات الأولى من معرفتنا به الا على حذر شديد، ثم لم يلبث أن تبدد هذا الحذر، وغدونا – بحكم الاتصال الدائم والنقاش العلمي المنهجي الهادئ- كما ازددنا من الفقيد الغالي قرباً. ازددنا له حباً وبه تقديراً واعجاباً.
وكانت له- يرحمه الله – آراء … وكانت لنا آراء .. فكنا نتقارب في النظر تارة، ونتباعد تارة أخرى. وأشهد أن اختلاف الري لم يفسد علينا مودتنا، ولم ينتقص من الشعور المتبادل بالاحترام والتقدير. وأشهد أن قد كان – طيب الله ثراه- رقيق الاهاب، متفتح الذهن، يتكلم فيشع عقله في معانيه، ويشيع ذكاؤه في مراميه، ويسيل شعوره الحي على الفاظه وعباراته، ويحيا القضية التي يعمل لها بكل حواسه ومشاعره:
بديهه حاضرة، وذهن متوقد نفاذ، وإطلاع شامل، ومنطق مستقيم، ورجولة بعيدة الغور، سنية القصد. كان – نضر الله مثواه- ذكياً إلى درجة الحكمة، مشبوب العزم إلى درجة المغامرة، طموح النفس فلا يحصر أفقه يأس، ولا يحد غايته مطلب، بعيد الهمة فلا يضله كغيره شادر الخيال، ولا يغره كغيره خادع الأمل، كبير القلب فلا يشوب غرضه سوء، ورث شمائل العروبة الأصيلة، ورث حفظ الكرامة ورعاية الحق، والانصاف بالأريحية والنجدة، فكان عربياً بدمه، مسلماً بخلقه وعقيدته، ولم يكن – والعياذ بالله- من أولئك الشعوبيين الذين يعيشون على الأمة العربية ولا ينتسبون إليها..
لقد اعتنق السباعي – في رأيي، وهذا ما يجعله عظيماً في عيني- عقيدة، وظل أميناَ لها بلسانه وقلمه حتى آخر نسمة من نسمات حياته. عقديته : ان دعوة القومية العربية التي بعثت من جديد لتلم شتات العرب في كل قطر وتجعل منهم أمة موحدة الرغائب والقوى يجب أن تقوم على أساس من قيم الإسلام الروحية، وتعاليمه، وتراثه الحضاري الخالد.
ان الإسلام كان وسيبقى .. ويجب أن يبقى: ظئراً للعروبة: حماها حماه، وقيمها مشتقة من قيمه.. مستلهمة منها. متساوقة.. منسجمة معها..
هل تريدون، أيها السيدات والسادة، برهاناً أدل على عقيدة الفقيد هذه مما خطه بقلمه الناري في كتابه القيم: “اشتراكية الإسلام”، وهو الكتاب الذي نال جائزة الدول التشجيعية في ظل الوحدة. اسمعوه يقول: ان اشتراكية الإسلام:
أخذت من العرب وثنية متردية، وقبائل متفرقة، وحياة خشنة، وعزلة موحشة وأعطتهم توحيداً متسامياً، وعيشاً رخياً، وأمة واحدة، وقيادة لمواكب النور في تاريخ الإنسانية كلها.
أخذت من العالم عقائده المتفسخة، وملوكه الظلمة، وحيونيته المتقاتلة، وأعطته عقيدة محررة وقيادة ساهرة، وانسانية بالنبل والخير زاخرة.
أخذت من العالم عقائده المتفسخة، وملوكه الظلمة، وحيوانيته المتقاتلة، واعطته عقيدة محررة وقيادة ساهرة، وانسانية بالنبل والخير زاخرة.
أخذت من العرب (أبا جهل) وأعطتهم (أبا بكر)
أخذت من الفرس (مزدك) وأعطتهم (أبا حنيفة)
أخذت من العراق (رستم) وأعطتهم (سعدا)
أخذت من مصر ( المقوقس) وأعطتها (عمروا)
أخذت من الشام (هرقل) وأعطتها (معاوية)
أخذت من قيادة العالم (كسرى وقيصر) وأعطتها (خالداً وعمراً)
أخذت من العالم (امبراطوريتين) وافتنا الشعوب: امبراطورية الفرس في الشرق، وامبراطورية الروم في الغرب..
وأعطت العالم (حضارتين) بعثتا الشرق الوثني والغرب الهمجي من رقدتيهما: حضارة (بغداد) في الشرق و(قرطبة) في المغرب.
وثمة عقيدة ثانية ما حاد عنها السباعي في كل ما عرفته من حياته، وهي : ان الانسان ما خلق الا ليكون حراً، فمن أقدس واجباته ان يجاهد في سبيل حريته بغير هوادة ولا ملل، لا سيما حرية الفكر والضمير.
بيد أن هذه الحرية – في رأي السباعي- يجب ان تمارس في إطار من القيم الخلقية والفضائل الروحية، فشرف الكلمة يجب أن يقدم على حريتها.. لنخشع أمام هذه العبارة الفذة من عباراته:
“ان الذين يزعمون ان من حقهم ان يقولوا ما يشاؤون باسم حرية الكلمة ينسون ان شرف الكلمة قبل حريتها، ولم أجد أمة تسمح بالخيانة الوطنية باسم الحرية، ولو كان عندنا رأي عام واع لحاكمهم كما يحاكم خونة الوطن في قضاياه الوطنية”(1).
ثم أن ثمة عقيدة ثالثة، تكاد صفوة حياة الفيد، بل هي جوهر دعوته الإصلاحية التي تعتبر -في نظري- امتداداً لدعوة كبار المصلحين في العالمين العربي والإسلامي، وتكاد تسلكه في العقد الثمين الذي من بعض لآلئه جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده.
أسمعوه – تغمده الله برحمته- يعرب عن رأيه فيقول:
“الذين يطمسون وجه الشريعة المشرق بجهودهم اسوأ اثراً من الذين يطمسون بجحودهم”(2).
ثم أسمعوا ما حكمه الغوالي:
“الذين يلبسون لبوس الدين ثم يستغلونه أشد خطراً على الدين ممن يكشفون عن وجوههم فيحاربونه”.
ويضيف فقيدنا الكبير:
“مصيبة الدين في جميع عصوره بفئتين: فئة اساءت فهمه، وفئة اتقنت استغلاله.. تلك ضللت المؤمنين به، وهذه أعطت الجاحدين حجة عليه”.
ويبلغ الفقد الغالي القمة في الدعوة إلى فهم الإسلام فهما صحيحاً وفي التحرر مما علق بالدين في عهود الانحطاط، وما يبعده عن أصالة الرسالة المحمدية، فيقول:
حين تضيع معاني الدين وتبقى مظاهره، وتصبح العبادة عادة، والصلاة حركات، والصوم جوعاً، والذكر تمايلاً، والزهد تحايلاً، والخشوع تماوتاً، والعلم تجملاً، والجهاد تفاخراً، والورع سخفاً، والوقار بلادة، والفرائض مهملة، والسنن مشغلة.
وحينئذ .. يرى أدعياء الدين عسف الظالمين عدلاً، وباطلهم حقاً، وصراخ المستضعفين تمرداً، ومطالبتهم بحقهم ظلماً، ودعوة الإصلاح فتنة، والوقوف في وجه الظالمين شراً.
وحينئذ .. تصبح حقوق الناس مهدرة، وأباطيل الظالمين مقدسة، وتختل الموازين، فالمعروف منكر، والمنكر معروف.
وحينئذ .. يكثر اللصوص باسم حماية الضعفاء، وقطاع الطرق باسم مقاومة الظالمين، والطغاة باسم تحرير الشعب، والدجالون باسم الهداية والإصلاح، والملحدون بحجة ان الدين افيون الشعوب.
أيها السيدات والسادة:
هذه قبسات يسيرة من الدعوة الإصلاحية الحرة التي حمل مشعلها نسرنا الصريع في آفاق دنيا العرب والمسلمين، وما اخالني مهما أفضت فيه – الا ان كلمتي تضيق عن استيعاب كنهه، وتنكمش حواشيها عن عميق ذاته.. وحسبي أن أقول لكم: اذا ما ذكرتم الفقيد الكبير مصطفى السباعي فاذكروا الداعية المصلح في زمن عز فيه الدعاة المصلحون، واذكروا فارساً من فرسان المنابر، وكاتباً اديباً، ومؤلفاً بارعاً، وفقيها مجدداً، واستاذ جامعياً عالما، قضى نحبه في طلب العلم ومن أجل العلم، واذكروا له فكرته الخلاقة المبدعة في إنشاء موسوعة للفقة الإسلامي، واذكروا له دفاعاً عن “السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي” وشرحه الرائع لقانون الأحوال الشخصية، واذكروا له “اشتراكية الإسلام” و”المرأة بين الفقه والقانون” وما باهي به الملأ “من روائع حضارتنا” وما نثره من خواطره وأفكاره الاجتماعية في كتابه الملئ بالتجربة والحكمة: “هكذا علمتني الحياة”. وما وقف له جهده العلمي القيم من بحوث وآراء في مجلته “حضارة الإسلام”.
ثم اذكروا – أيهاب السيدات والسادة – فوق كل هذا، وبعد كل هذا.. اذكروا رجلاً سار في مقدمة الرعيل الأول من فرسان اليقظة الحديثة في دينا العرب، حيث المسالك وعرة والعقبات في وجه المصلحين أكثر من أن تحصى، فما لوى عنان جواه يمنة ولا يسرة، ولا ارتد منهوكاً من المقدمة إلى المؤخرة، بل ظل فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي طيلة حياته ضميراً حراً لا يسخر وجبيناً عالياً لا يعفر.
ولقد شوهد السباعي، واخوان السباعي في حومة فلسطين- رعى الله فلسطين- يتسعرون بالإقدام، ويتفجرون بالحمية الوطنية، ويهتفون بالتضحية، ويجدعون بالإيمان انف النكبة.. بينما كان الغواة المضللون يلتهمون زاد الأمة العربية مع الوحش، وينضجون شواءهم في حريقها.
فيا أخي، وزميلي، أما حسان:
لطالما طارحتني الحديث، ولشد ما اختلفنا حينا،واتفقنا حينا… فلله أنت اليوم ما أفصحك ساكتاً، وما أعياني متكلماً، ما أحراك بالكلام واحراني بالصمت والاصغاء. لست ابكيك لأنك حيث أنت في غنى عن دموعي، ولأنك حي في ضمائر اخوانك الجامعيين منهم وغير الجامعيين، حي في وجدان البقاء.
ولست ارتبك، يا زميلي، فنحن الأحياء أجدر بالرثاء وأحق بالدموع منك، لأنك نزعت عنك خوف الموت، أما نحن فما برحنا كالقصبة المرتجفة على سبيل الموت والحياة. أنا واثق يا صديقي أنه لن يرضيك ولن يرضينا ان يكون كل وفائنا لك حفلة تأبينية وبضع كلمات في رثائك.. ولكن الوفاء ، حق الوفاء، ان يعمل المسؤولون في جامعة دمشق على تخليد ذكراك بتخليد دعوتك، ونشر رسالتك، والابقاء على مؤلفاتك، والسهر على تحقيق مشروعك العظيم في موسوعة الفقه الإسلامي.. فهذا الذي يجدى.. وهذا الذي يرضى…
رحمك الله يا أبا حسان رحمة واسعة،ورضي عنك، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وجزاك خيراً عن جهادك “يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم”.
صدق الله العظيم
(1) انظر الصفحة 139 البند 539 من كتاب “هكذا علمتني الحياة” القسم الأول: الاجتماعي للدكتور مصطفى السباعي.
(2) المرجع السابع، صـ 83، البند 225.
(3) المرجع السابق، ص 177، البندان: 695 و 697
انظر:
تنفيذ عملية إغتيال محمد الفاضل
صحيفة 1977 – إغتيال رئيس جامعة دمشق
انظر ايضاً:
وثائق وبيانات سورية 1900 – 2000