وثائق سوريا
كلمة خالد بكداش حول مميزات المرحلة الحالية في تطور سورية 1966
خالد بكداش: مميزات المرحلة الحالية في تطور سورية ومهمات القوى التقدمية
كلمة لـ خالد بكداش أمين الحزب الشيوعي السوري على أساس مناقشات الاجتماع الموسع للجنة المركزية المنعقد بدمشق في حزيران 1966م، أي بعد إنقلاب الثالث والعشرين من شباط عام 1966م.
نص الكلمة:
تجتاز سورية العربية مرحلة هامة ودقيقة هي مرحلة ترسيخ وتعميق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التقدمية التي تمت والسير بها إلى أمام لتوفير المقدمات الضرورية لتحويل وطننا إلى بلد اشتراكي.
وبالتالي فكل مؤمن بالاشتراكية، لا بد أن يريد بكل جوراحه أن تجتاز بلاده هذه المرحلة بنجاح، وبدون هذه الإرادة لا يكون التقدمي تقدمياً سواء كان داخل الحكم أو خارجه، وسواء لزم الصمت أو ملأ الدنيا صياحاً عن اخلاصه للاشتراكية.
غير أن الإرادة وحدها لا تكفي فلابد من تقدير صحيح لتطور الأوضاع في سورية. وهذا التقدير الصحيح يتطلب كثيراً مر الروية، والتجرد وليس للتجرد الا معنى واحداً هو النظرة الموضوعية.
كيف السبيل إلى تقدير تطور الأوضاع بشكل صحيح، موضوعي؟
فمن أجل تقدير الأوضاع تقديراً موضوعياً، ينبغي الانطلاق لا من اعتبارات شخصية أو حزبية ضيقة، بل من اعتبارات بمصلحة البلاد العامة.
أو بعبارة أصرح، لا ينبغي الانطلاق من مثل التساؤل التالي: ما هو المكسب الذي جناه أو سيجنيه حزبنا أو جماعتنا من هذا التغيير أو ذاك؟ بل ينبغي وضع السؤال كما يلي: أي مكسب يجنيه التطور التقدمي العام في البلاد من هذا التدبير أو ذاك؟
هذا شيء يصح على جميع القوى التقدمية سواء أكانت في يدها مقاليد السلطة الفعلية أو لم تكن، وسواء أكانت داخل الحكم أم خارجه، بل وبشكل أعم سواء أكانت مؤيدة للحكم من حيث تركيبه عناصره أم معارضة له.
فالإنطلاق من مصلحة توطيد وتطوير التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية هو وحده الذي يؤدي إلى تقدير الأوضاع بشكل صحيح موضوعي وإلى إيجاد الحلول الضرورية للتغلب على المصاعب والسير بالبلاد إلى أمام.
أما الإنطلاق من أي اعتبار آخر، فهو يؤدي بصاحبه، عاجلاً أو آجلاً، إلى مأزق مهما كان موقفه في الحكم أو من الحكم.
ماذا حققت سورية منذ 23 شباط
فما هو التقدير الصحيح الموضوعي لتطور الأحوال منذ 23 شباط؟
لقد استطاعت سورية العربية خلال الأشهر الأربعة الأخيرة تحقيق العديد من الخطوات الايجابية. فهي دولياً، خرجت من العزلة التي فرضتها عليها سياسة البعثيين اليمنيين. وليس أدل على ذلك من هذا التحسن الكبير في العلاقات مع الدول الاشتراكية العظمى، الاتحاد السوفيتي ومع بلغاريا والمانيا الديمقراطية وغيرها من البلدان الاشتراكية. وفي الميدان العربي كسرت سورية الطوق المضروب حولها ومن دلائل ذلك بدء التحسن في العلاقات مع القاهرة والجزائر.
وفي الميدان الداخلي، حققت سورية انتصاراً كبيراً هو التعاقد مع الاتحاد السوفيتي على بناء سد الفرات، هذا المشروع الوطني العظيم الذي قاومته زمرة صلاح البيطار وميشيل عفلق بشتى أساليب الخداع والتسويف والمماطلة. كما تحرك مشروع سكة الحديد اللاذقية – القامشلي إلى أمام بعد أن كان شبه نائم. وتبذل الجهود لتنشيط مشروع معمل السماد الآزوتي ومشروع استثمار الفوسفات، وتجري الدراسات لإنشاء عدد من السدود السطحية لمحاربة الجفاف، وثمة اتجاه لدراسة الامكانيات لإنشاء صناعات نفطية كيماوية وتستمر الدراسات والمفاوضات لتحويل بعض المحصولات الزراعية. كذلك يجري العمل لبناء سكة حديد دمشق – قطنا وفقاً لشعار ان الجيش للحرب والأعمار معاً.
ومن أهم المنجزات الغاء اتفاقية أنابيب النفط مع الشركات الاحتكارية البريطانية، هذه الاتفاقية المجحفة والخطرة التي استمات صلاح البيطار وأعوانه لسلقا سلقاً في المجلس الوطني السابق قبل حله وقد نجحوا في محاولتهم بمختلف أساليب التضليل والتهويل حتى أنه لم يصوت ضدها سوى النائبين الشيوعيين وعدد قليل آخر من النواب. ولا ريب أن اقصاء ثعالب الاستعمار الانكليزي عن كل ما له علاقة بالنفط في بلادنا هو في الدرجة الأولى انتصار وطني وسوف يكون له مغزى واثر على نطاق الشرق العربي بأسره.
ومن المنجزات الهامة، سير الاصلاح الزراعي فهو، رغم المآخذ الكثيرة على أسلوب تطبيقه بمعزل عن جماهير الفلاحين، خرج من الجمود الذي فرضته على تنفيذه سياسة البعثيين اليمنيين فترة طويلة. فسار خطوات ملموسة في اتجاه تعميم الاستيلاء على أراضي الاقطاعيين، وان كانت الخطوات ما تزال وئيدة جداً فيما يتصل بتمليك الفلاحين الأراضي المستولى عليها.
ورغم استفحال البطالة بين جماهير واسعة من العمال (خصوصاً في البناء ما يتبعه من مهن)، ورغم مصاعب العيش التي ما يزال يعانيها العمال الذين أجورهم قليلة، ورغم فقدان التمثيل الديمقراطي عن طريق الانتخاب الحر في العديد من ميادين الحياة النقابية والعمالية، فإن الطبقة العاملة، التي حصلت على حقوق هامة، ازداد وزنها، من حيث هي طبقة، حياة البلاد وان كان هذا الازدهار ما زال بسيطاً جداً وبعيداً عن المركز الطبيعي الذي ينبغي أن تحتله الطبقة العاملة من حيث هي الطبقة المدعوة إلى القيام بدور أساسي وطليعي في كل تحول عميق وجذري من شأنه أن يؤدي إلى الاشتراكية.
الموقف الذي يفرضه واقع سورية الحالي على القوى التقدمية
تلك هي المنجزات التي حققتها سورية في الميادين الثلاثة: الدولي والعربي والداخلي. فهل يجوز لأي وطني تقدمي، مهما كان تجاهه، أن ينكر هذه المنجزات أو تنكر لها، لأنه له، مثلاً، رأياً معيناً في الحكم وشكله وتركيبه لا يجوز. فواجب جميع التقدميين ان يبتهجوا لهذه المنجزات وأن يدعموها وأن يسعوا لتوطيدها من حيث هي خطوة أو جزء من المقدمات الضرورية في العملية المعقدة الطويلة المؤدية إلى تحويل سورية العربية إلى بلد اشتراكي.
اننا نعلم جيداً أن كثيراً من إخواننا التقدميين على اختلاف فئاتهم يبتهجون لهذه المنجزات ويدعمونها بما في وسعهم إذا لم يتيسر لهم حتى الآن ان يبذلوا كل ما لديهم من طاقات للاسهام الفعلي المباشر في انجاح المرحلة الدقيقة التي يجتازها وطنهم، فالذنب ليس ذنبهم، غير أننا نعلم جيداً ايضاً بأن ثمة عناصر في مختلف الحركات التقدمية، إما لكونهم في أعماقها يمينية الاتجاه، وإما لكونها تنطلق من اعتبارات ضيقة، تحاول أن تجر الحركات والفئات التقدمية إلى موقف معارضة مطلقة من الوضع القائم في سورية، وتسعى لأن تطبق في معارضتها لهذا الوضع الذي هو دون ريب وضع وطني تقدمي – رغم المآخذ عليه – تلك الأساليب التقليدية التي تلجأ إليها عادة أية معارضة في نضالها ضد أي وضع قائم.
ولكن لا يجوز لأي تقدمي ان ينسى ان تجربة جميع الحركات الثورية في العالم تبرهن ان المعارضة “المطلقة” أو” المبدئية” لأي حكم تقدمي لها منطقها الطبيعي الذي قد يؤدي إلى بعيد اذا لم يتم تدارك الأمر في الوقت المناسب. فقد تبدأ هذه المعارضة، عن حسن نيبة تماماً بانتقاد الجهات السلبية في وضع البلاد، ولكنها لا تلبث – تبعاً لمنطق كل حركة معارضة- ان تغتاظ لأي خطوة ايجابية تتحقق فنغمض العين عنها ونحاول انكارها، ثم اذا هي استمرت على موقفها، لا تلبث أن تبتهج للمصاعب التي تبرز أمام الوضع، ثم اذا هي استمرت على موقفها، لا تلبث ان تبتهج للمصاعب التي تبرز أمام الوضع، ثم قد يدفعها منطق المعارضة نفسه إلى السعي لاستفحال المصاعب بل إلى المساهمة في خلقها ايضاً. وعندما تصل المعارضة إلى هذه النقطة فقد تجد نفسها مدفوعة، بالمنطق ذاته، إلى البحث عن حلفاء مهما كانوا، وهنا الخطر منها وعليها.
أي، بكلمة، لا يجوز لأي تقدمي في سورية أن يقول مثلاً ما يلي: نعم ان سد الفرات هو انتصار كبير، ولكنني إذا أعلنت تأييدي له، فمعنى ذلك انني أؤيد الحكم القائم، مع انني معارض لهذا الحكم، مثل هذا الموقف ضيق جداً، وانعزالي جداً، وهو اذا استمر وتطور وأصبح موقفاً عاماً وشاملاً جميل الميادين، فقد يؤدي إلى تفريغ الموقف التقدمي العام من محتواه، ثم قليلاً قليلاً، إلى تحويله إلى عكسه.
ان كل تقدمي واع حازم واثق من نفسه ومن حركته ومن ايديولوجيته، ومؤمن ايماناً مطلقاً بالتطور التقدمي الضروري لوطنه، لابد ان يؤيد بكل جوارحه كل خطوة تدفع البلاد في طريق التقدم. وليس ما يمنعه، في الوقت نفسه، من ان يبدي رأيه في الجوانب التي يراها سلبية في الوضع، وان يدعو إلى النضال لتلافيها. بل ليس ما يمنعه من ابداء رأيه في شكل الحكم الذي يدعو اليه ويعتقد أنه الطريق الأمين إلى تجنيب البلاد العثرات وتوطيد ما تم انجازه والسير إلى أمام.
هل في مسلك الشوعيين بعد 23 شباط “مجازفة سياسة”؟
ثمة فريق من الأخوة التقدميين المستقلين أو المنتمين إلى هذه الحركة أو هذه يعتبون على الشيوعييون السوريين لبعض جوانب السياسة التي انتهجوها بعد 23 شباط، فهم مثلاً، يقولون: “ان إقدام الشيوعيين على التعاون مع البعثيين اليساريين (ويفضلون ان يقولوا مع البعثين القطريين)، هذا التعاون الذي انعكس بشكل محدود جداً وبسيط جداً (محدود وبسيط إلى حد يمكن معه القول بأنه “رمزي” لا أكثر، كما يقولون هؤلاء الأخوة التقدميون) في تركيب الحكومة الحالية.. هو “مجازفة سياسية” بالنسبة للشيوعيين أنفسهم من جهة، وهو، من جهة أخرى، إسهام في دعم الاتجاه السائد بين الحكام -ان لم يكن كلهم فأكثرهم أو أفعلهم – هذا الاتجاه القائم على الاعتقاد بأن في استطاعة فئة واحدة، تمكنت من استلام مقاليد السلطة الفعلية في الدولة، ان تحل بنفسها ولوحدها المشاكل والمعضلات الكبرى الاقتصادية والسياسية التي تجابهها البلاد في هذه المرحلة، أي أنها تتجاهل ان للقوى التقدمية الأخرى دوراً فعالاً – لارمزياً فقط – في حل هذه المشاكل والمعضلات”. مجازفة سياسية؟؟ .. لنفرض ان هناك فعلاً مجازفة.. ولكن أي حزب ثوري هذا الذي لا يقدم على هذه المجازفة اذا ان مقتنعاً اقتناعاً عميقاً بأن فيها فائدة للتطور التقدمي الجاري في سورية؟
أما القول بأننا ندعم الاتجاه الذي ينكر الدور الفعال للقوى التقدمية – جميعها- في نجاح التطور الذي تجتازه البلاد لأننا، كما يقولون، اكتفينا، حتى لأنفسنا، بتعاون لم ينعكس الا بشكل “رمزي” في تركيب الحكم، فهو قول مردود. فنحن، غداة 23 شباط، أعلنا بوضوح تام (في افتتاحية “نضال الشعب” التي كتبت بناء على توجيهات المكتب السياسي) ان نظرية الحزب الواحد لا تنطبق على ظروف سورية الواقعية وان توفير المقدمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية اللازمة لتحويل وطننا إلى بلد اشتراكي، يحتاج إلى تضافر جهود جميع الحركات والفئات التقدمية التي تكونت تاريخياً في سورية. وموقفنا هذا ما يزال هو هو . بل تتكاثر يوماً بعد يوم في حياة البلاد الواقائع الملموسة التي تدعمه وتزيده قوة. أما مفهوم التعاون الرمزي والتعاون الفعلي، فهو يختلف حسب نقطة الانطلاق في تحديده: فقد يكون التعاون حقاً رمزياً إذا قيس على – أساس الفوائد أو المكاسب المباشرة التي يعود بها التعاون على هذا الحزب المتعاون أو هذه الفئة المتعاونة من حيث هو حزب أو من حيث هي فئة. ولكن هذا التعاون الرمزي نفسه، قد يكون فعلياً وفعالاً (إلى حد ما على الأقل) إذا قيس بالنتائج التي أدى أو يؤدي اليها فيما يتعلق بتحقيق ولو بعض الفوائد والمكاسب الهامة المتصلة بسير التطور التقدمي في البلاد.
ترسيخ الأسس المادية للتطور التقدمي الجاري في سورية: ذلك هو جوهر سياستنا ولبها!
توطيد، وتقوية، وترسيخ الأسس المادية للتطور التقدمي الجاري في سورية: ذلك هو لب سياستنا نحن الشيوعيين، ذلك هو جوهر هذه السياسة، ذلك هو المحتوى الأساسي والرئيسي لخطة الحزب الشيوعي في المرحلة الحالية من حياة سورية العربية.
إننا نبذل كل ما بوسعنا لكي تبلغ الأسس المادية لهذا التطور التقدمي مقداراً من القوة والرسوخ يصبح معه من الصعب جداً الرجوع عنها مهما كانت التطورات المقبلة في البلاد. لهذا على الضبط نطالب وبالحاح شديد، بالتعجيل في انجاز الإصلاح الزراعي، بالتعجيل في توزيع الأراضي التي استولت عليها الدولة على الفلاحين الفقراء المحرومين لا عن طريق التأجير بل عن آمالها في استعادة سلطانها، وهو، من جهة أخرى، الطريق نحو تكوين تعاونيات يدخلها الفلاحون لا قسراً بل طواعية واختياراً، وتكون هذه التعاونيات هي السبيل – خلال تحولها تدريجياً إلى تعاونيات إنتاجية – لسد الطريق على تطور الرأسمالية في الريف ولتحويل علاقات الإنتاج في الريف بالتدريج تحويلاً إشتراكياً.
ولهذا أيضاً أيدنا ونؤيد سد الفرات لنتائجه الكبرى الاقتصادية والاجتماعية فيما يتصل بدعم التطور التقدمي في البلاد، ولهذا نلح على التعجيل في إنشاء سائر المشاريع الإنتاجية الأخرى. ولهذا ندعو إلى وضع تخطيط شامل للإنتاج والتوزيع في قطاع الدولة (في المعامل المؤمنة وفي المؤسسات والمشاريع التي أنشأتها الدولة بوسائلها مباشرة).
ولهذا ندعو إلى سياسة مدروسة تجاه البرجوازية الصغيرة وسائر الفئات المتوسطة (صغار التجار وصغار المنتجين) لانتزاعها من نفوذ البرجوازية الكبرى فتتخذ موقف ود (أو على الأقل موقف حياد) تجاه التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية. ولهذا ندعو إلى إطلاق الحريات النقابية للعمال، وتأمين تمثليهم تمثيلاً ديمقراطياً في قيادات نقاباتهم واتحاداتهم وفي لجان المعامل، ومعالجة أوضاع العمال الذين أجورهم قليلة، وتأمين سكن رخيص وأدوية رخيصة للعمال وسائر الجماهير الشعبية، وتخفيض أسعار السكر والسيكارات دون زيادة أعباء الدولة وذلك بضغط النفقات غير الضرورية.
ولهذا ندعو إلى الاهتمام بمطالب صغار الفلاحين، والفلاحين العاملين عند كبار الملاكين دون تمييز بينهم، وتأمين البذار والقروض بفائدة زهيدة للفلاحين المنتفعين بالإصلاح الزراعي وجميع الفلاحين الكادحين.
ولهذا ندعو إلى تطهير جهاز الدولة بحزم وسرعة.
ولهذا ندعو إلى علاقات تضامن وإخاء بين القاهرة ودمشق وبينهما وبين جميع الدول العربية المتحررة للتعاون ضد مؤامرات الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
ولهذا ندعو إلى توثيق علاقات الصداقة والتعاون مع بلدان المعسكري الاشتراكي وقوتها الرئيسية الاتحاد السوفيتي.
ولهذا، أخيراً، ندعو إلى تحقيق اتحاد جميع القوى التقدمية، وإلى توسيع قاعدة الحكم ودعمه بعناصر تمثل مختلف الاتجاهات الاشتراكية، والفئات والحركات الوطنية التقدمية، وذلك لتعبئة جميع الطاقات للدفاع عن الاستقلال الوطني وتعزيزه، وانجاز المهمات الكبرى التي تجابهها البلاد.
تلك هي المطالب والمهمات الرئيسية التي يناضل حزبنا الشيوعي اليوم في سبيلها. فهل بينها مهمة واحدة أو مطلب واحد يمكن أن يوصف بأنه مطلب “تمليه” اعتبارات ضيقة “حزبية” أو “رغبات شخصية”؟.
هل يكفي جهاز الدولة، بما فيه أجهزة القمع، لصون المنجزات التقدمية والسير نحو الاشتراكية
ان امتلاك مقاليد السلطة الفعلية في البلاد، بما فيها أجهزة القمع على اختلافها قد يكفي (وقد برهنت التجربة في سورية وغيرها من البلدان العربية والبلدان الآسيوية والأفريقية المتحررة التي انتهجت طريق التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة أنه فعلاً يكفي) لإحباط مقاومة الرجعية ومؤامرات الاستعمار أو، على الأقل، لشلها، فهو ضروري، لحماية المنجزات والتحولات التقدمية التي تمت، ولكنه لا يكفي ابداً أو مطلقاً لحل المهمات الاقتصادية والاجتماعية التي تجابهها البلاد، والتغلب على الصعوبات الكبرى، الموضوعية منها و”الذاتية” أو” المصطنعة” (أي الناشئة عن الجهل أو الغرور أو قلة التجربة وعن سلوك المخربين والمرتشين والوصوليين وسائر الأعداء المتسترين في جهاز الدولة) هذه الصعوبات المتعددة المعقدة التي تثيرها نفس التحولات التقدمية التي بوشر بها.
هذا شيئ عام جداً نقوله بصراحة لجميع الرفاق البعثيين اليساريين، وخصوصاً لجميع الذين في أيديهم مقاليد السلطة الفعلية في الدولة.
نقول ذلك عن قناعة كاملة، وفي ذلك نتفق اتفاقاً تاماً مع الكثير والكثير جداً من الرفاق الطيبين المخلصين في الحركات والفئات التقدمية الأخرى التي هي خارج الحكم.
ان الطلب إلى التقدميين والطامحين حقاً وصدقاً إلى الاشتراكية بالاقتصار على ذكر المنجزات ودعمها ومدحها ونشر الدعاية لها، هو على الأقل “قصر نظر” وهو، على كل حال، بمثابة مطالبتهم بالتخلي عن دورهم كقوة تقدمية، ثورية تناضل فعلاً في سبيل الاشتراكية.
صحيح تمت في سورية تحولات عميقة وهامة: الإصلاح الزراعي، تأميم البنوك والمعامل الكبرى، إقامة إشراف الدولة على التجارة الخارجية.. الخ.. وهي تحركات ضربت مواقع الاقطاعية والبرجوازية الكبرى، وجعلت سورية العربية في الصف الأول من البلدان المتحررة السائرة في طريق التقدم الاجتماعي.
ولكن من الواضح ان البرجوازيين الكبار، والاقطاعيين لم يخلعوا بعد، تماماً ونهائياً، فلا يزال لديهم مواقع هامة (ظاهرة ومستترة) ليس في مختلف ميادين الحياة الاقتصادية فحسب، بل وفي الحياة السياسية ايضاً (في جهاز الدولة، في مختلف المنظمات السرية وشبه العلنية .. الخ).
ولكن حتى لو فرضنا أنهم خلعوا تماماً من مواقعهم فهم مع ذلك لا يستسلمون ولا يكفون عن المقاومة بل يجمعون قواهم ويستعدون لاقتناص أية فرصة مؤاتية بأمل استعادة سلطانهم المفقود.
وإذا كان من المسلم به أن وسائل القمع تبقى ضرورية لمدة طويلة من أجل تحطيم مقاومتهم، فهي على كل حال لا تكفي وحدها للقضاء نهائياً على هذه المقاومة كما أن جهاز الدولة بمجموعة لا يكفي لذلك.
وهل في التاريخ مثال على خلع طبقة كبار ملاكي الأراضي وكبار الرأسماليين أعمق وأشمل وأعنف من مثال ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا؟ كلا! ومع ذلك فلنسمع كلمات لينين التالية غداة ثورة اكتوبر (وهي كلمات نرى من المفيد ترديدها دائماً) كتب لينين: “لقد هزم المستثمرون وغلبوا على أمرهم ولكنهم لم يزولوا، فقد بقيت لديهم القاعدة الدولية، وبقي لديهم الرأسمال الدولي الذي يؤلفون فصيله منه، وبقي لديهم جزئياً بعض وسائل الإنتاج وكذلك بقي لديهم المال كما بقيت لديهم علاقات اجتماعية واسعة وجسيمة، وبنتيجة هزيمتهم نفسها، تعاظمت لديهم همة المقاومة مئة مرة بل ألف مرة”.
هذا كلام أعظم وأقوى وأشمل ثورة اشتراكية بين الثورات التي عرفها التاريخ، وأوسعها شعبية وأكثرها جذرية وأكثرها تمتعاً بتأييد جماهيري فعلي وفعال بل شامل وكاسح!!.
صحيح ان هناك فرقاً هاماً يميز الوضع الآن عن الوضع اذ ذاك. فاليوم ليست البرجوازية الكبرى المخلوعة في سورية وغيرها هي وحدها التي لديها “قاعدة دولية” وصلات دولية وتأييد دولي، بل ان القوى المناضلة في سبيل الاشتراكية أيضاُ في سوريا وغيرها أصبح لديها تأييد دولي وصلات دولية و”قاعدة دولية” عظيمة تتمثل بالدرجة الأولى في المنظومة الاشتراكية العالمية.
ولكن من الخطأ الجسيم الاستنتاج من ذلك بأن الأمور ستجري من نفسها على ما يرام، وان التحولات التقدمية ستؤدي إلى الاشتراكية بشكل عفوي أو فقط بفعل جهاز الدولة (هذا اذا فرضنا ان جهاز الدولة كله وبمجموعه يؤيد هذه التحولات وهو كلام بعيد جداً عن الواقع في ظروف سورية).
ان النضال ضد مقاومة البرجوازية الكبرى وكبار ملاكي الأراضي وضد محاولاتهم للعودة إلى سلطانهم السابق، ليس نضالاً “زجزياً” أو “قمعياً” فقط، بل هو نضال سياسي واقتصادي شاق جداً. ومتنوع حداً. هو نضال سياسي: لأنه يتطلب تعبئة جماهير الشعب، وبالدرجة الأولى جماهير العمال والفلاحين الفقراء، من أجل النضال، لا ضد مؤامرات الاستعمار والرجعية فقط (فربما كان ذلك أسهل نضال لأنه واضح الهدف، ولأنه مفهوم ومقبول من أوسع الجماهير الشعبية)، بل كذلك وخصوصاً ضد التراجع أمام المصاعب، ضد هبوط المعنويات، ضد الشكوك في المستقبل، وفي سبيل ادراك ماهية المصاعب وأسبابها، وأساليب التغلب عليها. وهو نضال اقتصادي، لأنه كذلك يتطلب تعبئة الجماهير، وبالدرجة الأولى جماهير العمال والفلاحين الفقراء، في سبيل تنفيذ التدابير الاقتصادية التي من شأنها أن توجه التطور الاقتصادي العام في اتجاه غير رأسمالي، اذا صح التعبير، أي في اتجاه يقطع الطريق على تطور الرأسمالية في المدينة والريف، ويدعم وينمي ويرسخ المقدمات اللازمة لتحويل وطننا إلى بلد اشتراكي.
كيف تتطور بنية الاقتصاد السوري وما هي مهمات القوى التقدمية في هذا الميدان؟
لننظر إلى الوضع العام في بلادنا بروية وهدوء: نحن طبعاً عندما ننظر إلى الوضع، لا نؤخذ بالنواحين والبكائين. فكل تحول اجتماعي عميق لابد أن يخلق مثل هؤلاء الناس الذين ينادون بالويل والثبور أمام كل صعوبة، وكل عثرة، كذلك لا ننطلق حتى من تلك الشكاوي الحقة الصاعدة من أوساط الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين الصغار والفقراء، رغم أن هذه الشكاوى لا تستهدف طبعاً الرجوع إلى الوراء، إلى الماضي، بل هي انعكاس موضوعي أمين لطموح الجماهير الشعبية إلى نجاح الوضع الجديد، إلى نجاح التجربة التقدمية التي بوشر بها، انما ننطلق فقط من تحليل البناء الاقتصادي كما يتطور واقعياً منذ المباشرة بتطبيق التحولات التقدمية.
فهل أزيلت الملكية الكبرى في الريف، كلا! وهل هي إلى زوال حتى لو تم تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي بحذافيره؟ كلا! أما الذين يستفيدون من الإصلاح الزراعي الآن فليسوا دائماً – وربما ليسوا غالباً – لا الفلاحين المحرومين من الأرض ولا الفلاحين الفقراء. ورغم أن المنتفعين بالإصلاح الزراعي لا يحق لهم بيع الأراضي التي أحرزوها، فإن الأرض لا تزال بوجه عام بضاعة تباع وتشترى. واذا كان هناك عدد من الجمعيات التعاونية التي تهتم بشؤون الأرض والبذار للفلاحين أو بشؤون التسويق، فليس في الريف السوري حتى الآن تعاونية انتاجية واحدة. أي بكلمة، ان التطور الحالي في الريف إذا استمر كما هو، فإنه مع ابقائه على الملكية الكبيرة (أي الحد الأعلى الذي لا يصيبه الإصلاح الزراعي) سيؤدي حتماً (بل هو يؤدي الآن عملياً) من جهة إلى توسيع وتقوية طبقة البورجوازية الريفية (أي طبقة أولئك الذين يملكون أرضاً واسعة نسبياً ويشغلون عليها عمالاً زراعيين بالأجرة) ومن جهة أخرى إلى ابقاء بل واتساع طبقة العمال الزراعيين والفلاحين الفقراء أو المحرومين من الأرض.وقد يقال ان المساحات التي سيرويها سد الفرات ستؤمن الأرض لهؤلاء الفلاحين الفقراء والمحرومين بتاتاً من الأرض. ولكن حتى لو صح ذلك، فإنه لا يغير من الاتجاه العام للتطور الاجتماعي والاقتصادي في الريف الذي هو تطور للعلاقات الرأسمالية. فالنضال الطبقي في الريف، اذا استمر التطور في اتجاهه الحالي، ليس متجهاً إلى الزوال، بل إلى التفاقم والاحتدام.
أما الإنتاج الصناعي، فرغم ان اقطاع الدولة (بما فيه القطاع المؤمم) هو السائد فيه، فلا يمكن القول ان هذا القطاع قد أصبح القطاع القائد والموجه والحاسم في الإنتاج الصناعي مادام هذا القطاع على وضعه أي مادام بدون تخطيط شامل وكامل. وما دام يسير بشكل عفوي، ومادامت إدارته تؤثر فيها (أحياناً إلى حد كبير) عوامل وعناصر معادية للتحويلات التقدمية وساعية جهدها لعرقلة تكوين المقدمات الضرورية للسير نحو الاشتراكية.
ان السير نحو الاشتراكية لا يتم فقط بانتزاع وسائل الإنتاج الرئيسية من البرجوازية الكبرى وجعلها ملكاً للدولة، بل لابد أيضاً من جعل الإنتاج فعلاً تحت إشراف الشعب وفي مصلحة الشعب، ولابد ايضاً (وهذا شيء كثيراً ما يغيب عن أذهان القوميين التقدميين كما تدل تجربة العديد من البلدان المتحررة التي سارت في طريق التحولات الاجتماعية والاقتصادية) ان يكون توزيع المنتجات تحت مراقبة الشعب وفي مصلحة الشعب، اي بكلمة :
أن يكون هناك مخطط شامل للإنتاج والتوزيع تحت مراقبة الشعب وفي مصلحة الشعب.
أما الآن، في سورية، فلا يصح ذلك على الإنتاج والتوزيع لا في قطاع الدولة، ولا في القطاع الخاص بطبيعة الحال. بل ان منتجات القطاع العام (سواء في ذلك المعامل المزمعة أو مؤسسات الدولة للتجارة الخارجية) يتحكم في توزيعها نفر من كبار الوسطاء، من كبار الرأسماليين الذين يجمعون ارباحاً خيالية (ربما أكثر من الأرباح التي كانوا يجنونها في الماضي) على حساب الدولة وصغار التجار والشعب بأسره. ولا تزال البورجوازية المتوسطة (الصناعية والتجارية) على قسط كبير من القوة. وقد جاء في إحصاءات (أو على الأصح تقديرات) المصادر الحكومية الرسمية في أوائل عام 1966 (أي بعد مرور سنة على عملية التأميم الكبرى وسنوات على المباشرة بالإصلاح الزراعي) ان الدخل القومي في سورية يتألف من الشكل التالي: 30 بالمئة منه تقريباً من القطاع العام، و70 بالمئة منه تقريباً من القطاع الخاص، ولم يتغير طبعاً أي شي أساسي في هذه اللوحة ساعة كتابة هذه السطور، أي خلال الأشهر الستة التي انقضت من عام 1966م.
وإذا كان من المسلم به لدى جميع التقدميين سواء أكانوا داخل الحكم أو بخارجه، ان ليس من الممكن، الآن ولمدة طويلة، الاستغناء عن نشاط الفئات المتوسطة سواء في الصناعة أو التجارة، وبالتالي لا يفكر أي تقدمي في انتزاع ملكيتها أي في تأميم معاملها وورشاتها ومخازنها ودكاكينها، فإن ذلك لا ينفي ان من الواجب ان يسير التطور الاقتصادي بشكل لا يسمح بأن تعود بعض الفئات أو العناصر فنحتل المكان الذي كانت تحتله البرجوازية الكبرى.
أي بكلمة: لا مصادرات جديدة، لا تأميمات جديدة، ولكن في الوقت نفسه لا مكان لبرجوازية كبرى جديدة، وهذا لا يتم بالقمع، ولا بالدعاية، بل بقوة الشعب على أساس خطة اقتصادية شاملة مدروسة.
وقد كتب لينين، غداة ثورة اكتوبر، حول المهمات الملحة الموضوعة أمام روسيا إذ ذاك فقال: “لقد غلبت البرجوازية عندنا على أمرها ولكن لم تتم تصفيتها بعد، فهي لم يقضى عليها تماماً، بل حتى لم تحطم تماماً، ومع هذا توضح منذ الآن على جدول الأعمال صيغة جديدة، صيغة أعلى، للنضال ضد البرجوازية، فمن المهمة الأبسط التي هي متابعة مصادرة الرأسماليين، ينبغي ان ننتقل إلى مهمة معقدة أكثر وشاقة أكثر وهي: خلق الظروف التي لا يمكن للبرجوازية فيها لا ان تعيش ولا ان تتكون من جديد. ومن المؤكد ان هذه المهمة هي أعلى بكثير. ومادامت هذه المهمة لم تنجز، فليس هناك اشتراكية”.
فنحن، التقدميين جميعاً، ينبغي ان تكون المهمة، في سورية، واضحة أمامنا تماماً، وهي: الحد تدريجياً من علاقات الإنتاج الراسمالية، وإبراز وتوطيد علاقات الإنتاج غير الرأسمالية، أو الحد تدريجياً من العناصر الرأسمالية (أو العناصر التي هي بطبيعتها مناخ طبيعي لنشوء الرأسمالية وتطورها). وتقوية وتطوير العناصر غير الرأسمالية، العناصر التي بطبيعتها تتطور نحو الاشتراكية.
ويكون ذلك في الريف بتمليك الأرض للفلاحين الفقراء المعدمين والسعى لتكوين تعاونيات انتاجية تقوم على أساس الاختيار والرضى وبدون قسر وتصبح تدريجياً القطاع السائد والموجه في الإنتاج الزراعي، ويكون ذلك في المدينة: أولاً: بتوسيع قطاع الدولة في الصناعة، وإقامة رقابة شعبية على الإنتاج والتوزيع وفقاً لمخطط كامل شامل. وثانياً: بتحرير العلاقات بين مؤسسات الدولة وصغار التجار والمستهلكين من كبار الوسطاء الرأسماليين.
ثالثاً: بإعادة تنظيم النشاط المصرفي بشكل جذري حتى يصبح أداة لتوجيه النشاط الاقتصادي ضد مواقع البرجوازية وضد خطر تكونها من جديد من جهة، وفي مصلحة السير نحو الاشتراكية من جهة أخرى.
هذه المهمات الكبرى المعقدة، السياسية والاقتصادية، هل يمكن حلها بواسطة القمع وحده؟ هل يمكن خلق الاندفاع بين الجماهير الشعبية ومحاربة اللامبالاة، أو الشكوك، وهبوط المعنويات، بواسطة القمع؟ هل يمكن “خلق الظروف التي لا يمكن للبرجوازية فيها لا أن تعيش ولا ان تتكون من جديد” بوسائل القمع فقط؟.. هل يمكن إدارة معمل مؤمم إدارة صحيحة مثمرة بأساليب القمع والزجر؟ هل يمكن بناء تعاونية انتاجية في الريف بواسطة القمع؟ ثم احصاء الإنتاج والتوزيع، وتأمين إشراف شعبي عليهما، – وهي مهمة أولية ورئيسية علق عليها لينين أهمية كبرى كتمهيد للتخطيط الكامل الشامل للإنتاج والتوزيع- هل يمكن تحقيقها بواسطة القمع؟.. هل يمكن، بكلمة، إزالة علاقات الإنتاج الرأسمالية وإحلال علاقات الإنتاج الاشتراكية محلها فقط بوسائل القمع والزجر، طبعاً لا!
ان الطريق هو النشاط الخلاق للجماهير الشعبية، وخصوصاً جماهير العمال والفلاحين الفقراء والمعدمين، الذين هم أصحاب المصلحة العميقة المباشرة في انتصار الاشتراكية في وطنهم.
الفرق بين دور الجماهير الشعبية في الثورات البورجوازية القديمة والثورات الشعبية الحديثة!
ان الاعتقاد بأن دور الجماهير الشعبية والقوى التقدمية يقتصر على محاربة مؤامرات الاستعمار والرجعية، أو – في أحسن الحلات- يقتصر على دعم ما يجري من تدابير اقتصادية واجتماعية، والعمل على تنفيذ ما تقرره الفئات العليا أو الحاكمة هو تفكير عتيق لا يأتلف مع المهمات التي تضعها الحركات الاجتماعية العميقة في عصرنا.
وقد بين لينين الفرق بين دور الجماهير الشعبية، في الثورات البورجوازية القديمة وفي الثورات الشعبية الحديثة، فكتب ما يلي: “في الثورات البورجوازية كانت المهمة الرئيسية للجماهير العاملة ان تقوم بعمل سلبي أو تهديمي أي: القضاء على الإقطاعية، على النظام الملكي، على أساليب القرون الوسطى. أما العمل الإيجابي، الخلاق، الهادف إلى تنظيم المجتمع الجديد فكانت الاقلية المالكة، الأقلية البورجوازية من السكان، هي التي تقوم به، ورغم مقاومة العمال والفلاحين الفقراء، كانت تقوم بهذه المهمة بيسر وسهولة نسبية ليس فقط لأن مقاومة الجماهير المستثمرة من قبل الرأسمال كانت إذ ذاك ضعيفة إلى أقصى حد، بسبب تعثرها وانعدام ثقافتها، بل كذلك لأن القوة الرئيسية المنظمة للمجتمع الرأسمالي القائم على الفوضى، هي السوق الوطنية والدولية التي تمتد اتساعاً وعمقاً بشكل عفوي.
“وعلى العكس من ذلك، فالمهمة الرئيسية التي ينبغي أن تقوم بها الطبقة العاملة والفلاحون الفقراء الذين تقودهم هذه الطبقة، في كل ثورة اشتراكية.. هي عمل ايجابي أو عمل خلاق يقوم على إقامة نظام معقد ودقيق إلى أقصى حد من العلاقات التنظيمية الجديدة التي تشمل انتاجاً وتوزيعاً منظمين للمنتجات الضرورية لحياة الملايين من الناس. ويمكن ان تتم ثورة مثل هذه بنجاح فقط بشرط أن تبدي أكثرية السكان أنفسهم. وقبل كل شئ أكثرية الكادحين، نشاطاً خلاقاً تاريخياً.
أن الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء إذا وجدوا أنفسهم مقداراً كافياً من الوعي ومن التعلق بمثلهم الأعلى ومن التفاني ومن الصلابة، فعندئذ فقط يكون انتصار الثورة الاشتراكية مضموناً”. (من مقال كتبه لينين في آذار- نيسان 1918، المؤلفات الكاملة، الطبعة الروسية، المجلد 27 الصفحات 207-246).
كيف يمكن تعبئة طاقات الجماهير الشعبية في سوريا؟
هذا النشاط “الخلاق” للجماهير الشعبية، هذا النشاط “التاريخي” الذي لا بد منه لانتصار النضال في سبيل التحويل الاشتراكي للمجتمع، كيف يمكن اشعاله، وتنظيمه، وتوجيهه؟ هل تستطيع ذلك في سورية فئة واحدة أو حزب واحد حتى ولو كانت مقاليد السلطة في الدولة بين يديه؟
ان التجربة السورية نفسها قد بينت، بل هي تبين كل يوم، ان مثل هذا الرأي غير واقعي ولا يطابق ظروف سورية الملموسة الموضوعية.
لقد تكونت في سورية، تاريخياً أحزاب وفئات تقدمية متعددة أصبح لها جذورها في الجماهير، وكل محاولة لتجاهل هذا الواقع هي جهد عقيم. وقد قلنا ذلك مراراً ونكرره لأن الحياة نفسها لا تدحض هذا الرأي بل تعطي دائماً دلائل جديدة عليه.
لنأخذ الوضع، مثلاً، في الحركة النقابية، أي بين جماهير العمال: أليس من الواضح تماماً أن هناك عدة تيارات تقدمية بين العمال وهي جميعها تدعم التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهي جميعها تناضل في سبيل الاشتراكية وهي جميعها جماهيرية لها أنصارها بالألوف؟
ومادام الواقع كذلك، فلماذا اغماض العين عنه؟ وهل تجدي في طمس هذا الواقع تلك المحاولات الرامية إلى عدم السماح ببروز هذه التيارات عن طريق التمثيل الديمقراطي والانتخاب الحرفي قيادات النقابات وفي جميع الهيئات العمالية الأخرى؟
أليس الطريق الصحيح نحو شحذ حماسة الطبقة العاملة وتعبئة طاقاتها الخلاقة، هو الاعتراف بالواقع والسعي لجمع صفوف العمال ولتحقيق وحدة الحركة النقابية ووحدة الطبقة العاملة على أساس التمثيل الديمقراطي حول أهداف معروف لا خلاف عليها بينهم؟
وهل الوضع بين جماهير الفلاحين في الأرياف يختلف عن ذلك؟ .. كلا! لا يختلف قطعاً! وبين المثقفين الثوريين، أليس الوضع هو أيضاً كذلك؟ ان انطلاقنا من مصلحة البلاد العليا، من مصلحة توطيد وترسيخ التحولات التقدمية، يدفعنا لأن نهيب بجميع اخواننا التقدميين سواء أكانوا داخل الحكم أو خارجه، ان يأخذوا بعين الاعتبار واقعاً موضوعياً لا يمكن تغييره لا بالمراسيم ولا بوسائل القمع ولا بوسائل الدعاية، وهو: ما من فئة أو حزب في سورية العربية يستطيع لوحده لا أن يعبئ الجماهير الشعبية وخصوصاً العمال والفلاحين الفقراء- الذين هو القوة الرئيسية في عملية تحويل المجتمع تحويلاً اشتراكياً- ، ولا أن يحل المهمات السياسية والاقتصادية الكبرى “التعاون” بين جميع القوى التقدمية بدوء استثناء. وكما أن التجربة برهنت ان رفض الجبهة أو اللقاء أو التعاون لا يؤدي ولا يمكن أن يؤدي إلى “اجتتاث” الآخرين أو “امتصاص” أحد! نحن من جهتنا لا نرمي إلى ابتلاع أحد، ولكننا كذلك لا نسمح لأحد بابتلاعنا. ونحن كذلك لا نخشى ابداً أن يؤدي هذا اللقاء أو هذا التعاون (أو هذه الجبهة)، خلال العمل المشترك في سبيل نجاح التجربة التقدمية إلى ارتفاع وزن هذه القوة التقدمية أكثر من وزن تلك القوة التقدمية الأخرى.
وينبغي أن يقتنع اخواننا البعثيون اليساريون وأنصارهم جميعاً ان اقتراح “جبهة وطنية تقدمية” أو “لقاء القوى التقدمية” في سورية لا يرمي بأي وجه من الوجوه الانتقاص من دورهم. اننا، من وجهتنا، نريد أن يرتفع وزن جميع القوى التقدمية المؤمنة بالاشتراكية. لماذا؟ .. لأنها إذا كانت مخلصة للاشتراكية، وإذا وضعت اخلاصها للاشتراكية فوق كل اعتبار آخر وبرهنت ذلك عملياً خلال نشاطها.. فما هو السبب، ما هو المبرر، للخوف من ازدياد قوتها؟ .. بل أليس الأقرب إلى الصواب عندئذ أن يتمنى الجميع أن يريدوا تقريب تلك الساعة التي يؤدي فيها العمل المشترك وتعاظم الثقة المتبادلة ان اندماج جميع القوى التقدمية المؤمنة بالاشتراكية في حركة واحدة تهتدي بهدي الاشتراكية العلمية التي يزداد كل يوم، في كل الحركات التقدمية، عدد المعترفين بأنها الاشتراكية الحقيقية وإن تباينت طرق السير إليها حسب الخصائص القومية والظروف الموضوعية في كل بلد.
الجبهة أو اللقاء بين القوى التقدمية ودور الطبقة العاملة
ان مثل هذه الجبهة أو مثل هذا التعاون بين القوى التقدمية، اذا كان من الواجب ان يكون طويل الأمد، لا وقتياً، وإذا كان يهدف فعلاً إلى توفير المقدمات الضرورية لتحويل سورية إلى بلد اشتراكي فيجب أن يكون من أهدافه السياسية الرئيسية تأمين الدور القيادي للطبقة العاملة المتحالفة مع الفلاحين الفقراء في عملية التحويل الاشتراكي، لماذا؟ لأنه إذا كان من ميزات عصرنا ان فئات عديدة غير بروليتارية، غير عمالية، أخذت تطمح إلى الاشتراكية بل وتؤمن بها وتسعى باخلاص إلى تحقيقها، فان ذلك لا ينفي ابداً أن الطبقة العاملة هي الطبقة التي تحمل الاشتراكية في قلبها. وما من طبقة أخرى يمكن تحل محلها في هذه المهمة. فقد تسير فئات أخرى خطوات هامة بل خطوات كبرى في طريق التحول التقدمي للمجتمع، ولكن الطبقة الوحيدة المرتبطة مصلحتها، بشكل تام كامل لا تردد فيه، بمصلحة انتصار الاشتراكية انتصاراً تاماً كاملاً هي الطبقة العاملة. فكل فئة سياسية يتحدد دورها ويتقرر مصيرها خلال التطور العام ليس على أساس اخلاصها أو عدم اخلاصها للاشتراكية بشكل مجرد، بل على أساس سيرها أكثر فأكثر نحو تبني ايديولوجية الطبقة العاملة، ايديولوجية الاشتراكية العلمية، وعلى أساس سيرها تنظيمياً وجماهيرياً أكثر فأكثر نحو التحول إلى فصيلة فعلية (لا أسمية) من الفصائل الطليعية للطبقة العاملة. وهل يمكن ان يحدث مثل هذا التطور لدى القوى والحركات الاشتراكية غير الشيوعية؟ أجل يمكن! وقد برهنت التجربة ذلك في العديد من الأقطار.
ولهذا نقول نحن أن دور الحزب الشيوعي في كل تطور تقدمي هو دور أساسي ولكن ليس بالضرورة دوراً قيادياً، فقد تكون القيادة خلال مرحلة في أيدي جبهة أو أي شكل من أشكال التعاون، ثم قد يتطور الأمر إلى قيادة موحدة تتألف من جميع العاملين فعلاً وعن وعي وادراك على أساس الاشتراكية العلمية.
تلك هي مميزات عصرنا، عصر انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
الحريات الديمقراطية وتنظيم السلطة التشريعية والتنفيذية على أسس ديموقراطية شعبية
ان المستعمرين والرجعيين ينظرون إلى المصاعب التي تجابهها سورية فيدغدغهم الأمل بأن يهترئ الوضع من نفسه، بفعل مصاعبه وتناقضاته الداخلية، وان يؤدي ذلك إلى الحط من قيمة فكرة الاشتراكية لا في سورية فقط بل على النطاق العربي والنطاق الآسيوي الافريقي بأسره.
غير ان لدى شعب سورية العربية طاقات عظيمة قادرة على إحباط حسابات الاستعمار والرجعية.
والوسيلة الناجعة لتعبئة هذه الطاقات وشحذها هي، كما جاء في قرارات الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري المنعقد في حزيران 1966، ان تكون الحريات الديمقراطية على أوسع مدى في متناول الجماهير الشعبية وجميع القوى التقدمية، وأن يستند الحكم إلى تعاون واسع بين هذه القوى التقدمية جميعها، وأن يجري تنظيم السلطة التشريعية والتنفيذية على أسس ديمقراطية شعبية تسمح للعمال والفلاحين وسائر الكادحين بأن يقولوا كلمتهم في جميع شؤون بلادهم، أي بعبارة أخرى ينبغي أن يتطور الحكم شكلاً ومحتوى، بصورة تجعل من الممكن أكثر فأكثر اشتراك العمال والفلاحين وسائر الكادحين في توجيه سياسة البلاد العامة وفي الإشراف على شؤون الدولة. وهنا يضع بعض اخواننا التقدميين، من مختلف الاتجاهات، هذا السؤال: وكيف يتم ذلك؟ هل عن طريق الانتخاب؟ ونحن نجيب: ولم لا ؟.. فإذا تضافرت جميع القوى التقدمية في هذا الانتخاب، وإذا تم تنظيم هذا الانتخاب بشكل يقطع الطريق على ممثلي الرجعيين وجميع المستثمرين، ويفتح الطريق لتمثيل العمال والفلاحين وجميع الوطنيين التقدميين تمثيلاً ديمقراطياً صحيحاً، فأي ضير من مثل هذا الانتخاب، بل ألا يكون هذا الانتخاب خطوة فعالة في سبيل تعبئة طاقات الشعب، وشحذها، للتغلب على المصاعب وإيجاد الحلول وتطبيقها؟
ان التجربة التقدمية الجارية في سورية يجب ويمكن ان تبرهن على حيويتها ثم على تفوقها خصوصاً من الناحية الاقتصادية، وهذا لا يتم فقط ببناء مشاريع جديدة مهما كانت حيوية ومهما كانت عظيمة (كسد الفرات مثلاً) بل يتم ذلك، بالدرجة الأولى بتضافر الجهود من أجل تعبئة قوى الجماهير الشعبية، وخصوصاً جماهير العمال والفلاحين الفقراء في سبيل بناء الحياة الجديدة(1).
(1) خالد بكداش، حركة التحرر الوطني والنضال في سبيل الاشتراكية، صـ 31-53
انظر:
النص الرسمي للبلاغ الصادر عن أعمال المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969
صحيفة النهار 1972: بكداش يؤكد حدوث الإنشقاق في الحزب الشيوعي السوري
رسالة خالد بكداش إلى الكتلة الوطنية في سورية عام 1937