مقالات
ميشيل عفلق :الأرض والسماء
الأرض والسماء .. من مقالات ميشيل عفلق عام 1944
لا مفر من هذا التعبير «الأرض والسماء» حتى بعد أن أفرغ من محتواه الديني. وليس أقرب إلى الحقيقة من هذا التضاد بين عالمين، ما هو وقتي عارض فان، وما هو جوهري دائم. للعالم، للفنان، أرضه وسماؤه. الأرض هي مطالب الجسم ولذات الحياة اليومية ومشاغلها. والسماء هي مطالب العقل والروح، ولذات الحياة العليا وواجباتها. هذه السماء لا تبلغ الا بتضحية الارض، وخسارة الارض على الارض معناها عذاب الجحيم. وفي هذا الجحيم ومن خلال لهيبه ترمق العين وتستشف أفياء الخلود.
لو كان الإفراط في اللذة وطلب الرفاهية وحب متع الحياة هو الذي يبعد السماء عن الإنسان لهان الأمر، لأن المفرطين قليلون، وشروط الإفراط غير سهلة ولكن البلية ان أكبر خطر يعرض سماء الإنسان الى الضياع، وأكبر حائل يقف بينه وبينها هو مطالب حياته المعتدلة وسعادته المشروعة، وكل ما تنزع اليه الطبيعة السليمة ويأمر به العقل وتوافق عليه الأخلاق، النصيب المشروع من الراحة والرفاهية والحرية والحب والصداقة. ذلك لأن السماء غير طبيعية ولا معقولة، ولان لها أخلاقها الخاصة.
للحياة قوانين، بينها وبين القوانين الطبيعية هذا الفرق الجوهري، قوانين الطبيعة تستكشف مرة واحدة، وقوانين الحياة يجب على كل فرد أن يستكشفها في حياته من جديد.
من هذه القوانين: أنه لا ربح بلا خسارة، ولا ربح الا على قدر الخسارة، الى حد ان الذي يقبل بأن يخسر كل شيء يستطيع وحده ان يأمل بالربح الأكبر.
أبعد الناس عن فهم الحياة، هم الذين يعتقدون بإمكان التوفيق بين النقيضين باستطاعة المرء أن يربح من غير خسارة، ان يصعد الى السماء وقدماه لاصقتان بالارض. إذا صح ذلك فلأن هذه السماء التي يقصدونها حقيرة الى حد ان المرء يتناولها وهو قاعد، كاذبة زائفة يربحها بخدع القمار.
وهناك وهمان يجب ان يبددا، الأول ان نحسب السماء تبلغ بلا مشقة، والثاني حسبان المشقة وحدها موصلة الى السماء، أو أنها هي السماء. الوهم الأول أشاعه غرور بعض الفنانين او ذهولهم، فقد كتموا كل العذاب الذي قاسوه حتى امتلكوا قياد فنهم، او ان عذوبة الفن لطفت من مرارة العمل الفني، وجمال القمة انساهم وعورة الطريق الذي سلكوه لبلوغها. صحيح انه لا يبلغ السماء الا من وهب جناحان وقدرت له مواهب أساسية، ولكن ما لا يقل عن ذلك صحة ان هذه المواهب لا تظهر الا اذا أصغى المرء الى ندائها، وصم أذنيه عن جلبة العالم الخارجي ومغرياته وسهولاته، ووزن المسؤولية التي تفرضها وقبل بها، وجرد لها من قوة الإرادة ما تقتضي. الجناحان يطيران بك اذا رميت كثيرا من أحمالك حتى يستطيعا حملك، واذا رضيت بكثير من الضغط او المقاومة اللازمة لحملهما، المصير العظيم لا يعني انك ستكون عظيما الا اذا تحملت عبء العظمة.
والوهم الثاني هو ان نحسب مجرد تحمل المشقة الكبيرة دليلا على المصير الكبير، وفي هذا ما يضل عن الغاية ويغري باتخاذ الوسيلة بدلا منها. فبعد ان كانت وعورة الطريق واسطة لبلوغ القمة تصبح هي الشغل الشاغل، ويستحيل العمل رياضة وبهلوانية، كل النفوس التي تزهد للزهد، وتخاطر حبا بالخطر وتنزوي ارتياحا الى الإنزواء، هي نفوس بهلوانية لا مثالية. كذلك الذين يحاكمون هذه المحاكمة: اذا كانت السماء وعرة الطريق، فكل طريق وعرة توصل اليها. تلك هي العقول القاصرة.
ان المشقة محتومة ولكنها ليست مرغوبة، ومن الواجب التغلب عليها حتى تخف وتختفي. عندئذ يصبح الذي يضحي بالأرض دون أن يشعر بألم التضحية عائشاً في السماء، او ان الارض لديه تستحيل سماء.
عام 1944
انظر مقالات ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
القومية حب قبل كل شئ | 1940 |
القومية قدر محبب | 1940 |
في القومية العربية |
1941 |
نفدي العراق | 1941 |
ذكرى الرسول العربي | 1943 |
التفكير المجرد | 1943 |
واجب العمل القومي |
1943 |
الإيمان |
1943 |
المثالية الموهومة |
1943 |
المثالية الواقعية |
1943 |
المعركة الانتخابية الأولى |
1943 |
حول الاعتداء على استقلال لبنان | 1943 |
الجيل العربي الجديد | 1944 |
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة