في مساء يوم الخامس والعشرين من تموز 1939 أوقف الدرك الفرنسي في دمشق أمام منزل رئيس مجلس المديرين بهيج الخطيب عدداً من الأشخاص المسلحين القادمين لإغتيال بهيح الخطيب(1).
صحيفة القبس نشرت خبراً عن الإغتيال في العدد الصادر في الثامن والعشرين من تموز، جاء فيه: (في مساء يوم 25 تموز 1939 أوقف الدرك الفرنسي في دمشق أمام منزل رئيس مجلس المديرين لسوريا عدداً من الأشخاص المسلحين القادمين لإغتيال سعادة بهيج بك الخطيب، وأوضح التحقيق بسرعة أن هذا الاغتيال لم يكن سوى العمل الأول من مؤامرة إرهابية تنطوي على اغتيالات للضباط الفرنسيين والعائلات الفرنسية في دمشق، وقد قام الدرك الفرنسي بعمل سريع حازم أدى إلى إحباط المؤامرة، وبما أن هذه الحوادث تتعلق في الدرجة الأولى بالنظام والسلامة العامة فقد تلقت المحكمة العسكرية بدمشق أمراً بفتح التحقيق وأدى هذا التحقيق إلى تأكيد النتائج التي أسفر عنها التحقيق الأول وأوضح أن هناك منظمة واسعة النطاق يديرها عادل العظمة الملتجئ إلى العراق غايتها السعي لإثارة حركة ثورية باستخدام عصابات مسلحة يقودها محرضون أجانببي)(2).
كما تناول أكرم الحوراني في مذكراته حادثة الإغتيال فكتب تحت عنوان: (محاولة اغتيال بهيج الخطيب)، ما يلي:
(كنت والأستاذين سعيد الخاني وعلي عدي الوحيدين من أعضاء اللجنة العليا في قيادة حزب الشباب المطلعين على التنظيم السري الثوري الذي كان يتولاه الأستاذ عثمان الحوراني الذي اقتراح علينا في اجتماع خاص العمل لإشعال نار الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، لأنها السبيل الوحيد للتوحيد والتحرير. وأخبرنا أن العراق على استعداد لمؤازرة سوريا في ثورتها المسلحة المنتظرة، وأن فوزي القاوقجي سيقود هذه الثورة، وأن السلاح العراقي المعد لها مخبأ في اللجاة والصفا. وينبغي البدء باغتيال الخونة والضباط الفرنسيين، فتندلع الشرارة ثم تعم الثورة سوريا الشمالية والجنوبية معاً فيهب الشعب العربي لمكافحة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني.
سألت الأستاذ عثمان : هل الوقت مناسب يا ترى لإشعال هذه الثورة، لاسيما وأن فرنسا تعتبر سوريا جبهة رئيسية في الحرب المقبلة، وهي تعد لها في سوريا منذ الآن؟! فأجاب:
عند اللزوم فإن الجيش العراقي مستعد للتدخل ومؤازرة الثورة، قلت:
ومن هم الأشخاص الذين سيبدأ باغتيالهم كمقدمة للثورة؟
قال:
بهيج الخطيب وكبار الضباط والمدنيين الفرنسيين، وانتهى الاجتماع بالاتفاق على الفكرة، وتولى الأستاذ عثمان مسؤولية التنفيذ.
وبعد مضي أقل من شهر تقريباً، كنت جالساً في مقهى فندق أبي الفداء مع عثمان الحوراني وسعيد الخاني، فأتى من أخبر الأستاذ عثمان سراً نبأ فشل محاولة اغتيال بهيج الخطيب، فغادرنا الفندق في الحال وأمنت للأستاذ عثمان مفتاح منزل قريب لبيتنا، خال وأمين، ليختبئ فيه ريثما نهيئ هربه للعراق. وذكرته بأن رفيقنا وقريبنا حسين الشقفة يمكن أن يتولى تهريبه ثانية للعراق عبر البادية الشمالية.
ولما خيم الليل سهرت مع الأستاذ عثمان في ذلك البيت الأمين إلى ساعة متأخرة، وعندما غادرته إلى بيتنا لم يغمض لي جفن، لأنني كنت مقدراً أن نهايته هي الموت المحقق إذا تمكن الفرنسيون من القبض عليه، كما كنت أخشى أن يعترف أحد المعتقلين تحت التعذيب فيذكر علاقتي بالتنظيم.
وفي الليلة التالية تولى حسين الشقفة أمر تهريب عثمان إلى العراق، بسيارة علي جمران الذي كان تجمعنا به صداقة ومودة قديمة.. وفيما كان الأستاذ عثمان يصل إلى العراق بأمان عن طريق الصحراء كانت قوى الأمن “تكبس” بيته وبعض البيوت الأخرى في حماه.
لم نعرف عن وقائع المحاولة سوى اعتقال رفاقنا الذي قاموا بها وهم علاء الدين الحريري والشيخ يوسف السفراني وأحمد نايف العلواني وحافظ الباشا، أما الحاج عبد الكريم الفنير فقد هرب قبل وقوع المحاولة، ثم نشرت “القبس” في 27 تموز 1939 نبأ فشل المحاولة واعتقال رفاقنا، بالإضافة إلى اعتقال نجيب الريس صاحب “القبس” ونجيب الفرا..
وبعد أقل من شهر اعتقل رفاقنا علي عدي وسعيد الخاني وزكريا زينو ورامي الصابوني، وبقينا نجهل أسباب اعتقالهم سوى تقديرنا بأن رفاقنا المعتقلين قد اعترفوا بالتنظيم تحت التعذيب الشديد.. ثم أجرت المخابرات العسكرية الفرنسية التحقيق مع رفيقنا أدهم عكاش وأطلقت سراحه لعدم علاقته بالقضية.
أما المعتقلون الآخرون فقد نقلوا إلى سجن المزة، واشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية في الثالث من أيلول 1939 دون أن نعرف من أخبارهم شيئاً إلا ما كانت تنشره الصحف أحياناً من بيانات رسمية كالبيان الرسمي التالي الذي نشرته “القبس” في 28 نيسان 1940:
في مساء يوم 25 تموز 1939 أوقف الدرك الفرنسي في دمشق أمام منزل رئيس مجلس المديرين لسوريا عدداً من الأشخاص المسلحين القادمين لإغتيال سعادة بهيج بك الخطيب، وأوضح التحقيق بسرعة أن هذا الاغتيال لم يكن سوى العمل الأول من مؤامرة إرهابية تنطوي على اغتيالات للضباط الفرنسيين والعائلات الفرنسية في دمشق، وقد قام الدرك الفرنسي بعمل سريع حازم أدى إلى إحباط المؤامرة، وبما أن هذه الحوادث تتعلق في الدرجة الأولى بالنظام والسلامة العامة فقد تلقت المحكمة العسكرية بدمشق أمراً بفتح التحقيق وأدى هذا التحقيق إلى تأكيد النتائج التي أسفر عنها التحقيق الأول وأوضح أن هناك منظمة واسعة النطاق يديرها عادل العظمة الملتجئ إلى العراق غايتها السعي لإثارة حركة ثورية باستخدام عصابات مسلحة يقودها محرضون أجانب.
وكشف التحقيق أيضاً عن أن زعماء هذه الحركة كانوا يتلقون الأوامر من دوائر الدعاية الألمانية، وأن الأوامر التي أعطيت من قبل هؤلاء الرؤساء شرعت تتخذ تدريجياً شكلاً واضحاً محتم التنفيذ تبعاً لتحرج الحالة الدبلوماسية في أوربا.
وهكذا أحيل 27 شخصاً، منهم 11 فارون، إلى المحكمة العسكرية بدمشق بتهمة التآمر ضد سلامة الدولة الداخلية، وبينهم 7 وجهت إليهم فضلاً عن ذلك تهمة محاولة اغتيال سعادة بهيج بك الخطيب، وبعد المحاكمات لفظت المحكمة بتاريخ 11 نيسان بالإجماع حكمها بالإعداد على سبعة أشخاص، منهم اثنان فاران حوكموا بجرم محاول اغتيال، وحكمت على الآخرين أحكاماً تتراوح بين 5 و 29 سنة بالسجن. وقد ميز المحكمون بالإعداد أحكامهم إلى محكمة التمييز العسكرية التي تدرس اضباراتهم في الوقت الحاضر”.
أما الذين حكموا بالإعدام وجاهياً فهم رفاقنا: علاء الدين الحريري ويوسف السفراني وحافظ الباشا وأحمد نايف العلواني بالإضافة إلى أحمد البارافي من حي الأكراد بدمشق. وصدر حكم الإعداد غيابياً بحق عثمان الحوراني وجميل العلواني الذي قمنا بتهريبه أيضاً إلى العراق، بمساعدة رفيقنا عثمان العلواني الذي كان من دعائم حزب الشباب ومن أعضاء لجنته العليا.
لم يعد بوسعنا إلا إعداد الوفود من حماه ومن كافة المدن السورية الأخرى لمراجعة المسؤولين والضغط لإصدار عفو عن جميع المعتقلين السياسيين، بهذه القضية وسواها، لاسيما وقد أصبح عددهم كبيراً جداً.
وكان لمراجعات هذه الوفود أثرها في صدور العفو عن المعتقلين السياسيين، بعد أن أنزلت محكمة التمييز حكم الإعداد على رفاقنا إلى السجن المؤبد. وقد صدر قرار العفو في 25 أيلول 1940م.
حدثنا رفيقنا علاء الدين الحريري بعد ذلك عما جرى لهم، فقال:
“كلفنا الأستاذ عثمان الحوراني، باسم تنظيم الشباب، القيام باغتيالات تشمل العملاء والشخصيات الفرنسية، لتكون منطلقاً لثورة مسلحة تعم البلاد، وسألنا: هل أنتم مستعدون للتنفيذ؟ فأظهرنا له استعدادنا. فقال: إن ثمة أخوانا لكم في دمشق سوف يشتركون معكم بتنفيذ هذه المهمة، فذهبنا إلى دمشق نحن الأربعة مزدين بكتاب منه إلى الأستاذ جميل العلواني، الموظف بديوان محكمة التمييز بدمشق، وهو من ثوار عام 1925، سلمناه الكتاب فأرسلنا إلى بائع دخان في سوق علي باشا لمقابلة شخص هناك يدعى أحمد البارافي، وهو من ثوار 1925 ومن أبناء حي الأكراد بدمشق، وبعد أن تعرفنا عليه اجتمعنا في اليوم الثاني بمنزل البارافي للمداولة والشروع بالتنفيذ، وقد اقترح بعض الموجودين في الاجتماع البدء باغتيال الدكتور الشهبندر ففوجئنا بهذا الاقتراح. فنحن قادمون لإغتيال بهيج الخطيب والضباط الفرنسيين ولم يدر بخلدنا اغتيال الدكتور الشهبندر ولما جوبهوا بالتحذير والرفض، أحرجوا وتراجعوا فوراً فوافقوا على اغتيال بهيج الخطيب والضباط الفرنسيين. وزودونا بمسدسات أوتوماتيكية، وأرفقونا بشخصين (خالد القنواتي، ومرعي) من أقرباء البارافي بحي الأكراد لإرشادنا إلى بيت بهيج الخطيب ورصده.
وبعد أن تم وضع المخطط والاتفاق على كل شيئ توجهت في الموعد المحدد ليلاً مع خالد القنواتي إلى قرب بيت الخطيب، كما أتى الشيخ يوسف السفراني وبصحبه مرعي في الموعد المحدد للتنفيذ أيضاً، وبعد قليل اعتذر مرافقي باضطراره للذهاب لمقابلة أحد أصدقائه، فذهب ولم يعد. فتوجهت إلى البستان الذي اتفقنا على أن يكمن فيه رفاقنا المسلحون فلم أجد منهم سوى حافظ الباشا واقفاً قرب اللأسحة المعدة لنجدتنا. فسألته عن الآخرين فقال إنه لم ير أياً منهم، وقد لاحظنا أننا مرصودون فانسحبنا إلى بستان مجاور ففوجئنا بحوالي أربعين مسلحاً من قوى الأمن فانسحبنا إلى حي الأكراد حيث تلاقينا في بيت البارافي. وهناك علمنا منه أن الشيخ يوسف السفراني قد اعتقل أمام بيت الخطيب نتيجة لوشاية مرافقه مرعي. وأن جميل علواني أخبر بالأمر وهرب، وفي اليوم الثاني ألقي القبض على حافظ الباشا وعلي أثناء خروجي من منزل البارافي. وقد تعرضنا لألوان من التعذيب لا تخطر على بال، ثم أودعنا سجن المزة.
والذي ظهر فيها بعد أن بعض المشتركين الآخرين كانوا على اتصال بالمخابرات الفرنسية بواسطة عمر شمدين آغا زعيم حي الأكراد. وكان البارافي المعتقل معنا شاهداً علينا، وقد برأته المحكمة فيها بعد. وهو الذي تسبب باعتقال رفاقنا الآخرين: سعيد الخاني وعلي عدي ورامز الصابوني وزكريا زينو.
وقد خروجنا من السجن سمعنا نبأ اغتيال الدكتور الشهبندر فقلت في نفسي: لقد نجحت المحاولة الثانية التي اشترك بها رجال الكتلة والفرنسيون بعد أن أخفقت محاولتهم الأولى معنا” (أنتهى كلام علاء الدين الحريري).
من آثار محاولة اغتيال بهيج الخطيب
لم يكن جميل العلواني آنذاك من رفاقنا، والظاهر أنه كان مخدوعاً. ثم انضم إلى حزب الشباب بعد رجوعه إلى حماه إثر صدور العفو عنه.
كان لهذا الحادث أثر بالغ في سوريا عامة وفي حماه خاصة. ولم يطلع الناس على ملابساته إلا فيما بعد، ولكن ردود فعله كانت ذات أثر إيجابي بليغ دلت على جرأة الشباب والتزامهم اخلاصهم للقضية، وقد تعرف اخواننا في السجن على عدد من رجال السياسة من الرعيل الأول وخرجوا من السجن أكثر تجربة وخبرة.
لم يكن جميل العلواني آنذاك من رفاقنا، والظاهر أنه كان مخدوعاً. ثم انضم إلى حزب الشباب بعد رجوعه إلى حماه إثر صدور العفو عنه.
وقد نفى الأستاذ عثمان الحوراني فيما بعد علمه بنوايا بعض المشتركين الذين حاولوا توجيه العملية لإغتيال الدكتور الشهبندر، وأكد أنه منعاً لكل التباس أوصى الشباب قبل ذهابهم إلى دمشق بأن لا يكونوا أداة منفذة طيعة بيد الآخرين، ويجب أن يكون لهم رأيهم المستقل حيال ما يطلب منهم تنفيذه.
كان لهذا الحادث أثر بالغ في سوريا عامة وفي حماه خاصة. ولم يطلع الناس على ملابساته إلا فيما بعد، ولكن ردود فعله كانت ذات أثر إيجابي بليغ دلت على جرأة الشباب والتزامهم اخلاصهم للقضية، وقد تعرف اخواننا في السجن على عدد من رجال السياسة من الرعيل الأول وخرجوا من السجن أكثر تجربة وخبرة)(3).
(1) صحيفة الجامعة الإسلامية- يافا، العدد 1548 الصادر في يوم الجمعة الثامن والعشرين من تموز عام 1939م.
(2) صحيفة القبس- دمشق، العدد الصادر في يوم الجمعة الثامن والعشرين من تموز عام 1939م.
(3) الحوراني (أكرام)، مذكرات أكرم الحوراني، الجزء الأول.