وثائق سوريا
مذكرة جلال السيد إلى حافظ الأسد عام 1971
المذكرة التي أرسلها جلال السيد إلى الرئيس حافظ الأسد عام 1971م(1).
نص المذكرة
قال العرب: ان كلمة حق في حضرة سلطان جائر أفضل من جهاد سبعين سنة. كما قالت : يعجبني من الرجل اذا سيم خطة الخسف ان يقول لا، بملء فيه.
وليس في هذا القولان مبتدعين ولا محدثين انما هما تعبير عن الخلق العربي الأصيل، تضاف إلى ذلك نزعة إلى التوجيه نحو هذا الخلق.
ونحن قد قلنا كلمة الحق من قبل، يوم كان في البلاد سلطان جائر، فكيف لا نقولها اليوم والتأكيدات تتوالى من الحكام بتحقيق الحرية والكرامة للمواطن وفسح المجال له كي يعبر عن أحاسيسه ومشاعره وعما يختلج في ضميره. وإذا كان في أقوالنا من قبل بعض المخاطرة، فإن قناعتنا انه ليس فيها اليوم مثل تلك المغامرة. وبروح المواطنة والصميمية والنصح الأخوي وللتنفيس عن رغبات الشعب والافصاح عن مراميه، فإننا قد قررنا ان نعرض عليكم ما يأتي:
ونحن لن نكلفكم شططاً ولن نطلب اليكم امراً لا تستطيعون تحقيقه، انما سنقتصر في مطالبنا على ما هو داخل ضمن امكاناتكم واختصاصاتكم.
فنحن لن نطلب اليكم تحقيق الوحدة العربية، لأن ذلك خارج عن امكاناتكم وحدكم، فهناك اطراف أخرى يتوجب عليها الاشتراك والمساهمة لتحقيق هذا الهدف. كما اننا لن نطلب اليكم الغاء الوجود الاسرائيلي الدولي، لأن ذلك ليس في مستطاعكم اليوم، والأمر يحتاج إلى تضامن العرب كلهم، وبذل الجهود العظمى.
ولسنا نطلب منكم تفجير عيون النفط من الأرض، ولا ارسال المطر مدراراً من السماء، لتحسين اقتصاد البلاد لأن أمور من خصائص الاله.
وكل ما نطلب منكم تحقيقه هو ما يأتي:
ان حركتكم في تشرين الثاني عام 1970، التي قضيتم بها على عهد كان قائماً في سوريا، كانت بدوافع شرحتموها في بياناتكم. وقد تعهدتم صراحة وضمناً بتبديل الشكل الذي كان العهد يقوم عليه. وتعيتم على ذلك العهد أموراً، فكان من البديهي الا تستمر تلك الأمور، والا فقدت الحركة أسبابها.
1- لقد أخذتم على العهد السابق عزلته العربية. ولا شك في أنكم قمتم ببعض التحركات الدالة على محاولة الانطلاق من هذه العزلة. فالمناخ بين لبنان سوريا طرأ عليه بعض التحسن. كما أن العلاقات بين سورية وكل من الأردن والسعودية مالت قليلاً نحو التحسن، لكنها بقيت في اطار من الشكوك والحذر. والمواطن السوري لا يقف في تطلعه القومي عند هذه الحدود من العلاقات العربية، بل أنه يرغب في المزيد منها.
كما أن العلاقات السورية – العراقية لم يطرأ عليها تبديل يذكر، مع أن المفروض ان تكون العلاقات بين هذين البلدين على أحسن شكل. فالتشابك الاجتماعي والصلات البشرية والمصالح الاقتصادية تدفع إلى تحسين العلاقات. يضاف إلى هذا ويؤكده ان القطرين يحكمهما نظام حزبي واحد. واذا كان هناك اختلاف في الاجتهاد والتغريع بين جناحي الحزب، فإنه لا ينبغي أن يكون بينهما خلاف على الأمور الأساسية والقضايا القومية. والشعب في سوريا لا يعرف تماماً السر في دوام هذه الجفوة ولا التفسير لمثل هذه القطيعة. والقطران متكاملان جغرافياً وتاريخياً وقومياً ومصيرياً.
أما العلاقات بين سوريا والأقطار العربية الأخرى في المشرق والمغرب، فانها تكاد تكون مجمدة، أي أن ما كان على العهد الماضي استمر في عهدكم الجديد.
2- وأخذتم على العهد الماضي عزلته الداخلية. فهل قمتم بتبديل هذه العزلة وأجريتم عملية انفتاح على المواطنين جميعاً، كما نصت على ذلك بياناتكم وتصريحاتكم؟ الواقع أن العزلة الداخلية مستمرة. أما ما يذاع في المناسبات المختلفة عن تأليف جبهة وطنية فانه نوع من التخدير أو هو نوع من التظاهر بالاستجابة لرغبات المواطنين. ذلك أن الجبهة كثيراً ما توصف بأنها تقدمية. وأن كلمة “تقدمية” أصبحت اصطلاحاً خاصاً وتعبيراً عن فئات معينة. وليس القصد منها التقدمية اللغوية الحقيقية. فالاصطلاح يخرج الأكثرية الساحقة من المواطنين عن نطاق هذه الجبهة. وهل هناك منصف أو مواطن سليم الاحساس والمنطق يرضى أن تكون أكثرية الشعب السوري العربي غير تقدمية، وأن التقدمية لا تنطبق الا على عناصر معينة هي التي أسبغت على نفسها صفة التقدمية وأسبغت على سائر المواطنين كلمة “الرجعية”. وهل هناك في سوريا أنا غير تقدميين سدوا آذانهم واغمضوا عيونهم وكبلوا عقولهم حتى لا يروا تيارات النهضة والتقدم في العالم وليبقوا هم في معزل عنها وخارجين عن نطاقها. والواقع أن الشعب السوري كله تقدمي وخارجين عن نطاقها. والواقع ايضاً أن الشعب السوري كله تقدمي بالمعنى الصحيح وان اتهام الاكثرية منه بالرجعية جريمة وطنية واعتداء صارخ على المواطنين. وأن المصلحة الوطنية والقومية تفرض علينا أن يكون الانفتاح شاملاً يعم كل الفئات والطبقات، وفالظرف الدقيق الذي تمر به الأمة العربية لا يسمح بالوقوف طويلاً عند الخلافات الجزئية والفرعية أو النظريات المجردة. ما دامت هنالك خطوط عريضة يلتقي فيها المواطنون، فانه يجب أرجاء البحث في التفصيلات إلى أن تزول المحن، ويسترد الشعب العربي حقوقه وكرامته.
والدليل على أن الانفناح الذي قمتم به كان ضيقاً ومحصوراً في بيئات صغيرة، تلك الحكومات التي الفتموها بعد حركتكم، كذلك مجلس الشعب الذي عينتموه تعييناً. واذا كانت فلسفتنا الدائمة هي اعتبار النبل والتسامي والسلامة هي الأصل في تركيب أمتنا العربية، وأن ما نراه من انحرافات وأخطاء لم تكن الا ركاماً سطحياً وغباراً طارئاً يمكن ازالته بشئ من الصقل والحك لاعادة النفس العربية إلى اصالتها، اذا كانت فلسفتنا هذه تحول دون الطعن في مجلس الشعب أو في أعضاء الحكومات، فأن هذه الفلسفة لا تمنعنا من القول ان هذه الحكومات ومجلس الشعب مؤلفة من عناصر معينة، ولم تكن ممثلة لجميع طبقات الشعب وعناصره المختلفة. واذا كنا نحترم أعضاء مجلس الشعب والحكومات بصفتهم مواطنين أعزاء علينا، فإنه لا يسعنا ونحن نسجل حقائق التاريخ القومي والأخلاقي ان نعتبرهم ممثلين حقيقيين للشعب.
ومن هنا ان الشعب الذي رحب بحركتكم قد أخذ يعيد النظر في هذا الترحيب، أو قل أنه أخذ يشك في فائدة الحركة، مادامت لم تحقق له أبسط ما كان يرجوه، وهو الانفتاح. والشعب يفهم بقطرته وعقله ان حكم الشعب الذي أشرتم اليه، انما يعني الحكم الديموقراطي. وهذا يستلزم أن يكون ممثلو الشعب من صنع الشعب لا من صنع الحكام. ولا أكتمكم أن الشعب قد أصيب بخيبة أمل مريرة بعد تأليف الحكومتين في عهدكم وبعد تعيين مجلس الشعب.
3- وكان وعدكم باطلاق الحريات أكبر ما حمل الشعب على الاندفاع في سبيل تأييد حركتكم. فهل تحقق وعدكم هذا؟
أ- هنالك سجناء بسبب أفكارهم السياسية، وهم بين محكوم من قبل محكمة هي أقرب إلى المحاكم السياسية، وبين محتجز بلا محاكمة. وهؤلاء شبان ينتمون إلى أحد أجنحة حزب البعث العربي. ومن العقوق للحزب أن يبقى هؤلاء في السجن، ومن العقوق للعدالة أن يبقى سواهم في السجن.
ب- وهنالك مبعدون عن وطنهم ، وهم يعيشون تحت كل كوكب في بلاد العرب، وفي سواها من أقطار العالم. ولم يسمح لهؤلاء المبعدين بالعودة إلى وطنهم. ومن عاد منهم، فإنه ابقي في السجن ولم يزل أسيره. وأظن أن كل هذه الوقائع تثبت بلا جدل أن الوعد بحرية المواطن لم يتحقق. وهؤلاء المبعدون يؤلفون نسبة كبيرة من السوريين، ولاسيما في ميادين العلم والمال. فالطبقة المثقفة وأساتذة الجامعات وكبار الساسة، أكثرهم غادر الوطن السوري، وحتى اليوم لم يسمح له بالعودة.
4-ولقد وعدتم بي بياناتكم بوضوح، ما بعده وضوح، بأنكم ستحترمون كرامة المواطن. وكرامة المواطن هي الحلقة الثانية في سلم التسلسل، اذ يجب أن يسبقها عيش المواطن. وكيف يستطيع الجياع والمعوزون أن يحتفظوا بكرامتهم الا من عصم الله، وكان في عداد القديسين، وهم قلة في كل زمان ومكان.
وهناك عدد كبير من المواطنين صودرت ممتلكاتهم واستولت الدولة على أسباب رزقهم ومعيشتهم. وكان الأمل معقوداً على حركتهم بأنها ستفرج فوراً عن هذه الأموال المصادرة، لإنقاذ أصحابها من الفقر والذل ومن الشعور بأنهم أصبحوا منبوذين لا يتويهم الوطن ولا يحنو عليهم مواطن، ممن في يديه أزمة الحكم. وحتى هذه الساعة لم تجنحوا إلى الغاء هذه المصادرات، وهي من النقاط التي سجلتموها على العهد السابق باعتبارها نوعاً من التسلط والفردية، التي ورد ذكرها بارزاً في البيانات. وكيف يسمح الوطني لنفسه، بل كيف يسمح انسان يحترم نفسه ويحترم الإنسان، بأن يلقى في خضم العوز مواطنين له أو زملاء في الإنسانية على الأقل. وهلا يخطر على بال الحاكم ان الفاقة والجوع والعوز قد تجور بالإنسان على دروب الانفة وعزة النفس، وتوصله إلى ممارسة أمور ليست في مصلحة الكرامة والأنفة، مما لا يرضاه لولا الجوع. وهلا نكون نحن بهذا الأسلوب قد حملنا المواطن على انتهاج المسالك البعيدة عن الانفة والاباء؟
5- ولقد وعدتم بالعدالة. فهل تعلمون ان قانون الإصلاح الزراعي في بعض السورية، من حيث هو تطبيق لا من حيث هو تشريع، دمر بيوتاً كريمة، وحطم عناصر قومية عربية، كانت لها في ماضيها القريب والبعيد مواقف في الدفاع عن الوطن والعروبة قل نظيرها في تاريخ هذا الوطن؟ وهل تعرفون لجنة الاعتماد وما صنعته لجنة الاعتماد في المناطق الشرقية والشرقية الشمالية من الوطن السوري، وهل بلغكم ان العروبة فيها قد تقلص ظلها، وانحسر وجودها، وخبا تألقها، وتجمد نشاطها أمام التيارات الشعوبية، بسبب ما صنعته لجنة الاعتماد، التي حرمت العرب من أسباب رزقهم، فسلبتهم أرضهم وقلمّت أظفارهم، وجعلتهم هياكل بلا أرواح وأشباحاً بلا حياة؟
ان الواجب القومي والمصلحة الوطنية والمشاعر الانسانية، كل هذه تفرض على السلطات الواعية والمقدرة لمسؤولياتها التاريخية ان تطرح في تلك المناطق شعار القومية قبل شعار الاشتراكية. ولابد لمن يوطن نفسه على القيادة والتصدر لمعالجة شؤون الشعب أن يقدر الأمور قدرها ويضع العلاج النافع لكل داء. وان تعميم العلاج على كل الأمراض هو الفشل في عملية التداوي. فما يصلح في دمشق قد لا يصلح للجزيرة مثلاً. والحصيف من يرى ذلك. وليس في دمشق صراع عرقي ولا تيارات شعوبية، كما هي في الجزيرة، فيجب اتخاذ العلاج الخاص بكل منهما. مع العلم ان اعتبار القومية أولاً لا يمنع الاشتراكية ثانياً.
والخلاف هو حول معنى واحد، الا وهو أن تكون الاشتراكية في سبيل القومية لا العكس. ونحن في بدء تشكلنا القومي قد نضحي بالاشتراكية، او نرجئ تطبيقها إلى وقت آت. ولكن لا تصح التضحية بالقومية ولا بشكل من الاشكال من أجل تحقيق الاشتراكية. فالاشتراكية ملكنا يوم يتكامل وجودنا القومي، أما القومية فليست ملكنا في حال تحقيق الاشتراكية. وفي الجزيرة والمناطق الشرقية عامة مأساة قومية، فإذا لم يتداركها عقلاء القوم، فإن النتيجة سوف تكون نكبة قومية تضاف إلى النكبات القومية التي منيت بها الأمة العربية في تاريخها الحديث.
وان حسن تطبيق قانون الاصلاح الزراعي في تلك المناطق، وان روح الانصاف التي ترشح من نفوس الحكام، كفيلة بتدارك الكارثة القومية التي يلوح شحبها في أفق الوطن. والذي يبدو من سلوك الدولة الظاهر أنها غير مقدرة لهذه الحقائق التي نتحدث عنها، اذ أن صفة عدم الاكتراث هي السائدة، وان الاستهتار هو الذي يضرب أطنابه في هذه القضية. ونحن لا نميل إلى التضخيم والتهويل، بل نحن سقنا هذه المسألة بمنتهى البساطة، بل بالإشارة فقط، لأننا لا نريد التشويش وخلق الاضطرابات.
6- ورد في بيانكم كلمات الانفراج، أو ما يعني الانفراج. وان عدداً من المواطنين كبيراً يرزح تحت كابوس ديون متراكمة للمصارف المؤممة، وهؤلاء المواطنون هم من العناصر النشيطة في الإنتاج الزراعي خاصة. وقد أصبحوا مشلولين بسبب هذه الديون. ومن الناحية النفسية هبطت معنوياتهم وغمرتهم أمواج التشاؤم واليأس. ومن الناحية المادية، حرموا من العمل الزراعي، لأن المصارف لم تعد تمولهم بسبب ديونهم المتراكمة، كما تنص على ذلك القوانين التقليدية السطحية المطبقة في الوطن. وان اللجوء إلى معالجة هذه القضية والافراج النفسي والعملي عن هؤلاء المدينين، سوف يكون كفيلاً بإطلاق الإنتاج من عقاله، وسوف يعود هؤلاء المواطنون إلى ممارسة جهودهم ونشاطهم المتصاعد مما يعود عليها خاصة، وعلى الوطن كله، بالنفع الكبير.
وليس من المهم ان نعود بالتساؤل عن أسباب تراكم هذه الديون، فنحن لسنا في صدد تحديد المسؤولية أو معرفة المسؤولين، انما نحن في صدد معالجة داء عضال. ولسنا نريد القول ان التأميم هو الذي جمد هذه الديون ، ولو بقيت المصارف للشركات لكان للمدينيين معهم موقف يعالج مرضهم هذا، بالإضافة إلى رداءة المواسم ومحاربة الطبيعة وتراكم الفوائد من عهد الوحدة بين الجمهورية المتحدة والقطر السوري. وليس من المستحيل ايجاد الحلول لهذه القضايا.
7- جمود الوضع. كانت بياناتكم تبشر بتبديل عميق في الوضع السالف. ولكن الذي حدث هو استمرارية ذلك الوضع، ويمكن سوق بعض الشواهد على ذلك:
أ – أن موجة الغلاء في البلد ازدادت عنفاً بدلاً من ضعفها. واذا كانت هناك ظروف قاهرة للغلاء فإن الحكومات ذات الكفاية والمقدرة والجدية تستطيع بما تملك من تحرك رشيق ورأي حصيف ان تتغلب على أكثر أسباب الغلاء. وان فقدان المواد التموينية قد ينسب إلى رداءة موسم الإغنام وضآلة منتجاتها في بعض المناحي، لكن الحذق وحسن العلاقة مع الدول الأجنبية والعربية يسهلان استيراد ما يحتاج إليه البلد.
وأنكم تعلمون ان العالم كله يكاد يصبح اليوم بلداً واحداً من حيث التكامل والتساند والتعاضد، ولاسيما في مرافق الحياة العامة.
ب- التحيز الحزبي: ان كل المواطنين في نظر الحزبيين هم مواطنون من الدرجة الثانية، هذا في أحسن الأحوال. على أن جماهير كثيرة من الشعب في نظر هؤلاء الحزبيين هم عملاء ومتآمرون ورجعيون، ولا شأن لهم في الوطن ولا مكان. وهذه النظرة هي نظرة العهد السابق بكل أبعادها. وهذا يعني أن التصافي والاخاء والتواثق هي أمور لم يمكن تحقيق شي منها في عهدكم، مما أوحى إلى المواطنين بأنه لم يحدث التبديل المرتجى.
ج- ولا تزال النغمة القديمة مستمرة، من حيث اعتبار بعض الدول العربية تقدمية، واعتبار بعضها الآخر رجعية، وان التعاون السوري لا يمكن أن يتم الا مع الدول التقدمية. ويبرز هذا المعنى أجهزة الاعلام من اذاعة وصحف وتلفزيون. والشعب لا يدري ان كان هنالك لدى الحكام رأى آخر يختلف عن هذا الذي تبرزه أجهزة الاعلام.
د- بقايا العهد السابق لا تزال تتحكم في جهاز الدولة. والتلاعب لم ينقطع في الأموال. والاستغلال والانتهاز مستمران.
صحيح ان عهدكم قد قام ببعض التدابير الصارمة، فأحال عدداً من المتلاعبين بأموال الدولة والجمعيات التعاونية على القضاء، وعزل عدداً من المسؤولين، لكن ذلك كان على نطاق ضيق، بالقياس إلى ما يجب عمله.
وعلى العموم، ان التبديل الذي حدث كان سطحياً ومحدوداً. فالعقلية لم يطرأ عليها تبديل، والعنجهية الحزبية بقيت كما كانت، والشفاعات والمحسوبيات لم تنقطع.
8- قانون الإدارة المحلية. ان هذا المشروع قديم، ولم يخرج إلى حيز الوجود الا في عهدكم هذا. ومن المهم أن الفت نظركم إلى أن هذا القانون ليس في مصلحة الوطن. ويمكن القول أنه سابق لأوانه. واذا لم يكن تماسك وتلاحم وتراص في الوطن، فان مثل هذا القانون يصبح مضراً إلى أبعد حدود الضرر. وأنتم تعلمون ان التراص والتماسك والتلاحم ليست على درجة ترضي ضمائر الوطنيين الأحرار. والقانون سيؤدي إلى زيادة في التفكك والتمزق والتشرذم. ولا أكتمكم ان الشعب لا يصدق ان هذا القانون هو من عمل مجلس الشعب، أو أنه سينشر بموافقة مجلس الشعب. والرأي العام قانع بأن مثل هذه الاجراءات ليس لها الا مصدر واحد هو شخصكم. ولو أجريتم استفتاء حراً، لعلمتم ان الرأي العام غير متاح الى هذا القانون باستثناء نفر يسير في ركابكم وركاب كل من يتولى السلطة. وهذا النفر لا يعتد برأيه، ولا يصلح أن يكون مقياساً. ولست أريد أن أدخل في معالجة مطولة، انما أكتفي بالتخليص الذي رأيتموه.
ولقد عدت إلى التحليل النفسي لأرى ما هو الحافز الذي دفعني إلى كتابة هذه المذكرة إليكم، فعلمت ان الحافز بقايا أمل في نفسي بأنه يمكن اجراء الاصلاح الذي يحقق للمواطن كرامته وحريته. ولو كان هذا الأمل منقطعاً ما قامت هذه المحاولة. فعسى أن تتخذوا كل الاجراءات التي تحيي الأمل في النفوس، وذلك بإصدار العفو العام عن السجناء السياسيين وعن المبعدين، وأن تلغوا المصادرات الجارية في حق كل المواطنين، وباجراء تسوية للدين، وتطبيق وطني انساني سليم لقانون الاصلاح الزراعي، ثم الالحاح على المناحي القومية وتفضيلها على كل المناحي الاخرى، ولاسيما في المناطق الخاضعة لتيارات شعوبية.
ان الاشتراكية هي نعمة العصر الحديث في العالم، وفلا خوف عليها ولا خوف منها. ونحن يمكننا ان نطبق ما يتلاءم مع مصالحنا القومية في ظرفنا الراهن هذا. وأبو الاشتراكية “لينين” قد قال بوجوب مراعاة الزمان والمكان عند تطبيق الاشتراكية. وليس من المنطق أن نخسر أرضنا وقوميتنا وتراثنا في بعض المناطق السورية بحجة تطبيق الاشتراكية، ذلك التطبيق الخاطئ الذي لا يحقق مصلحة، ولا يغني ولا فئة من المواطنين.
وماوتسي تونغ جمد شعار التحرر الاجتماعي وأطلق شعار التحرر الوطني، وتعاون مع خصومه عندما وقع الغزو الياباني على الصين. وان بلاد العرب محتلة اجزاؤها من قبل اسرائيل، فليكن شعارنا تحرير الوطن. فشعار التحرر الاجتماعي يزيد اليوم في تمزيق العرب، اذ ان هناك اقطاراً عدة لا ترضاه، والشعار الجامع هو القومية العربية.
(1) الوثيقة التي وجدت بين أوراق جلال السيد لا تحمل تاريخ محدد لهذه المذكرة، وبحسب بعض أفراد أسرته انها أرسلت بعيد استلام حافظ الأسد السلطة عام 1971م، ولكن يبقى هذا التاريخ غير مؤكد.
انظر:
جلال السيد: ميشيل عفلق يتحدث عن صلاح البيطار
جلال السيد: ما هي علاقة زكي الأرسوزي بـ”حزب البعث”؟
انظر ايضاً:
وثائق وبيانات سورية 1900 – 2000