بطاقات بحث
نضال البعث – حركة البعث العربي
نضال البعث – الجزء الأول (3) حركة البعث العربي
في هذه الظروف التاريخية المحلية والعربية والدولية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الدقيقة والصعبة ظهرت حركة “البعث العربي” وطرحت شعارها الأساسي “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.
لقد كان ظهورها نتيجة مواجهة صادقة وصريحة لهذه الظروف كلها. انها لم تتسلح منذ البدء بنظرية نضالية جاهزة ولكنها انطلقت من ارث تجربة حركة الاستقلال العربي والوحدة العربية، ومن تحليل موضوعي لتجربة النضال الوطني في سوريا منطلقها الجماهيري “الشعبي”، ومن متابعة التراث العالمي منطلقها الاشتراكي. وهي في هذا كله لم تكن منفعلة بل كانت متطلعة دوماً إلى بناء نظرية نضالية من خلال تحليل الواقع وممارسة النضال من خلال معارك مستمرة ضد جميع القوى المعادية لتحرر الجماهير العربية ولتقدمها ولوحدة كيانها القومي. ولقد توصلت من خلال هذا كله إلى أن تطرح في منطلقات حركة “البعث العربي” القضايا الأساسية للثورة العربية التي ما تزال حتى يومنا هذا تشكل المطلب الفوري والعاجل والمباشر لجماهيرنا العربية في مواجهة التحديات المصيرية المفروضة عليها. وان استمرار الحزب والدور المتعاظم الذي لعبه في دفع حركة التحرر الوطني العربية إلى الأمام واعطائها افاقها الاشتراكية منذ أكثر من ربع قرن، والمسؤوليات الجسيمة التي يتحملها في المرحلة الراهنة في قيادة حركة الثورة العربية ومواجهة التحديات التي تتعرض لها، كل هذا أكد صحة منطلقاته.
ان حزب البعث العربي الاشتراكي الذي هو اليوم احدى الفصائل الأساسية من فصائل الثورة العربية، ليس استمراراً لحركة”البعث العربي” كتجربة نضالية تعلب دورها السياسي فحسب، وانما هو أيضا بالمقدار نفسه، يمثل في منطلقاته الفكر الثورة العربي في حركته لبناء النظرية النضالية التي تسترشد بها الجماهير العربي في طريقها نحو أهدافها.
لقد كشف حركة “البعث العربي” بصدق رؤيتها وتحليلها للواقع العربي، وبارتباطها الوثيق بتجربة النضال الوطني في القطر السوري وتمثلها لتجربة حركة الاستقلال العربي والوحدة العربية، ثلاثة انحرافات أساسية تمثلت في ثلاثة أحزاب سياسية تصدت للعمل السياسي ورشحت نفسها كبديل لحكم البرجوازية، هي الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي، وحركة الإخوان المسلمين.
لقد جاءت حركة “البعث العربي” رداً على الأممية التي نادى بها الحزب الشيوعي السوري والتي تمثلت في “الستالينية” في تلك المرحلة والتي تجاهلت أهمية النضال الوطني لشعوب البلدان المستعمرة ضد الاستعمار والامبريالية ووضعت هذا النضال في خدمة استراتيجية سياسية مرحلية كما تجاهلت في الوقت نفسه الأهمية الحاسمة لانطلاق النضال الوطني ضد الاستعمار والامبريالية ومن أجل بناء الاشتراكية من أرضية قومية.
لقد أكدت “حركة البعث” منذ انطلاقتها الأولى كل ما اعترف به فيما بعد من أن النضال من أجل الوحدة القومية لشعوب البلدان المستعمرة هو نضال ضد الاستعمار وضد المصالح العامة للامبريالية، هذه المصالح المرتبطة بكيانات التجزئة، وان تحقيق الوحدة العربية شرط أساسي لدخول المجتمع العربي مرحلة بناء الاشتراكية وان ثمة علاقة عضوية موضوعية وعلمية بين مسيرة الجماهير العربية نحو وحدة كيانها القومي وبين مسيرتها لبناء الاشتراكية. وان هذين الهدفين متلاحمان في عملية تاريخية واحدة.
وكما جاءت “حركة البعث” رداً على الأممية كذلك جاءت ايضاً رداً على الانحراف الرئيسي الذي مثله الحزب السوري القومي الذي عجز عن تحليل الواقع ورؤية المقومات الأساسية التي تربط بين مختلف الجماعات البشرية القائمة في “العالم العربي” والتي تحكمها ضرورة تاريخية واحدة ومصلحة حيوية مشتركة في النضال من أجل وجودها ومصيرها.
ان هذا الحزب الذي أراد على الصعيد المحلي أن يتخطى حركات التحرر الوطني القطرية ليدفعها خطوة متقدمة أكثر بتوحيدها ضمن حركة قومية واحدة أوسع تضم المشرق العربي “الهلال الخصيب” ضد الاستعمار القديم الذي مثلته فرنسا وبريطانيا، قد وقع في انحراف أساسي هو تجاهله للقومية العربية كوجود تاريخي حضاري، وكضرورة ملحة وحيوية لمواجهة الاستعمار والامبريالية، هذه القومية العربية التي أثبتت وجودها الفعال على مختلف المستويات.
وكما كانت حركة “البعث العربي” رداً أساسياً وحاسماً على منطلقات الحزب الشيوعي السوري والحزب السوري القومي وممارستهما، كذلك كانت رداً على حركة الاخوان المسلمين عندما وضعت حركة “البعث العربي” التاريخ العربي الإسلامي في موضعه الصحيح من القومية العربية. لقد كانت هذه الحركة رد فعل بدائي وغريزي على الغزو الحضاري لمنطقتنا العربية من قبل العالم الغربي المتقدم، هذا الغزو الذي وجدت فيه تهديداً جدياً للقيم والتقاليد الموروثة. كما كانت ايضاً رد فعل للتنكر للتراث والتاريخ ومحاولة الشيوعية والقومية السورية قطع الصلة بهما نهائياً وبصورة مصطنعة. ولكن حركة الاخوان المسلمين كانت تمثل انحرافاً خطيراً، ذلك انها في سبيل دفاع المجتمع عن ذاته أمام هجوم الحضارة الغربية الحديثة بكل منجزاتها وايديولوجيتها وتراثها الثقافي، تبنت الرجعية ونكصت إلى الوراء بدلاً من محاولة طرح قيم ومفاهيم متجددة لمكانة التراث والتاريخ في مجتمع يطمح إلى التطور والتقدم. فتحول التراث والتاريخ والقيم والتقاليد في نظرتها المنحرفة إلى أداة للجمود والمحافظة في عالم متقدم متطور بدلاً من أن تكون نقطة ارتكاز لمعاودة السير في سياق تطور الحضارة العالمية المعاصرة. وكان تاريخ هذه الحركة فيما بعد بمثابة تأكيد لهذا الانحراف، اذ انها كانت أداة في يد الرأسمالية المحلية المحتكرة في ضرب كل حركة تقدمية، وكانت عوناً للاستعمار الأجنبي في ترسيخ جذور الطائفية.
هكذا جاءت حركة “البعث العربي” في عام 1943 لتعيد تحليل حركة المجتمع العربي وتضعها في سياق تطورها التاريخي، ولتخلص قضية التحرر والتقدم والوحدة القومية في القطر العربي السوري خاصة وعلى نطاق حركة التحرر الوطني العربية كلها من انحرافات فرضتها ظروف مرحلية حالت دون استشفاف بعض قوى التحرر الوطني التي ظهرت في سوريا للمنظور التاريخي الذي يجري ضمن اطاره تحرك الجماهير العربية باتجاه أهدافها الأساسية.
على أن الحزب في مرحلة “البعث العربي” قد تأثر هو ذاته – شأنه في ذلك شأن كل حركة ثورية- بالظروف التاريخية التي نشأ فيها. فبمقدار الانكار والتجاهل اللذين ووجهت بهما القومية العربيةـ اتخذت منطلقاته الأولى بدورها طابعاً يقينياً. لقد أكد أمام النفي المطلق لوجود الأمة العربية ان القومية العربية حقيقة مطلقة بدورها. وأمام تجاهل التراث والتاريخ والوجود العربي طرح استمرار الأمة العربية وخلود رسالتها كحقيقة مطلقة. لقد قال البيان الأول لحركة “البعث العربي:
“نمثل الروح العربية ضد الشيوعية المادية
“نمثل التاريخ العربي الحي ضد الرجعية الميتة والتقدم المصطنع.
“نمثل القومية العربية التامة المعبرة عن حاصل الشخصية.
“ضد القومية اللفظية التي لا تتعدى اللسان ويناقضها مجموع السلوك.
“نمثل رسالة العروبة ضد حرفة السياسة.
“نمثل الجيل العربي الجديد.
دمشق 24 تموز 1943
ان هذه العبارة تحدد المنطلقات الأولى لحركة “البعث العربي” وموقفها التاريخي من المعطيات السياسية والايديولوجية التي كانت قائمة في القطر العربي السوري في مرحلة الحرب العالمية الثانية التي سبق استعراضها والتي جاءت حركة “البعث العربي” لا لتكون رداً عليها فحسب وانما لتضع قضية الجماهير العربية في اطارها الصحيح.
انظر:
نضال البعث (1) – مع البدايات الأولى لنشوء حزب البعث
نضال البعث (2) – تطور الحركة الوطنية