مقالات
ميشيل عفلق: التفكير المجرد
التفكير المجرد .. من مقالات ميشيل عفلق عام 1943
في بلادنا عدد غير قليل من المثقفين المشوهين الذين غدت الثقافة في ايديهم اداة ايذاء. واريد أن اخص بحديثي أولئك الذين عاشوا في وسط عائلي واجتماعي فقدت منه الروح العربية، ثم تعلموا في المعاهد الاجنبية أو في ديار الغرب وحرموا من الثقافة العربية حتىّ اذا وضعتهم ثقافاتهم في مراكز توجيهية، اجازوا لانفسهم ابداء الرأي في صميم حياتنا القومية التي عاشوا غرباء عنها جاهلين لها، حاقدين عليها. ومن هؤلاء أخذت الحركة الشيوعية في بلادنا بعض عناصرها المثقفة، ومنهم نشأ ذلك الاتجاه الذي سميناه في بعض الكتابات السابقة بالتقدمية الزائفة المصطنعة، لانه تقدم ليس له جذور في نفوسنا، ولا يلبي حاجاتا الحقيقية، وانما هو من الخارج، يلصق على حياتنا لصقاً.
ففقدان الروح العربية والثقافة العربية يقود الى الثقافة المجردة، فالشخص يكون ضعيفاً مجرداً فتدخل الثقافة الاجنبية عليه دون ان تجد مانعاً او رادعاً اومعدلاً، فيصبح معدوم الشخصية أمامها وتتحكم به في حين ان تثقف الفرد العربي بالثقافة الغربية مفيد له كل الفائدة شرطة أن تكون شخصيته قد تكونت، فالفرد العربي الذي له من ثقافته وروحه ما يكون رادعاً عن الوقوع في خطأ الثقافة الغربية ومصححاً لها وما يكون فيه من القدرة على تمثل تلك الثقافة تمثلاً فكريا يجعله حاكما فيها لا محكوماً لها فتكون اداة في خدمته ونفعه. الثقافة ليست شيئاً جامداً يدخل على الرأس ويستقر وانما هي حركة وحياة تتفاعل مع الشخص وتؤثر فيه، لها حاجات ومطالب ومستلزمات ولها وسط تنبت فيه وتتخذ معناها، فاذا دخلت الثقافة الغربية على عقل عربي غير مسلح بالثقافة العربية فانها تنقله إلى الحياة الغربية.
والثقافة بعد هي تعبير عن حياة حقيقية، فالثقافة الافرنسية تعبر عن حياة افرنسية نشأت في وسط فرنسي، عن حاجاتهم وعقيدتهم، فهي نتيجة لتقاليدهم السياسية الحاضرة والماضية وهي متداخلة في آمالهم واهدافهم. فالذي يتثقف الثقافة الفرنسية دون ان يكون له ذلك الرادع، وذلك الاساس العربي، فانه بطبيعة الحال ينخرط في حركتها وآليتها فهو منقاد دون ارادة الى العيش في تاريخ تلك الثقافة وتقاليدها، وهذا ما نشاهده بين المثقفين بالثقافة الغربية المحرومين من الروح العربية والثقافة العربية، اذ نراهم يعيشون معنا في اجسامهم بينما فكرهم الذي تغذى بالثقافة الغربية منجذب الى وسطه الحي، وتفكيرهم هو في تاريخ الغرب وتقاليده وسياسته. ان في بلادنا عدداً غير قليل يعيشون بأجسامهم بيننا وبافكارهم وارواحهم مع البلاد الاوروبية وهم مع ذلك يدعون لانفسهم حق اعطاء الرأي في مشاكلنا وماضينا وحق التأثير في العمل والتوجيه فيه، إن هؤلاء المثقفين منقادون بطبيعة الأمر للعيش في وسط ثقافتهم وهذا الوسط هو الغرب. وليس من شك في ان هذا هو الشيء الطبيعي وهو المحبب الى نفوسهم، لان العالم الغربي الذي هو منبت ثقافتهم عالم قوي راق صاعد فحوادثه تشغل الارض وتهزها، في حين ان العالم العربي ليس له تلك الدرجة من الاهمية، فكيف يترك هؤلاء المثقفون ذلك الوسط الذي تغذوا من ثقافته وهو قسم فعّال تمثل عليه الاعمال الجسام، ويرضون بالعيش لهذه البلاد التي ليس لها بعد من شيء يذكر في كل نواحي الحياة.. فانتقالهم بالفكر والروح الى العالم الغربي طبيعي لسببين:
أولاً: ان ذلك اشهى اليهم، يغريهم بالاطلاع على الحياة التي تثقفوا منها ومعرفة مصير التاريخ الذي لم يدرسوا غيره ونتيجة الحضارة التي لم يطلعوا الا عليها. ثم انهم يجدون امر استخدام الثقافة الغربية لاصلاح الواقع العربي امراً صعباً جداً، ولا يمكن ان يفهموا المجتمع العربي، وكل منهم قد رسم حوله دائرة غربية. فتعلقهم بالغرب، ولو انهم كانوا في شعورهم وطنيين، هذا التعلق ناتج عن ان هذه الثقافة تحتاج الى وسطها الحي الذي نشأت فيه، وعلى الاخص لأنهم يختارون الطريق السهل .
ولا يحتاج المثقف بالثقافة الغربية للابداع لفهم حياة الغرب لان هنالك من يقوم بذلك بدلاً منه، فهو يلتقط اتعاب الغربيين انفسهم، ولو طلب من نفسه ان يفكر في حياته هنا وطرق معالجتها، لاقتضى ذلك منه ابداعاً وتفكيراً شخصياً. هل هؤلاء هم في الواقع مجردون؟ كلا لانه ليس في الحياة انسان مجرد فذلك محض افتراض. ان للبشر عدا العقل والذهن، الغرائز والعواطف والارتباطات المادية والمعنوية بتاريخ ونمط من العيش ونوع من التفكير والفن.
فهؤلاء المجردون ليسوا مجردين من العواطف والتقاليد والروح العربية فقط ولكنهم قد تبنوا العواطف والتفكير والارتباطات المعنوية الغربية. اذن لا يمكن ان يوجد في الواقع تفكير مجرد وانما تفكير مشوه. فهؤلاء مشوهون باستبدالهم بعواطفهم عواطف غيرهم.
ثانياً: إن الثقافة الغربية تكون مفيدة لفرد عربي تكونت شخصيته، مثقف بالثقافة العربية ومشبع بالروح العربية وله اساس لا يستغني عنه انسان، فالأغذية لا تدخل اليه وتظل كما هي وتفرض نفسها عليه، بل تتحول الى الشكل الملائم لتنفع هذا الجسم، فالفرد العربي المثقف بالثقافة العربية عندما تدخله الثقافة الغربية تكون له طاقة وطريقاً وحافزا عاما في شخصيته، لانها ثقافة نشيطة راقية، فيستخدمها لمعالجة حياته العربية، ولا يعود شاقاً عليه ان ينظر الى ما حوله وواقعه ويسعى الى تفهم هذا الواقع والتأثير فيه بالفكر والعمل لانه يبقى عربيا ويتثقف بالثقافة الغربية. انه يتسلح باسلحة جديدة تمكنه من معرفة ذاته وفهم حاجاته وبالنتيجة التأثير في الواقع والعمل على اصلاحه. فالعملية شاقة ولا تحدث الا بوجود شخصية عربية مستقلة، فتكوّن الشخصية والحصول على الاساس الروحي والفكري ضرورى لكي تصبح الثقافة الغربية نافعة. أما المثقفون ثقافة غربية فهم فاقدون لهذه الشروط، فحكمهم مشوه مغلوط مؤذ اذا لم نقل انه مغرض يتعمد الغرض، فهؤلاء لن نستطيع ان نقول عنهم بأنهم ضحوا بشخصيتهم العربية واكتسبوا غيرها لان الثقافة ككل شي حي مرتبطة بوسط حي وتاريخ وروح وزمان ومجتمع، الثقافة الغربية مرتبطة بحياة الغرب ولها جذور عميقة في حياته، وهؤلاء لهم جذور في واقعهم العربي ولكن جذورهم في تاريخ الغرب وحياته. لقد اهملوا العناية بثقافتهم فانقرضت فيهم لانه لم يتكون لهم هذا ألاساس من روح البلاد التي يعيشون فيها، فهل يمكن ان يتفاعلوا مع تلك الثقافة الحية؟ هؤلاء المثقفون لا يمكن ان يفهموا الثقافة الغربية فهما صحيحا حياً لان هذه الثقافة لا تجد فيهم ارضاً خصبة، فهم ارض جدباء، وقد يلتذون بها ويسخرونها لنفع شخصي.. ولكن هل يتوصلون بها الى الابداع ؟ كلا.. لاننا لانجد الابداع يصدر الا من اهل الثقافة الاصليين، واولئك ليس لهم جذور واتصالهم بالثقافة الغربية اتصال مصطنع، لايخصب النفس ولا يدفعها الى التوليد والابداع. فالثقافة الغربية لاتجعل من هؤلاء غربيين اصليين لذلك لايمكنهم ان يحملوا رسالتها على الاطلاق، فلن يحملوا الرسالة العربية ولن يستطيعوا حمل الرسالة الغربية، فهم ينقمون خفية على كل من تصدى لمثل هذا العمل وخاصة على الذين يقولون بأن للامة العربية رسالة. وسنأخذ نماذج من تفكير هؤلاد ونبين أغلاطهم ومغالطاتهم. إن ثقافة هؤلاء افرنسية مثلاً، فهم يرون في التفكير الذي تغذوا منه وفي الكتب التي قرأوها تلك النزعة البارزة وهي التفكير الانساني فينقادون الى تقليدها. فعندهم المسألة بالنسبة للعرب هي ان يهملوا الواقع بكل ثرائه وخصائصه، ولا يأخذوا الا الفكرة المجردة او اللفطة، فهناك الفكرة الانسانية وهناك الفكرة القومية ويقارنون بينهما مقارنة “نزيهة ” و “مجردة” وهم مستعدون لان يقبلوا الفكرة الراجحة حجتها وفائدتها، فيرون ان القومية هي مبدأ محصور في امة، والانسانية مبدأ شامل لجميع الامم، فيستنتجون ان فكرة الانسانية افضل من القومية ويأخذون بها. او ان الفكرة الانسانية هي الاصل والقومية هي الفرع، فنسبة القومية في عرفهم للانسانية كنسبة الفرع الى الاصل، ثم يعلنون سخطهم على القومية كأنهم يعيشون هناك. ومن المعلوم ان الحياة الغربية في هذا الزمن تشكو من التعصب القومي لا من القومية، من الغلو والافراط في هذا التعصب القومي. فشكوى الثقافة الفرنسية من هذا التعصب الذي كان داعية للحروب يتبناه المثقفون في بلاد تشكو من فقدان القومية لا من افراطها، من ضعفها لا من الغلو فيها. انهم يخشون أن يطغى التعصب القومي ويقود الى حرب على أمة اخرى وهم يعيشون في بلاد مجزأة مستعمرة لا يمكن ان يكون منها خطر على غيرها الى زمن بعيد. هنا يظهر فساد التفكير المجرد متجاهلاً الفروق الاساسية الواقعية. لقد قرأوا في ثقافتهم ان القومية تؤدي الى اضطهاد البشرية والى الاستعمار، وانها تسخر لأصحاب رؤوس الاموال، وهذا كله واقع في بلاد الغرب وليس شئ منه في بلادنا . فخطؤهم انهم يتدخلون في أمور بلادهم والتأثير في اتجاهها في حين يعيشون في غيرها، فهل يعقل ان تكون القومية العربية اليوم سبباً لطغيان العرب على غيرهم؟ ان العرب لايطمحون الآن الا لجمع شملهم وتوحيد اقطارهم ورفع نير الاجنبي عنهم .
واذا سلكت بعض القوميات طريق التعصب والطغيان فهل من الضروري ان نسلك هذا الطريق؟ كلا. . ان قوميتنا لها ضمانة من الماضي لانها مقرونة برسالة انسانية، وهذا شيء ينفرد به العرب وحدهم. انها رسالة روحية، فالعرب يتصورون قوميتهم وسيلة لتحقيق رسالتهم.
والضمانة في الحاضر هي ان الشعب الذي يعاني الظلم والضعف والتجزئة والحكم الاجنبي، تكون له هذه المعاناة وحدها فكرة واقية، لانه يستطيع بالقياس المنطقي وبالمشاركة الروحية ان يفهم ما هو وقع الظلم على غيره. فبناؤنا قوميتنا اليوم تدخل فيه هذه التجربة الاليمة التي جربناها، تجربة الضعف والانحطاط وتدخل في بناء دولتنا المقبلة، وتكون وازعاً ورادعاً عن كل فكرة تبغي السيطرة والتعدي على الاخرين. وليس في قوميتنا ما يسمح لأحد بأن يفكر في دفع خطر العرب ووضع حواجز لتوسعهم وطغيانهم، بينما هم يشكون اليوم من حكم الامم الاخرى لهم.
وقد كان الاحرى بهؤلاء لو انهم نظروا الى الامم التي اخذوا ثقافتهم عنها وتساءلوا، هل تخلت عن قوميتها؟ وهل تتنازل وتضحي بقوميتها في سبيل الانسانية؟ أم أنها متمسكة بقوميتها، وهي في كل مرة تنادي فيها بالانسانية تكون لها وراءها مطامع استعمارية للتوسع. فالتفكير الانساني الفرنسي الذي ظهر اثناء الثورة كان ممهداً للتوسع، وكذلك الحالة في اميركا اليوم، التي تنادي بفكرة الانسانية .
فكل هذه الدول الغربية لاتزال تحتفظ بقوميتها ولا تضحي بها في سبيل انسانيتها. بل لها تقاليد تصطبغ بالصباغ الانساني هي ذريعة للتوسع. وحالتها وأوضاعها مختلفة عن اوضاعنا، فهي بحالة قوة ونحن بحالة ضعف، وهي بحالة توسع ونحن بحالة تجزئة، فلا يعقل ان نفكر تفكيرها.
انهم يتركون الامم الكبيرة التي يجب ان تخفف من غلواء القومية ويأتون الى أمة لا تزال فيها الروح القومية في أول ظهورها فيقضون على هذه الروح باسم الانسانية .
فما هو تفكيرنا من الناحية الانسانية؟
نحن العرب اليوم بحالتنا الراهنة لاننكر اننا نعيش بين أمم وان لنا صلة بالانسانية، وهذا أمر واقع. ولكن هل من خير الانسانية ان يبقى العرب على ما هم عليه من ضعف وتأخر، أم أنه من خيرها يقظة العرب ووحدتهم حتى لا يكونوا عبئاً عليها كما هم الآن؟
ان العرب الان يؤذون الانسانية بضعفهم، لانهم لا يحتلون مكاناً فعالأ بين الأمم، فهم بحالتهم هذه يؤذون أنفسهم وغيرهم، لانهم مجال تناحر الاطماع والاستعمار الذي دخل بلاد العرب .
فأكبر خدمة يقدمها العرب للانسانية هي ان ينهضوا بقوميتهم الى مستوى الانسانية.
عام 1943
انظر مقالات ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
القومية حب قبل كل شئ | 1940 |
القومية قدر محبب | 1940 |
في القومية العربية |
1941 |
نفدي العراق | 1941 |
ذكرى الرسول العربي | 1943 |
1943 |
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة