لقد شهدت السبعينات نقاط تحول هامة في مسيرة الفن التشكيلي العالمي، بمعنى أن بعض النقاد يذهب إلى حد القول بأن مشكلات هذا القرن توضحت تماما في هذه الفترة ونقلت بالفن الى مرحلة حاسمة لا يستطيع أحد التكهن بالمسار المرتقب.
ان تلوث البيئة والمكننة الهائلة والحروب وثورات المطالبة واقتحام الفضاء وازدياد عنف الصراع الطبقي والتضخم المالي قد نقلت هذه الأمور بالفنان الى آفاق جديدة وساحة جديدة ورؤية جديدة لم تكن موجودة من قبل. ولعل أهم ما يميز هذه المرحلة هي السرعة. السرعة المخيفة والمرعبة في كل شيء ابتداء من تطورات لم تكن محتملة على الساحة التشكيلية العالمية وضمن اتجاهات كالانفايرومنت والهايبنغ والهيبرياليزم والتجريدية الجديدة والفن الحركي حتى نصل الى السوبر رياليزم …ولعل الشباب كان بطل المواقف الجديدة …ونحن بهذا لا نحدد موقعا نقديا سلفيا …بل نمهد في الدخول لمرحلة السبعينات في فننا من خلال آراء عدد من الفنانين والنقاد في هذا الوطن ورأيا للناقد والأستاذ في السوربون ايتيان سوريو حول الفن المعاصر.
صلاح الدين محمد
نص الحوار:
صلاح الدين محمد :
الحركة الفنية من خلال عطاء الشباب المتحمس والمثقف والامكانيات التقنية المزود بها احدى ظواهر فن السبعينات هل ترون في الشباب بديلا عن النمطية والجمود والتكرار لبعض طروحات فن ما قبل السبعينات ؟؟
طارق الشريف :
انني أرى بأن جميع تجارب الفنانين الشباب الذين برزوا في السبعينات هي صور منقولة عن جيل الستينات والمبدعين من هذا الجيل، لهذا فلا نرى الفنان الشاب الذي استطاع أن يتجاوز الجيل السابق بل نرى محاولة لجمع فنانين مع فاتح المدرس – الياس الزيات – مثلا، أو لؤي كيالي – أو – نعيم إسماعيل أو حتى غياث أخرس – مع شيء من – عبد القادر أرناؤوط – وهكذا فتجارب الشباب ليست الا صورة مشوهة لأعمال الفنانين الذين أثبتت تجاربهم وجودها في مرحلة نهاية الستينات 1968- 1970 ولا يمكن أن تجد واحدا من المبدعين الا فيما ندر ؟!
فاتح المدرس : هذا السؤال فيه الكثير من التعسف – …. – ان قضية الأجيال لا تقاس كل عشر سنوات … أما عن النمطية والجمود والتكرار فاني اترك الامر لدراساتك – بقصد صلاح الدين محمد – ماذا سيكون شعور كل من حماد ، شورى ، زيات ، إسماعيل وغيرهم لدى سماعهم اتهامات كهذه ؟ – …. – مع أنك تسمي جيلهم بالمرحلة الذهبية !! – …-
نعيم إسماعيل:
تضعون احتمال كون فن الستينات هو المرحلة الذهبية -… – ثم تتهمون هذه المرحلة بالنمطية والجمود والتكرار …لم افهم ما هو القصد.
في فننا – أو في الفن – بصورة عامة – ما من أحد هو بديل عن أحد ، كل يمثل نفسه، ليس الشاب بديلا عن الكهل ، كل يعيش حياته للشباب ميزة التنوع، التجارب المتنوعة ولكن الى أن تقنعنا بصورة نهائية بجديتها وثباتها – رسوخها – يلزم الوقت الكثير …. أعتقد.
خليل عكاري :
لا شك أن للشباب دورا هاما، وأعتقد أنه لم يعط الفرصة الجيدة لإبراز كل ما لديه، ولو أعطيت له الفرصة المادية والمعنوية لقدم الشباب كثيرا من العطاءات التي تغني الحركة الفنية، وهذا لا يعني أن الشباب جميعا متحمسون ومثقفون ومزودون بإمكانيات تقنية والعكس خطأ أيضا، فلا يعني أن من فن ما قبل السبعينات فن نمطي جامد ومتكرر وغير مزود بالإمكانيات التقنية وغير متحمس ومثقف، اذ يوجد في كلتا الفترتين مجموعات متشابهة.
أحمد مادون :
لست مع مثل هذه الأحكام ، تجارب الشباب وحماسهم بدون شك عامل حيوي وغني ، الفنانون الشباب تعبير واف بالغرض ، نرى شبابا يرسمون كالكهول وكهولا يرسمون كالشباب إلا أن المهم في هذه النقطة هو إمكانية التخطي والخروج عن النمطية والتكرار والماركة المسجلة وهذا مجرد أمل يوضع دائما في عنق الجيل الجديد بما لديه من قدرة وإمكانية – حسب جدية بحثه وعمله – وأضيف الى ذلك أن لدى الجيل الشاب اذا كان في سن العشرين أو الخامسة والعشرين مجالا متسعا للتجريب في مجالات عديدة لمدة لا تقل عن 10 – 20- سنة إذا أحسن استغلالها هيأت له قدرة على العطاء المتميز ، وأحب أن أشير إلى قول قد لا يصح تعميمه دائما لكن فيه جزءا من الحقيقة:
– الفنان أصيل لا يبدأ العطاء الحقيقي الا بعد الأربعين -… – وهذه الكلمة أرددها دون التمسك بحرفيتها .
هوامش المحرر :
لم يتفق أحد من الزملاء معي فيما رميت اليه … وبالتالي لم يجدوا نمطية وجمودا وتكرارا لبعض الفنانين الذين ظهروا قبل السبعينات وأعرض هنا وجهة نظري باختصار:
أولاً: ان التكرار والجمود والنمطية لما يمكن تسميتهم بالرواد مستمر حتى الان … وقلما نجد بينهم من طرق أبوابا جديدة وتجارب جديدة ونفسا جديدا … وهي سمات يتميز بها فن القرن العشرين. فهناك من يرسم المناظر الطبيعية منذ أربعين سنة وبالروح نفسه وحتى الان. وهناك من يرسم ملامح محلية منذ أكثر من عشرين سنة وحتى الان وبالتقنية والمضمون والمواضيع والتكوينات نفسها، وهناك من يرسم تكوينات هندسية. مرة يرفع مربعا ومرة يخفضه ولمدة زمنية وبالألوان والتقنية نفسها … وهكذا والاسماء معروفة … وقلما نميز عند بعض الفنانين عملا رسمه الان وعملا اخر رسمه منذ عشر سنوات -…. – ثانيا: الفنانون الشباب قدموا بالفعل مواضيع جديدة وبالتالي مضامين جديدة وفي الوقت نفسه تشكيلا جديدا واذا كان البعض قد وقع في التقليد والتأثر … فهذا شيء طبيعي طالما هناك تجاوز أكيد دون غياب الشخصية الفنية ونذكر هنا طروحات -وحيد مغاربة – عمر حمدي -نذير إسماعيل – بشار العيسى – أحمد مادون – أسعد عرابي – يوسف عبدلكي – يعد يكن – عبد الرحمن مؤقت – مصطفى النشار – سعيد الطه وغيرهم – ونشير الى ما طرحه الفنان وحيد مغاربه في أعوام 1970 – 1973 أي قبل سفره الى روما .. بأنه لم يؤكد شخصيته وتجاربه في الستينات .. حيث أكد تفوقا واضحا في مجال التمكن من التقنية والعمق في الطرح الفني … وهذا مجرد مثال .
2 – شهدت السبعينات بالإضافة الى ولادة فنانين يحملون إمكانيات كبيرة … شهدت زخما هائلا في إقامة المعارض دمشق – حلب حمص بالتحديد ولعل فتح صالة الشعب في دمشق وحمص والاستفادة من صالة العرض في المتحف الوطني بحلب قد ساعدت كثيرا في دفع الحركة الفنية الى الامام، رغم أن عدد الصالات هي مشكلة حقيقية وتحتاج الى زيادة في العدد لكي تستوعب النشاط الفني المتزايد.
3 – شهدت السبعينات معارض خارجية للفن المحلي بشكل كبير وكذلك المعارض الأجنبية المعروضة في القطر.
4 – القفزة في الصحافة المحلية من حيث ازدياد عددها وعدد صفحاتها أثر على فن السبعينات إيجابيا وبات هناك محررون فنيون لأغلب الصحف والمجلات ومستكتبون عديدون يغطون مواضيع يومية عن الفن التشكيلي، واذا كان ذلك سببا في دخول عناصر غير واعية أحيانا .. فان الظرف قد أدى أيضا الى اقتحام عدد من الجديرين مجال النقد الفني والبدء بوضع أسس نقدية صحيحة.
5 – إقامة الندوات الفنية الأسبوعية في كل من صالة الشعب بدمشق والمتحف الوطني بحلب حيث ساهمت هذه الندوات في احتكاك أكبر بين المؤثر والمتلقي …. وان لم تكن بحجم الطموحات والآمال.
6 – شهدت السبعينات افتتاح فروع لنقابة الفنون الجميلة في بعض المحافظات الرئيسية. ونسجل هنا رأيا للناقد والأستاذ في جامعة السوربون – إتيان سوريو – حول كيفية فهم الفن المعاصر … وذلك لأهميته:
أما فيما يخص بمسألة الخداع، فانه لما يدهشنا ويؤلمنا ان نضطر في كثير من الأحيان الى الدفاع عن فنانين كبار شرفاء ومخلصين ذد هذه التهمة المنكرة. ولكي نسمي الأشياء بأسمائها نقول ان – بيكاسو – نفسه طالما أجاب الإيجاب على أسئلة تتضمن تعليل أشكال فنية بالخداع والتضليل!
وأما فكرة الهوس، أو الجنون الجماعي وما الى ذلك، فإنها فكرة صبيانية سخيفة. على أنه يمكن بالطبع التحدث دائما في مجالات الفن عما نسميه تهوسا، وجنونا جماعيا. لكن تطورا عميقا وعالميا لأشكال الفن، كالذي نشهده في الوقت الراهن، لا يمكن أن يسمح لأحد أن يتصور أنه ما يزال بوسعه أن يرسم لوحات على طريقة – بونار – ، أو مشاهد على طريقة شوكارن – مورو – من غير أن تجتاحه موجات السخرية والهزء من كل مكان أن تطورا في مثل هذا العمق ، وفي مثل ضروراته الحتمية كما سنرى ، قد يكون تسبب في الفن بحالات أزمة أو مرض . كما قد يكون الكلام على أزمة في الفن، في النصف الأول من القرن العشرين، كلاما يستند الى مبررات شرعية من بعض الوجوه. وفي مقدورنا أن نتساءل أيضا، مثلما أسلفنا آنفا، عما إذا كان هذا الانقلاب العميق في الفن هو استجابة لتبديل الحاجات الجمالية للجمهور بكليته وللبشرية في مجموعها اليوم، أو أنه فقط مجرد استجابة لحاجات هذه النخبة أو تلك أم أنه يعكس في الأقل حاجة شرائح محددة من وجهة نظر اجتماعية؟ ومهما تكن الحال فان الانقلاب هو واقع لا شك فيه. وليس رفض بعض قيم الماضي، والعودة الى الانطلاق من نقطة الصفر، والجهد من أجل تأسيس أشكال فنية لا علاقة لها ظاهرة بتقاليد الماضي، سوى أشياء حدثت بالفعل. وقبل أن نسمح لأنفسنا بإطلاق أحكام تقييمية حول هذا الموضوع نرى لزاما علينا طرح السؤال: كيف حدث ما حدث
ثمة شيء أكيد هو أن هذا الانقلاب الكبير يستجيب لحركة ضرورية، عميقة، لا مفر منها. وهذه الحركة يجب القول، أنها ولدت داخل الفن. ولسنا نستطيع الجزم بأنها ولدت من متطلبات الجمهور. وكلمة جمهور تعني هنا قسما من الناس في كل بلد، وبالأخص في فرنسا، انه القسم المحدد الذي يتعاطى أشياء الفن، فيرتاد المعارض، وصالات الموسيقى، ويقرأ مقالات النقد، ويؤثر، بشكل أو بآخر، في أعمال الفنانين وآرائهم. ان هذا الجمهور لم يستطع بسهولة تتبع مجرى التطور الفني. ولقد عبر، وما يزال يعبر عن ثورته على الوضع الراهن للإنتاج الفني.
ومن هنا، يجب الإقرار بصورة موضوعية أن تطور الفن في المرحلة التأسيسية للفن الراهن قد حدث في إطار مغلق. وهذا ما يفسر الى حد ما استفحال الأزمة.
وهناك عامل آخر، مزامن للعامل الأول، وذو أهمية بالغة الحد، هو مشاركة الناس مشاركة متعاظمة في المعطيات الثقافية، لا سيما الثقافة الفنية، بفضل الانتشار الهائل لوسائل الاعلام – اصدار نسخ رسم ملونة – تلفزيون – راديو أسطوانات … – التي تسمح في الوقت الحاضر لفريق متعاظم من سكان جميع البلدان بأن ينفذوا الى معرفة الفن بعد أن كان النفاذ اليها حطرا على عدد ضئيل جدا.
ولعل هذا ما يفسر بعض التفسير ما كان قائما من طلاق بين الاشكال الأكثر تقدما للفن وبين ما يشبع الحاجات الجمالية لمجموع السكان وهذا ما يفسر ويبرر الى حد ما تلك الهوة الشاسعة بين الفن الجديد والفن التقليدي. كما يجب القول بأن الفن القديم، التقليدي ما يزال يحتفظ بحضور واسع النطاق، وأوسع من أي وقت مضى.
في إطار هذه الظروف يجب القول ان الفن المعاصر لا يحل، بأي شكل من الاشكال محل الفن الموروث عن الماضي. بل انه مواز له ولصيق به.
ورب قائل يقول: لكن يجب الاختيار. فإننا لا نستطيع ان نحب – تيتيان – و – بيكاسو – في وقت معا! على هذا أجيب: ليس ثمة مانع يحول دون أن نحب هذا، وذلك. وانه لنوع من البلادة أ، نرغب في تجاهل – بيكاسو لأننا نحب – تيتيان -، أو أن نرفض معرفة تيتيان لأننا نقدر بيكاسو! .
اننا متى أدركنا كل هذا جيد، أصبح ميسور علينا أن نفهم تطور الفن المعاصر، بمعنى أنه يجب أن نعرف أن هذه الحركة التأسيسية الواسعة قد سعت في الوقت نفسه، في الممكن وفي الماضي، وفي التراث التقليدي ذاته الى البحث عن إمكانات فنية لم تستثمر بما فيه الكفاية.
اقرأ:
صحيفة – واقع الحركة الفنية السورية في الخمسينيات والستينيات