من الصحافة
في ذكرى مئوية دار الأيتام الإسلامية بحلب.. ذكريات نجيب باقي عن تأسيسها وتطورها
في ذكرى مئوية دار الأيتام الإسلامية بحلب.. ذكريات نجيب باقي عن تأسيسها وتطورها
يصادف هذا العام الذكرى المئوية لتأسيس دار الأيتام الإسلامية بحلب على أيدي أهل الخير، والتي ساهمت طوال مئة عام في رعاية الأيتام؛ فكانت توفر لهم العلوم النظرية منها والمهنية في ورشات متخصصة.
فيما يلي نبذة من تاريخ هذه المؤسسة الأهلية الذي نشره ناظرها وعميد الكلية الإسلامية نجيب باقي في مجلة “الجامعة الإسلامية” الحلبية في عددها الرقم 136-139، السنة 16 في 20 / 2 / 1363 هـ 15 / 2 / 1944 تحت عنوان “دار الأيتام الإسلامية”.
تظهر الصورة المرفقة إداريي وطلاب “دار الأيتام العربي” حينما تأسس في العهد الفيصلي
دار الايتام الاسلامية
بقلم ناظرها وعميد الكلية الاسلامية
سادتي الأكارم،
أشكركم على تشريفكم وتنازلكم لزيارة أيتامكم في هذا اليوم المبارك يوم هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، جزاكم الله عن أيتامكم كل خير، وأحمد الله الذي عافانا وأبعد عنا السوء في هذه الحرب الضروس وأنالنا استقلالنا وأمننا في أوطاننا، فنسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه. وبهذه المناسبة أحب أن أسرد عليكم نبذة من تاريخ هذه المؤسسة المتواضعة لتعلموا ما تحملناه في ذلك الدور البائد في سبيلها.
لقد أسست هذه الدار في عهد المغفور له الملك فيصل عام 1919م باسم “الميتم العربي”. وبعد أن جمعنا الأيتام المتشردين في الازقة من جميع الطوائف، وجدنا أن لكل طائفة ميتماً يضم أولادها إلا الامة الاسلامية ليس لها ميتماً، وان كثيراً من أولاد المسلمين أدخلوا إلى تلك المياتم، فاضطررنا أن نستبدل أيتامنا بأيتامهم، ونجعله ميتماً إسلامياً.
وقد تكرم الملك فيصل تغمده الله برحمته بمبلغ أربعمائة ليرة ذهبية من ماله الخاص لهذا المشروع، فقمنا بتعمیر وترميم هذه البناية التي كانت في السابق في عهد الأتراك مدرسة صناعية، وفي أثناء الحرب اخذتها فرقة الفرسان الألمانية، وعند دخول الإنكليز احتلتها فرقة الفرسان الإنكليزية بخيلها ورجالها، فاضطررنا لتعمير ما تهدم وتجديد أبوابها وشبابیکها.
وبعد أن أنفقنا عليها مبلغاً عظيماً ونقلنا إليها الأيتام الذين كانوا في دار حجي أفندي الجابري في السويقة، وأخذنا ننظم الصفوف وشعب الصنائع أتانا إنذار بدخول الفرنسين بأنه ستحتل هذه البناية فرقة الفرسان الإفرنسية أسوة بالفرق التي سبقتها، وأصبحنا في حيرة من أمرنا فإلى أين نذهب بهؤلاء الأيتام الذين أصبح عددهم ثمانين يتيماً، فراجعنا الحاكم بأمرهم إذ ذاك كامل باشا القدسي، والتمسنا منه التوسط لدى السلطة الافرنسية؛ فأجابنا أنه لو طلبوا بيته الذي يقيم فيه لما تأخر عن تسليمه لهم. وراجعنا رئيس البلدية [غالب إبراهيم باشا] بأن يوجد لهم محلاً آخر يستعيضون به عن هذه البناية، فلم نجد منه هذه الجرأة. فصممنا على المقاومة والتضحية بأرواحنا في سبیل هؤلاء الأيتام.
وبينما نحن في هذه المحنة إذ حضرت (الميس نورطن) الممرضة الأمريكانية التي تشتغل في جمعية الصليب الأحمر الأمريكاني، وكان لها عناية خاصة بأيتامنا وشفقة عليهم لم نجدها في أمهاتهم؛ إذ كانت تطبب رؤوسهم وأعينهم وتجلب لهم الأدوية وحتى كثيراً من الأغذية من الجمعية المذكورة. فهالها الأمر واستعظمت وقوعه وآلت على نفسها أن تشترك معنا في الدفاع عن هؤلاء الأيتام، وطلبت منا التربص لحين عودتها. فركبت سيارتها الصغيرة، وذهبت إلى قنصل أمريكا إذ ذاك المستر (جاكسون)، وكاشفته بالأمر وطلبت منه المداخلة لدى السلطة الإفرنسية، فاعتذر لها بأنه موظف سياسي لا يمكنه المداخلة في أمور عسكرية بدون أمر من دولته، وأشار عليها أن تذهب هي بنفسها بصفتها مربية أمريكانية إلى الجنرال (ده لاموط) تعرض له الأمر. فذهبت وأنذرته عاقبة هذا الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث ثورة في المدينة عندما يحتلون دار أیتام إسلامية بالقوة، ويخرجون أیتامها الذين لاملجأ لهم إلا الأزقة، وأفهمته أنها سوف تكون من جملة المقاومين، وكلفته أن يجد لعسكره غير هذا المحل، فاستمهلها لحين ما يتصل بقائد الفرقة ويرسل لها الجواب بعد ساعة إلى مركز جمعيتها. وكانت النتيجة أن صرفوا النظر عن احتلال الميتم بفضل هذه المرأة، التي هي مثال العفة واللطف والفضيلة و تركت في نفوسنا ونفوس الأيتام أطيب الذكر.
وما أن اطمأنينا في دارنا وباشرنا في توسيع هذا الميتم حتى أخذنا أمراً تحريرياً من دولة الحاكم كامل باشا القدسي يأمرنا بإغلاق هذه المؤسسة وتسليم مفاتيحها إلى دائرة الأوقاف، ولدى استقصاء السبب علمنا أن الباشا غضب على الميتم لأن موسیقته عزفت في الحفلة التي أقيمت إلى الزعيم إبراهيم بك هنانو عند خروجه من السجن بريئاً. فأصرينا على عدم تنفيذ هذا الأمر المجحف، وقدمنا له (مضبطة) من الهيئة الإدارية تنكر عليه هذا الأمر الذي يختص به الميتم الإسلامي دون بقية المياتم. ولكنه أصر على إغلاقه وأرسل إلينا معاون المندوب المفوض المسيو ركلو مع ترجمانه المسيو ملحمة، وكان يصحبهما سعادة مدير الأوقاف السيد يحيى الكيالي. ولما طالبوني بتسليم الميتم إلى مدير الأوقاف، وأنهم قد أتوا لهذه الغاية سألتهم عن الميزانية التي خصصتها الأوقاف لهذا الميتم، وأنه كيف يجوز تشريد مائة يتيم مسلم في الأزقة بعد أن انتظم أمرهم وتحسنت حالتهم، وفي أي دين أو شريعة يجوز إغلاق مؤسسة تقوم بإسعاد اليتيم مرضاة لشخص واحد، فتأثروا من حالة الأيتام و أشفقوا عليهم وذهبوا معتذرين. وفي صباح اليوم الثاني أرسل لي دولة كامل باشا بكتاب استرضاء وأصحبه بعشرين ليرة ذهبية إعانة لهذا الميتم وأضحينا من ذلك اليوم أصدقاء.
وفي زمن حكومة مرعي باشا [الملاح (1924-1926)] سعينا لاستلام المقابر الإسلامية المندرسة، التي منها أراضي العبارة، وكاد يتم لنا الأمر باستلامها وفقاً لقرار المجلس الإسلامي الأعلى، إنما مستشار الأوقاف إذ ذاك المسيو جنادري عد هذا القرار إدارياً ومانع بتنفيذه، فقمنا بتشكيل لجان في الأحياء لجمع الإعانات ولتأمين اتصالهم في الميتم، فوشوا بنا لدى الجنرال بيوت وأرادوا منعنا من ذلك، ولكن الجنرال المشار إليه أدرك الأمر ومنحنا ثقته وساعدنا بإجابة مطالبنا. وفي زمنه تخصصت بناية المرآب وبعض الدكاكين للميتم.
كما أنه في زمن حكومة محمد علي بك العابد [1932-1936]، وفي وزارة جميل مردم بك [1936-1939] خصصت للميتم خان الجفتلك، وتوفقنا باستخراج الدكاكين منه؛ وذلك بمساعدة الأمير مصطفى الشهابي وبوسف بك عز الدين مدير أملاك الدولة بحلب. فتسنى لنا إنشاء هذه الغرف، وغرف الصناعات، وازداد عدد الطلاب الى 300 يتيم، وأسسنا له الفرع الزراعي في المسلمية.
كما توفقنا بفضل الله ومعونة الحاجة أمينة التادفية لإشادة بناء الكلية الإسلامية، التي ستغني أولادنا عن ارتياد المدارس التبشيرية.
وها نحن قد دخلنا في عهد الاستقلال، وأصبحت حكومتنا منبثقة منا، ولم يعد من مانع يحول دون تقدم هذه المشاريع، وإعلاء شأنها (وكلنا يعمل للوطن)، وقد خصصت لنا البناية، وأصبحنا مطلقين اليد في تعميرها وترميمها والاستفادة منها. ولما كان عجز ميزانية الميتم في هذه الأيام العصيبة يبلغ الثلاثين ألف ليرة، وكذلك بناية الكلية الإسلامية تحتاج مبلغا لإتمامه، فأرجو أن تشكل لجان تحت رئاسة دولة المحافظ وعطوفة إحسان بك الجابري لجمع الإعانات والتبرعات، واعتبار یوم عاشوراء يوم اليتيم، وفي كل سنة تجبى فيه إعانة اليتيم. فإذا وافقتم على ذلك أرجو إقراره والعمل لإنجازه. والله تعالى وراء القصد وعليه الاتكال فنعم المولى ونعم النصير.
نجيب باقي