مختارات من الكتب
نيقولاس فان دام: الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية عام 1965
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا (15)
فان دام (نيقولاس)، الصراع على السلطة في سوريا- الطائفية والإقليمية والعشائرية السياسية 1961- 1995.
الفصل الثالث – الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية بين السنيين والأقليات الأخرى
التكتل الطائفي والإقليمي والعشائري في النخبة العسكرية البعثية
بعد أن نجح أمين الحافظ وصلاح جديد في إبعاد محمد عمران، وهو من أبرز منافس لهما في اللجنة العسكرية، أصبح عليهما أن يواجه الواحد منهما الآخر.
وقد وقعت حادثة عام 1965 أيقظت منافستهما الهاجعة في صراع مكشوف على السلطة، وكانت بين صلاح جديد والرائد سليم حاطوم الذي يقود نخبة جنود المغاوير المتمركزة بالقرب من دمشق.
ومنذ أن تقلد البعث السلطة عام 1963 تطورات التوترات بين كبار قادة اللجنة العسكرية وبين الأعضاء الأقل رتبة في التنظيم العسكري، حيث لعب بعضهم، وخاصة الرائد سليم حاطوم الدرزي، دوراً فعلاً في إنقلاب 8 مارس (آذار) 1963م، وبالتالي شغلوا مناصب عسكرية قيادية حساسة، ولكن لم يتم تعيينهم في أعلى الرتب العسكرية أو مراكز الدولة والحزب العليا، على عكس قادة اللجنة العسكرية.
“ويبدو أن هؤلاء الضباط لم يحسدوا قادة اللجنة العسكرية فقط، بل أيضاً مناضلي الحزب المدنيين الذين تمتعوا بالسموا في الرتبة والوضع، بينما لم يحظوا هم أنفسهم إلا بنصيب في السلطة غير المميزة، والتي قد لا يرضى بها الكل”(1).
وفي وثيقة داخلية للحزب تم وصف هذه التوترات بين العسكريين كما يلي:
بالنظر للدور القيادة الذي اضطلعت به “اللجنة العسكرية”، بعد قيام الثورة، ولكثرة الصلاحيات والأدوار التي قامت بها على مستوى الحزب والجيش والسلطة مما جعل لعناصرها مركزاً معيناً في تلك المستويات في ذلك حلق نوعاً من الحساسية بين هؤلاء الرفاق، وبين رفاق لهم أدنى منهم رتبة ممن حملوا السلاح صبيحة الثامن من آذار من جهة أخرى.
إن تلك الحساسية كانت تتضخم بين الرفاق المذكورين يوماً بعد يوم، وقد كان إهمال اللجنة العسكرية أمور التنظيم، وانغماسها بأمور الحكم عنه، ودخولها دوامة الصراع الذي كان قائماً في قيادة الحزب والثورة وانقطاعها عن القواعد العسكرية، سبباً في تعميق تلك الحساسية(2).
وتفجر هذا الموقف المتوتر في ابريل (نيسان) 1965 عندما نشب شجار عنيف بين سليم حاطوم وصلاح جديد، فقد اقتحم حاطوم منزل الآخر مهدداً إياه بمسدس وطالباً منه تقديم استقالته الفورية كرئيس أركان الجيش السوري.
ويبدو أن حاطوم اعتبر صلاح جديد مسؤولاً عن انه رغم أن له”نصيب الأسد” في تنفيذ إنقلاب 8 مارس 1963 لم يحظ بأحد المراكز العليا عسكرياً او حزبياً، على عكس كبار القادة باللجنة العسكرية، كما أنه لم يتمتع بالوضع المصاحب لتلك المناصب.
وكرد فعل لتهديدات حاطوم قام جديد بتقديم استقالته إلى الفريق أمين الحافظ، القائد الأعلى للقوات المسلحة السوري، الذي رفضها، حيث أن إجبار رئيس الأركان على الاستقالة بهذه الطريقة أمر غير مقبول.
وكان على أمين الحافظ أن يتخذ إجراءات تأديبية حيال حاطوم بعد هذه الواقعة، إلا أنه لم يفعل ذلك. وقد فسر منيف الرزاز الأمر على النحو التالي:
“فأمين الحافظ سند سليم حاطوم. في بادئ الأمر كان يشك في ولاء صلاح جديد إليه واطمأن لسير الأمور. إلا أنهل ميرد أن يوقع عقوبات ضد سليم حاطوم، فصار بينهما حلف، حيث رغب أمين الحافظ أن يكون سليم حاطوم ضد صلاح جديد، وكان صلاح جديد يشعر من الأصل بأن سنده الأساسي لابد وأن يكون علوياً بقدر الإمكان. وقد شعر هؤلاء بأن اشخاصاً مثل سليم حاطوم يشتغلون على أساس علوي ودرزي وسني.. الخ، فأرادوا التخلص من صلاح جديد(3).
وفي النصف الثاني من عام 1965 غدت المواجهة بين أبرز المنافسين العسكريين واضحة خلال الاجتماعات الحزبية والعسكرية، وكان الحافظ يتطرق باستمرار لموضوع الطائفية ويتهم صلاح جديد، وهو ينتقده بشدة، ببناء كتلته (العلوية) الطائفية داخل الجيش. ولم تُكسب مثل هذه الاتهامات الحافظ أي مساندة، بل كان لها تأثير معاكس أدى لزيادة النفور منه من قبل الضباط العلويين بشكل عام الذين انحازوا بأعداد كبيرة بدافع حفظ الذات لمعسكري جديد المنافس. ومن ناحية أخرى، ولأسباب مماثلة، التف العديد من الضباط السنيين حول الحافظ، وذلك لشعورهم بمزيد من الأمان داخل معسكري يسيطر عليه اخوانهم في العقيدة، رغم معارضتهم الشديد لتكوين كتلة طائفية(4).
ولقد حاول أنصار أمين الحافظ السنيون عمداً خلق كتلة سنية متماسكة داخل الجيش لمعارضة الضباط العلويين والدروز على وجه الخصوص. وكما بدا واضحاً من التحقيقات التي جرت فيما بعد فإن بعض هؤلاء الضباط السنيين قد حاولوا تشجيع الشقاق الطائفي داخل وحداتهم ووحدات الجيش الأخرى. قائلين لضباط الصف والضباط الأقل رتبة أن العسكريين العلويين والدروز يتأهبون للقيام بإنقلاب بغية الإطاحة بالرئيس أمين الحافظ السني وبالتالي إخضاع وإذلال المواطنين السنيين. وقد استمر هؤلاء العملاء المحرضون في محاولة إضفاء الانطباع بأن الصراع على السلطة ينصب على مسألة دينية أكثر من كونه العكس، أي أن المشاعر الدينية كانت تثار بهدف الحصول على السلطة السياسية(5).
وبمساعدة بعض أنصاره السنيين بالمخابرات السورية حاول أمين الحافظ تعضيد مركزه عن طريق إمداد مختلف المجموعات (ومعظمها من السنيين). والتي تمردت في مراحل سابقة على نظام البعث، بالسلاح والمساندة. وفي وثيقة داخلية للحزب ترجع لعام 1966 أطلق عليهم “رجعيون وناصريون وحورانيون ومحايدون”. وقد اتهم الحافظ بتشجيع هذه المجموعات على تنظيم “عصيان مدني”(6).
والتحاق العديد من الضباط العلويين بمعسكر جديد نتيجة هذه التطورات لا يعني بالضرورة أنهم أصبحوا يؤيدونه ويؤمنون بآرائه، ولكنه يعني أنهم تحولوا لجديد ضد الحافظ.
وبينما دفع تصرف أمين الحافظ بدون رغبته الصريحة في ذلك بمعظم الضباط العلويين للمعسكر المعارض، إلا أنه في النصف الثاني من عام 1965 فقد أيضاً دعم أهم وأبرز مؤيدية من العسكريين الدروز، وخاصة سليم حاطوم وحمد عبيد اللذين تم التأثير عليهما للانضمام لجانب جديد لأسباب تما بالكاد، أو لا تمت على الإطلاق، بالوجهة الطائفية من الصراع على السلطة.
قام أبرز الضباط البعثيين الاسماعيليين (وليس كلهم) أمثال أحمد المير وعبد الكريم الجندي بتأييد جديد. ورغم اتهامات الحافظ الموجهة ضد جديد بالطائفية. إلا أن أهم أنصار جديد من العسكريين السنيين أمثال مصطفى طلاس وأحمد سويداني ظلوا ثابتين بجانبه.
وأثناء الصراع على السلطة بين الحافظ وجديد أدى التلاعب بالولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية إلى زيادة التوتر داخل القوات المسلحة السورية إلى حد نتج عنه بلوغ استقطاب بعيد المدى بين السنيين وأعضاء الأقليات الدينية.
بدأ التمييز الطائفي بالتضاد بين العسكريين يحجب معظم الخلافات الأخرى. وانقسم سلك الضباط إلى معسكرين متنافسين. مع وجود تمثيل كبير للسنيين من جانب والعلويين والدروز والإسماعيليين من جانب آخر. ولم يكن هذا الاستقطاب الطائفي قائماً على أساس الاجماع الطائفي بين العسكريين من طائفة دينية أخرى والذين كان يعتقد أنهم كانوا يشكلون تهديداً لموقف الطرف الآخر. وتم تم تفسير سلوكهم كشكل من أشكال الطائفية والإقليمية و/أو العشائرية بهدف تعضيد مركزهم كمجموعة دينية وأقليمية و/أو عشائرية ضد مصلحة المجموعات الأخرى.
ولم تنعكس المنافسة بين الحافظ وجديد على القوات المسلحة وتنظيم الحزب العسكري فحسب، بل أيضاً على العلاقات فيما بين المؤسسات المدنية الرئيسية لحزب البعث، كما ظهرت جلية، على وجه الخصوص، في المنافسة القائمة بين القيادة القطرية السورية تحت سيطرة جديد وأنصاره والقيادة القومية تحت سيطرة أمين الحافظ وقدامى البعثيين بقيادة ميشيل عفلق. وفي السنوات التي تلت عام 1963 كادت القيادة القومية أن تفقد سيطرتها الكلية على جهاز الحزب في سوريا والذي كان يتبعها رسمياً.
وفي النصف الثاني من عام 1965 سعت القيادة القومية للتوسط بين جديد والحافظ، وفي محاولة لتقوية مركزها سعت لاستغلال المنافسة بين الحافظ وجديد بغية ضرب أحدهما بالآخر. وعندما تم عزل الحافظ عام 1965 داخل القيادة القطرية السورية من قبل أنصار جديد حاول بدوره شأنه شأن عمران في ديسمبر (كانون الأول) 1964 التقرب من القيادة القومية، بأمل تقوية مركزه في جهاز الحزب في القطر السوري. وفي محاولة لتحطيم سيطرة جديد على جهاز الحزب السوري قررت القيادة القومية في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1965 أن تتقلد زمام السلطة بالكامل عن طريق حل القيادة القطرية السورية.
وبعد ذلك أعلنت القومية ضرورة عودة الانضباط العسكري للجيش، وذكر بيان داخلي موجه للعسكريين ما يلي:
ان القيادة القومية تشجب التصفية وستحمى الرفاق جميعاً من أية محاولة تستهدف هذا الغرض ولكنها في نفس الوقت لا تسمح “باستملاك” قطعات من الجيش وتحويلها إلى كتل شخصية.
ستكون القيادة القومية ضد كل ولاء غير الولاء للحزب. فهي ضد الطائفية والطرح الطائفي وضد الولاء الشخصي. وضد التكتلات العشائرية وهي لا تعرف ولاء الا الحزب. القيادة القومية مع رئيس الوزراء ووزير الدفاع هي المرجع في المرحلة الحاضرة في حل مشكلة الجيش، وإبعاده عن التدخل في السياسة وشؤون الحكم وفي اعادته لعسكريته. على القيادة القومية مع رئيس الوزراء ووزير الدفاع ان تجري التنقلات العسكرية الكفيلة بإزالة حالة التوتر والقلق والتدخل.
(1) Rabinovich, Syria under the Ba’th 1963- 66, p. 151.
(2) أزمة الحزب وحركة 23 شباط، ضـ 21.
(3) مقابلة مع منيف الرزاز، عمان نوفمبر (تشرين الثاني) 1974م، انظر أيضاً منيف الرزاز، التجربة المرة، صـ 160.
(4) المصدر نفسه.
(5) حزب البعث العربي الاشتراكي، القطر السوري، القيادة القطرية، التقرير الوثائقي لأزمة الحزب المقدم للمؤتمر القطري عام 1966م.
اقرأ:
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا – الفصل الأول :
نيقولاس فان دام (1): العوامل التي ساهمت في الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية في سورية
نيقولاس فان دام (2): الإقليمية في سوريا خلال فترة الاستقلال
نيقولاس فان دام (3): الأقليات الدينية المتماسكة .. العلويون
نيقولاس فان دام (4): الأقليات الدينية المتماسكة .. الدروز والإسماعيليون
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا – الفصل الثاني:
نيقولاس فان دام (5): التداخل الطائفي والإقليمي والعشائري والإجتماعي الإقتصادي
نيقولاس فان دام (6): التمثيل القوي لأعضاء الأقليات في حزب البعث
نيقولاس فان دام: (7) الحواجز الإجتماعية التقليدية أمام التوسع الطبيعي لحزب البعث
نيقولاس فان دام: (8) الشقاق الحزبي الإنصرافي داخل جهاز حزب البعث المدني
نيقولاس فان دام (9): انتخابات حزب البعث المحلية عام 1965
نيقولاس فان دام (10) : أعضاء الأقليات في القوات المسلحة السورية قبل عام 1963
نيقولاس فان دام (11): الاحتكار البعثي للسلطة في سورية 1963
من كتاب الصراع على السلطة في سوريا – الفصل الثالث:
نيقولاس فان دام (12): التكتل الطائفي والإقليمي والعشائري في النخبة العسكرية البعثية
نيقولاس فان دام (13): التمييز الطائفي ضد السنيين في القوات المسلحة السورية
نيقولاس فان دام (14) : فشل سياسة الطائفية العلنية كتكتيك.. إبعاد محمد عمران