مقالات
“نبِّه النُدمان” .. من موشحات الشاعر محمد الهلالي الحموي
سليمان الصليعي الحراكي – التاريخ السوري المعاصر
[1] على قَدَر ….
قُدِّر لِي أن أعثُر منذ سنواتٍ طويلةٍ على أوراقٍ عتيقَةٍ بخطٍّ رائقٍ في أضْعافِ مجموعٍ خطِّيٍّ، بخطِّ الشَّاعر الحَمويِّ الشَّهيرِ محمَّد الهِلالي قبل أن أعثر على عدَّة نسخٍ من ديوانه مطبوعاً بطبعة حجرية قديمة في مطبعة حماة 15 رجب 1330 هـ.
وعلى شاكلةِ ما ألمعنا إليه، فإن القَدَرَ يسَّر لي جمعَ مادةٍ ثرية في ترجمة الشاعر الهلالي، والذي أرى أنَّه من أجلِّ شعراء حماة والشَّام برمتها، وأكثرهم صنعةً.
وفي أثناء الجمع كنت مع الأقدار مرة أخرى حين بدأت أجمع بعض الموشحات التي جرى إنشادها في منتصف القرن الميلادي المنصرم، فوقعت على موشحة نادرة بعنوان “نبِّه النُّدمان”، رنَّمها “صباح فخري” أحد أساطين الموشحات والأدوار والمقامات العربية، والذي أدَّى العديد من الأدوار والقدود والموشحات التي لم يُلتَفت لقَائليها وأصحابها، رغم أنَّها من عيونِ الأدبِ والشِّعر العربيِّ، كما أنها لأبرزِ شعراءِ العربيَّة في بلاد الشّام.
هذه الأدوار والقدود جرى انتقاؤها بدقَّة ملفِتَة، من أصحابِ ذوقٍ رفيعٍ، قاموا بتحوير بعضِ عَناصرها وأبياتها لتناسب النشيد أو الدور أو القد، وإذا لم يَسَعْنا على جري العادة أن نثري هذا البحثَ بإحصاءٍ لهَا، إلا أن من أطلق سماعَهُ فيها يرى أنَّ كثيراً منها مرتبطٌ بمدينة حماة، وقد تكرَّر هذا في أكثر من قصيدةٍ تَظهَرُ أمشَاجُهَا في أصولِ الكتبِ والدَّواوين المطبوعة منها أو المخْطوطة.
[2] موشح “نبِّه النُّدمان”:
هو أنشودة غضَّةٌ رائقةٌ، فيها من انسجام المعنى ورُّوعة النَّظم مافيها، أنشدها صباح فَخري في المساجدِ دونَ نَغمٍ مُوسيقي، على مقامِ “حِجَاز كَار”، في مدحِ آل العظمِ في حماة ونصُّها في الأصلِ الذي هو في ديوان الشَّاعر الهلالي (1) :
دور
نَبِّهِ النُّدمانَ صَاحِ *** إنَّ دَاعِي الأُنسِ صَاح
حيثُ من أيدِي المِلاحِ *** لَاحَ نُور الكأسِ لَاح
دور
سِيَّمَا والغيمُ يَسْجُمُ *** دَمعَهُ فوقَ البِطَاحِ
ورياضُ الزَّهرِ تَبْسُمُ *** عَن ثُغورٍ مِن أَقاح
دور
كَوكبُ الحُسنِ أَدَارَا *** في الدُّجى شَمْسَ النَّهار
طَورُ خَدَّيهِ أَنارَا *** مِنهُ لِي نُور ونَار
دور
يا كليمَ العِشقِ كلِّم *** عَاذِلِي مَا العِشْقُ عَار
فالهَوى العُذريُّ يَعلم *** أهله خلع العذار
ويختم فيقول:
واتلُ تعظيمَ المَقامِ *** للنَّصوحِ ابنِ العِظَامِ
وعَلى مَاحِي الظَّلامِ *** مُخجِلِ البدرِ التَّمام
دور
صلِّ ياربِّ وسَلِّم *** وكَذَا الآلِ الكِرام
ما الِهلالي راحَ يَخْتم *** نَظمَهُ حُسنُ الخِتَام
ويأبى أحبابنَا “الحَمَاصِنَة” إلَّا أن ينكدُّو عَلينا صَفوَ هذَا المُوشح الَّذي تَناهَى في جَمالِهِ ورِقَّتِهِ، فَيُعارضُهَا الشَّاعِرُ النَّهِمُ الأكُولُ مُصطفى زين الدِّين البَرميُّ الحِمْصِي (ت 1319 هـ ) فيقول (2):
قَدِّمِ الخِرفَانَ نَاحِي *** إنَّ دَاعِي البَطنِ نَاحِ
حَيثُ مِن لَحمِ الأَضَاحي *** رَاحَ هَمُّ الجُوعِ رَاح
سِيَّمَا والدُّهنُ يَصْدُم *** شُربُه يَشفِي الجِراح
وكُمَاجُ الخَاص يُؤدَم *** مَع قَبَوَاتٍ مِلاح
مَنْسَفُ الرُزِّ أَنَارَا *** بِسَنَاهُ الاعْتَكار
وعَليه السَّمنُ دَارَا *** فَانْتَشِق شَمَّ البُهَار
وعَلى المَحْشِي فَدَمْدِم *** صَاحِ واخْلَع لِلعذَار
وإلى الكُبَّةِ قَدِّم … قَد سَبَتْنَا باحْمِرَار
[3] ترجمة الشاعر الهلالي:
أما صاحب موشح “نبِّه النُّدمانَ” فهو الشَّاعر الحموي المبرز الشيخ محمد الهلالي (3) الحموي (ت 1311 هـ): محمَّد بن هِلال بن حمُّود بن مُصطفَى بن عَّباس بن إسماعيل ملَّا البخاري أصلاً، الحموي بلداَ ووطناً، الدمشقي وفاةً، الشهير بالهلالي.
ولد في مدينة حماة سنة 1235 هـ، لأسرةٍ علميةٍ ودينيةٍ كبيرة، فجدُّه حَمُّود كان فقيهاً وإمَاماً في جامع الأشقر بحماة، وعمُّه محمد زهير أفتى بحماة وكان مدرِّساً في جامع الأشقر خليفة لوالده، وجَدُّ أبيهِ “مُصطفى” كانَ عالماً جليلاً وُجِّهَ عليهِ الإفتاءُ في لواء حماة .
نشأ الهلالي في حماة، وقرأ الفِقهَ على أبيه وعمِّه الشَّيخ زهير، وقرأ النَّحوَ والصَّرف والمنطقَ على العلَّامةِ إبراهيم أفندي المَلكيِّ الحَموي (ت 1307 هـ)، وتفنَّنَ في الأدبِ وأساليبه، ونظمَ الشعرَ على أسلوبٍ لطيفٍ تَبتهجُ بهِ النُّفوس، ونادَمَ الأُدباءَ ومازحَ الظُّرفاءَ، وله منِ النّكاتِ الأَدبية والملحِ الشِّعرية قَصائدُ تدلُّ على رِقَّةِ ذوقِهِ وحِسنِ ذَكائِه، ونباهةِ أفكارِهِ وسِعَةِ اقتدارِهِ.
امتدحَ كثيراً من الوجهاء والأمراء والحكَّام جرياً على عادة الشعراء ورثى الكثيرين، وأرخَّ وفاتَهم، كما أرخ لبناءِ العديدِ من المُنشآتِ العامَّةِ من دورٍ وحمَّاماتٍ وبيوتٍ ومنشآتٍ عَامَّة.
ومن أشهر الأعلام الذين تناولهم في شِعره: السُّلطان عبد العزيز والسُّلطان مراد والسُّلطان عبد الحميد، والشَّريف عون الرفيق أمير مكة، والشَّيخ المحدِّث بدر الدين الحسني، والعلَّامة محمود أفندي الحمزاوي مفتِي دمشق، والأمير عبد القادر الجزائري وأولاده محمد باشا ومحي الدين باشا، والعلَّامة محمد أمين الجندي مُفتي دمشق، وأحمد حمدي بَاشا والي سُوريا، ومحمَّد رشدي باشا الشُّرواني والي سوريا، وحقِّي باشا بن علي ياوَر باشا والي سِيْوَاس، ومحمَّد باشا اليوسف متصرِّفُ لواءِ البلقاء، والأمير علي بن فارس الشِّهابي وغيرهم كثير مما لا يحصر في هذه العجالة.
ومن أعيان الحموية الذين مدحهم أو أرخ لهُم: هُولو باشا متصرف حماة، والوجيه عبد القادر بن حسين العظم، والعلَّامة نوري باشا الكيلاني، وعبد الله بن حسن الكيلاني، ومحمَّد آغا الباكير البرازي، ومحمَّد بك العظم، ومحمَّد وجيه الكيلاني، ومحمَّد آغا الأُذن، ومحمود باشا البَرازي، وأحمد آغا العاشق، ومنصُور آغا الحموي، وأحمد مؤيَّد باشا العَظم، وكنجْ آغا الطِّيفور، وعبد الله آغا الهَاشم، وشيخُه الشيخ إبراهيم أفندي المَلكي، وفَارس أفندي الأحدب، والشيخ يوسف أفندي الأرمنازي، ومحمد بيك البارودي، وحسن أفندي البارودي وغيرهم كثير.
وفي سنة 1298 هـ توجه الهلالي من حماة إلى دمشق الشام، فراقَت له منتزهاتها، وطابت له مسرَّاتها، فسكنها وعاشر أدباءَها، وامتدح وجهاءَهَا وأمراءَهَا، ونال عندهم من الوجاهَةَ والقبولَ ما حسَّن له البقاءَ بها إلى أن توفي وذلك في يوم الاثنين 29 شهر ذي الحجة 1311 هـ، ودفنَ في مقبرة الدَّحداح.
تمثل قبل وفاته ببيتين جليلين يدلَّان على صحَّة إيمانه وحسن رجائه بسعة فضل من يجود عليه بغفرانه فقال:
متَّ مُسلِمَاً ومن الذُّنوبِ فَلا تَخَفْ | حَاشَى يُريكَ إِلهُكَ التَنْكِيْدَا |
لَو رَامَ أَن يُصْلِيْكَ نَارَ جَهَنَّمٍ | مَا كانَ أَلْهَمَ قَلْبَكَ التَوْحِيْدَا |
حقق الله آماله وغفر ذنوبه وأحسن أحواله، وجاد عليه بكرمه ومنته، وأدخله فسيح جناته.
وقد أرَّخ وفاته كثير من المُجيدين منهم العالمُ المرحوم الشيخ عبد المجيد أفندي الخانِي الدِّمشقي بقوله:
لقد توفي الهلالي سيِّدُ الشُّعرا | وكوكب الأدبِ العَالي الَّذي اشتهرا |
محمَّد فرع أقمار العُلوم ومَن | هُم في حماةَ حُماةُ الفضلِ والكُبَرا |
متَّ مُسلِمَاً ومن الذُّنوبِ فَلا تَخَفْ | حَاشَى يُريكَ إِلهُكَ التَنْكِيْدَا |
لَو رَامَ أَن يُصْلِيْكَ نَارَ جَهَنَّمٍ | مَا كانَ أَلْهَمَ قَلْبَكَ التَوْحِيْدَا |
***
***
بدرٌ غريبُ العُلا أنوارهُ غَربت *** في هذه الرَّوضة الفيحاءِ حِينَ سَرى
فَلا غَريبٌ إذا نَادَى مؤرِّخَهُ *** “إلا تُوفي الهِلالي سيِّدُ الشُّعرا”.
ومجموع الشطر الأخير بحساب الجمل هو تاريخ وفاته : (32 +496 + 107 + 73 + 602 = 1311 هـ).
ومن أشهرِ الموشَّحاتِ الَّتي انتشرت على الألسِنَةِ غير التي أسلفناها، موشَّحه الشَّهير “لله لله يا بنيَّة” في مدح آل الكيلاني في مدينته حماة، والتي مطلعها:
ما أسعد الصُّبحيَّة *** بالطلعةِ البدريَّة
والشَّمس منها تجري *** كواكبٌ دريَّة
إلى أن يقول:
بادِر نَديمي بَادر *** أَبناء عَبْد القَادِر
ذَوي المقامِ الفَاخرِ *** والأَنفسِ المَرضيَّة
قَومٌ سَناهُم أعرب *** عن سِرِّ بازٍ أشهَب
فادخُل حِماهم واشربِ *** صهباء ربانية
رابط بصوت صباح فخري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- “ديوان الهلالي” طبعة 15 رجب 1330 بمطبعة حماة على نفقة سعيد النعسان وأحمد الصابوني وحمود الزبرؤوتي ( ص227)، وينظر أيضاً في: “حلية البشر” (ص1533)، و”تذكرة الغافل في استحضار المآكل” (ص132-134)، و”أدب النكتة” لجورج كدر (ص64).
- ينظر في “حلية البشر” للبيطار (ص1533-1534)، و”تذكرة الغافل في استحضار المآكل” (ص132-134)، و”أدب النكتة” لجورج كدر (ص64).
- تنظر ترجمته في: “نفحة البشام” للقاياتي (ص114)، “ديوان الهلالي” (ص1)، و”ديوان تذكرة الغافل” لمحمد الخالد جلبي الحمصي (ص15-24)، و”الأعلام” للزركلي (7/132)، و”معجم المؤلفين” لكحالة (12/93)، أعلام حماة لقدري الكيلاني (3/1292-1304)، تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع الهجري للحافظ وأباظه (3/46-47)، “من مشاهير وعلماء حماة” للشققي (2/783-785)، وله ترجمة موسعة في كتابنا عن علماء حماة وأعيانها في القرن الرابع عشر الهجري.
اقرأ:
الشَّخصيات الحمويَّة الرَّئيسية ضِمنَ تقريرِ المُخابراتِ البَريطانيَّة 1943
مدينة ُحماة في «الوثائق الهَاشميَّة – مذكَّرات عبد الله بن الحُسين» (2/1)
مدينة ُحماة في «الوثائق الهَاشميَّة – مذكَّرات عبد الله بن الحُسين» (2/2)
الحكومَةُ الحَمَويَّة – بينَ حُكْمِ دَولَتَين
تاريخ حماة من طوابعها البريديَّة