مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): في ذكرى إبادة الشركس
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
في ذكرى الإبادة المطلقة (الديموسايد) للشركس في 21 أيار 1864
أما آن لنا أن ننعم بالاستقرار والسلام، بعد 156 سنة من النفي والتشريد ؟؟؟
وكما يقال (عدو الثعلب هو فراؤه)، فعدو الأمة الشركسية وسبب إبادتها وتهجير 95% ممن نجا منها من الإبادة إلى أكثر من 50 بلد منفى، هو غنى القفقاس (جنة الأرض) وبيئته المضيافة وخيراته السطحية والباطنية… وبشكل خاص خطورة موقعه الجغرافي الاستراتيجي ، الواقع بين ثلاث قوى كبيرة مثلتها ثلاث إمبراطوريات استعمارية متناحرة منذ قرون هي: الفارسية في الجنوب الشرقي، والعثمانية في الجنوب الغربي، والروسية في الشمال، ولكل منها أطماعها وأهدافها الجيوستراتيجية، والمستميتة من أجلها على احتلال (بلد الألسن هذا والأقوام الصغيرة السبعين) كما وصفه المسعودي وغيره.
فكان الفرس أول قوة طاغية عملت على محاولة الاستيلاء على برزخ جبال القفقاس، وبشكل خاص على ديار القفقاس الجنوبي، فعمل شاهاتها على إبادة وقتل وأسر وخطف وترحيل عشرات الآلاف من الجورجيين والشركس والأرمن والأبخاز والأوسييتن وغيرهم وتهجيرهم من أوطانهم، وسوقهم إلى بلاد فارس حيث وطنوهم فيها، فانصهروا في البوتقة الفارسية خلال نيف وأربعة قرون مضت، أي منذ الحملات الأربع للشاه الفارسي (طهماسب) وغزوه القفقاس بين سنتي 1540-1553..
اعقبهم الغزو الروسي القيصري، بمساندة مرتزقة أوروبيين، وضباط ألمان، باجتياحه القفقاس في إطار التنافس الروسي-العثماني وللوصول إلى المياه الدافئة (أي التي لاتتجمد مياهها شتاءً) واحتلال مضائق البوسفور والدردنيل، التي وصفها بطرس الأول (1689-1725) أنها “بوابات بيتنا”، فكانت ضحيته القفقاس الشمالي وسكانه التُنَّاء (الأصلاء) منذ آلاف السنين، وأبرزهم الشركس الذين دافعوا عن ديارهم بشجاعة ضارية وتضحيات أسطورية، وبالقدر الذي سمحت به قدراتهم وإمكاناتهم المحدودة، في مواجهة الحرب العدوانية العنصرية، والاحتلالية (الاستعمارية) الاستيطانية الظالمة, وعمليات التطهير العرقي التي تمت تحت شعار احتلال شركسيا بدون أهلها الشركس. حرب شنتها روسية القيصرية على الشركس وبقية شعوب القفقاس، ضمن خطة إبادة مارستها عليهم قرابة 142 سنة . بدأت عام 1722 بمعركة شيشن التي هزم فيها الروس، وانتهت عام 1864 بمذبحة )وادي اختشيبس، أو أتشيبس(Ачъыпс ، التي ترد في المصادر العربية تحت اسم آخجب ( القريبة من كراسنايا بوليانا اليوم ) في وادي نهر مزمتا، الى الشرق من شاتشة (صوتشي ) مسافة 35 كم على البحر الأسود،وحيث أقيمت الألعاب الأولمبية والرقص على قبورأجداد شركس اليوم وأحفادهم سنة 2014. وقد ارتكبت قوات القيصرية الروسية هذه المذبحة كواحدة من مئات المذابح والمجازرالمروعة قبلها، وذلك في يومي 20 و21 من شهر أيار من عام 1864.
ويتحدث المرحوم الدكتور شوكت المفتي عن هذه المجزرة الأخيرة وإبادة المدنيين الشراكسة على يد الجنود الروس وحلفائهم القوزاق، بما يدمي القلب والفؤاد ويندى له جبين الإنسانية….إن وُجدت ( ر.الصفحة 203 من كتابه -أباطرة وأبطال في تارخ القوقاس- الصادر في القدس عام 1962).
وقد قررت (الجمعية الشركسية العالمية) ومنذ عام 1991, إحياء يوم الـ 21 من أيار، ليكون يوم حداد لشعب الأديغة (الشركس) تحت اسم (يوم الحــــداد الشركسي) Шъыгъо Мафэр)) ، وحفلاً لتكريم الشهداء الشركس ولإحياء ذكراهم في الوطن الأم وفي بلدان المهجروالمنافي. وكان هذا القرار هو الإنجاز القومي الوحيد واليتيم الإيجابي لهذه الجمعية العرجاء في القضية الشركسية طوال 29 سنة مضت من عمر هذه الجمعية المسيرة من جهات ليس هذا مكان الحديث عنها هنا.
وأكرر أن الدافع الاستراتيجي الرئيسي للقيصرية الروسية لكل هذا، هو الموقع الجغرافي لمواطن الروس المحجوبة بمواطن الشركس عن البحر الأسود وسواحله. إذ تركزت تلك الاستراتيجية سابقاً وحتى اليوم على وصية القيصر بطرس الأول كما تقدم، للوصول إلى بحار المياه الدافئة (البحر المتوسط، والخليج العربي والمحيط الهندي)، ولما كانت السواحل الشمالية الشرقية والشرقية للبحر الأسود شركسية، كان على الروس الاستيلاء على بلاد الشركس….. ولكن بدون الشركس.
ولقد سبقت مجزرة وادي أتشبس، معركة نهر غويدليخ في 18 آذار من سنة 1864 والتي كانت أخر أكبر معركة ضد الغزاة الروس، التي هزم فيها الشركس، ومهدت الطريق أمام الجيش الروسي والقوزاق وغيرهم للتوغل في مناطق قبائل الشابسيغ والوبيخ والجكيت الشركسية، دون مقاومة تذكر بعد استشهاد آلاف المدافعين الشركس في المعارك السابقة.
لقد أحرق الجيش الروسي كل إنسان وحيوان، و كل تجمع سكاني ومنزل ومزرعة والمحاصيل والبساتين، حتى أصبحت الأرض و جثامين البشر والمواشي بالفعل رماداً. أما خاتمة الكارثة والإبادة الشركسية فتأخرت حتى 21 آيار من السنة ذاتها.
ولمعرفة حجم المأساة الشركسية وأبعادها يكفي أن نعرف أن عدد سكان شركسيا (أديغيا الكبرى) قبل بداية الغزو الروسي كان يربو على 5.000.000 نسمة، ومساحة بلادهم بحدود 350.000 كم مربع (أي نحو ضعف مساحة سورية قبل 1939)، أبيد نحو 2.000.000 منهم، كما يقدر من تم تهجيره من الباقين حتى عام 1864 بنحو1.750.000 – 1.800.000 نسمة، بحسب تقديرات (ميخوف-بلغاريا، ص 255). أما ما بقي منهم تحت الحكم الاحتلالي الاستيطـاني الروسي فلا يزيد على 106.798 شركسياً غربياً وبحدود 350.000 شركسيا شرقياً عام 1865. أي أن من بقي حياً من مجموع الشركس كان (456.798 نسمة). يعيشون اليوم في جيوب جغرافية متباعدة كأقلية محكومة من الأكثرية الروسية وأقوام أخرى…لكن واقع المأساة هو أكبر بكثير، إذ أن هذه الأرقام هي من الجانب الروسي أو أنصاره. فأرقام الشهداء والضحايا في المعارك وأعمال الإبادة الروسية تفوق 2.000.000، أما أعداد المهجرين فكانت بحدود 1.800.000 شركسي كما سبق ذكره وبحسب التقديرات الشركسية والعثمانية.
تظهر هذه الأرقام فداحة الفاجعة وحجم الخسائر البشرية التي لحقت بالأمة الشركسية في مقاومتها الغزو الاحتلالي (الاستعماري) القيصري الروسي على امتداد قرن ونيف، والتي أودت بأرواح مئات الآلاف، لم يسمع عنهم العالم شيئاً ولم يعرهم العالم الإسلامي أي اهتمام حتى بعد تهجيرهم وانتشارهم في ديار الشتات، أي (بعد خراب البصرة أو مالطة) حتى أنهم وحتى اليوم لايلقون من بعضهم الترحيب في منافيهم على الرغم من مواطنتهم وإخلاصهم لمواطنهم الثانية والتضحية في سبيلها. ولعل صحيفة (نيو نيويورك تايمز) الصادرة في 23 آب سنة 1879 هي الوحيدة التي نشرت مقالاً دعت فيه الشركس بـ ” الأمة المقتولة Murdered Nation “.
أما العثمانيون، الذين حملوا الإسلام للشركس ولم يتمكنوا من حماية الدين ولامعتنقيه ولا موطنهم، فقد استغلوا الشركس باسم الدين في صراعهم مع روسيا أولاً، ثم استغلوا المهجرين الشركس مرة أخرى وقوداً لحروبهم في أوروبا والمشرق العربي وعلى حدود امبراطوريتهم مع فارس ثانياً.
وبعد مضي 156 سنةعلى هذه الإبادة نحيي الآن ذكرى هذا اليوم من عام 2020 كي لا ينسى الأبناء والأحفاد من الأجيال الشركسية القادمة ماضيهم، ويبقى ماجلبه لهم قياصرة الروس من دمار وإبادة، وديموسايد(الإبادة القصوى)، ونكبة، وكارثة، ومذبحة..وو.. (سمها ماشئت)، يبقى راسخاً في مورثاتهم (جيناتهم)، وجارياً في دمائهم إلى أبد الدهر.
وأخيراً وليس آخراً فمنذ أكثر من عقدين من الزمن أخذ العالم يتعرف، ولو ببطء، على هذه الكارثة الإنسانية والمنسية لهذه الأمة، عن طريق ثورة وسائل الإعلام ووسيلة التواصل وغيرها، وأخذت أصوات الاعتراف بالإبادة الشركسية ترتفع (دون نتيجة مشجعة) في محافل كثيرة، حتى قام البرلمان الجورجية بذلك، لخدمة مصالح بلده في حلبة تصارع القوى الكبرى.
أما آن لهذا الشعب أن يعيش في وطنه الأم، وينعم بالحرية، بعد 156 سنة من الظلم والتشريد ؟؟؟؟
1- إعلانين ليوم الحداد والإبادة باللغتين الإنكليزية والأديغية (االشركسية) ببث حي من بلدة كفر كما الساعة 21 اليوم. لامسيرات في أي مكان في زمن انتشار الكورونا.
2- أربع خرائط تبين مرحل احتلال شركسيا الكبرى منذ القرن الخامس عشر حتى 1864
عادل عبد السلام لاش
دمشق 21 أيار 2020
اقرأ:
د. عادل عبدالسلام (لاش): نزوح الشراكسة من الجولان في صيف 1967
د. عادل عبدالسلام (لاش): رحلة مجانية أحن إلى مثلها