مروان حبش: معارك حركة البعث .. من كتاب البعث وثورة آذار (6)
من خصائص مرحلة تأسيس البعث أنه كان يرى أن العبء الأكبر في النضال ضد الاستعمار الفرنسي والرجعية المتعاونة معه قد تحمّله الطلاب الذين كانوا في ذلك الوقت يشكلون القوى الحية والمناضلة في سورية، ويكوِّنون، أيضاً، العنصر المحرك للعمل القومي.
هذا الجانب الذي رافق تأسيس حركة البعث العربي كان له عميق الأثر في البنية النهائية للحركة سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد الأيديولوجي ولسوف يطبع هذا الأثر المرتبط بظروف النشأة والتكوين مجمل حياة الحزب فيما بعد.
إن تكوين الحركة من فئة الطلاب والمثقفين كان وسيبقى إلى فترة طويلة من السمات المميزة لهذه الحركة وكان مجال عملها وتأثيرها واسعاً وفعالاً في المدارس الثانوية والجامعة السورية منبت الزعماء السياسيين ومعقل العروبة وموئل المعارضة ضد الاحتلال الأجنبي والقوى السياسية التقليدية، كما قال رئيس المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي جلال السيد.
وفوق كل ذلك كانت العفوية والحماس من أبرز مظاهر الحركة، ولم تعط إلا قدراً يسيراً من الأهمية لبنيتها الفكرية والتنظيمية، وبقي ما يتحدث به وما يكتبه الأستاذان عفلق والبيطار هو الموجه الفكري والسياسي لأعضاء البعث، لذا لم يتم بناء جهاز حزبي صلب مسلح بمنطلقات فكرية وسياسية واضحة ومتماسكة، ولسوف يترك ذلك آثاره لفترة طويلة على الحزب خصوصاً في سورية.
لقد أرسيت القواعد الأيديولوجية الأساسية لحركة البعث أثناء المرحلة الأولى من تأسيسها ما بين 1943ـ 1944 ومن خلال خوض معارك متعددة، سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد الأيديولوجي ضد جميع القوى السياسية التي كانت موجودة دون استثناء، من الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين، إلى السوريين القوميين مروراً بالكتلة الوطنية وقوة الاحتلال.
معارك ونضال حركة البعث :
لقد خاضت حركة البعث قبل مؤتمرها التأسيسي وإنشاء حزب البعث العربي في 7 نيسان 1947 معارك عديدة على الصعيدين السياسي والأيديولوجي، من بينها:
أولاـ على الصعيد السياسي:
أ ـ معركة الجيش والاستقلال: أصدر مكتب ( البعث العربي ) بياناً، مؤرخاً في 4 شباط 1945، هاجم فيه سياسة الحكمة واللباقة التي تتبعها حكومة الكتلة الوطنية في مواجهة السلطات الاستعمارية الفرنسية. ومما ورد في هذا البيان: إن الحكومة استمرت في تطبيق أسلوبها المتقن في المفاوضات العقيمة… وكانت الحكومة تعلل خلالها الشعب بالآمال الكاذبة ولا يتورع رئيسها عن التصريح في مجلس النواب تارة بأنه استلم الجيش وتارة بأنه استلم بعض مصفحاته، وتارة أخرى بأن المفاوضات تتقدم في سبيل استلامه ولقد طالب البيان باستلام “جميع كتائب الجيش” وبتشكيل حكومة إنقاذ قومية دستورية. فما كان من الحكومة إلا أن عمدت إلى زج صلاح البيطار في السجن، وإحالته إلى القضاء.
ب ـ الحملة على شكري القوتلي: في بيان أصدره مكتب البعث العربي في 8 آذار 1945، بعنوان (حول خطاب فخامة رئيس الجمهورية) ومما جاء فيه: (إن رئيس الجمهورية يدلي بتصريحات لا تعبر كلها عن رغبات الشعب، ولا تمثل إرادته القومية… ويعطي لنفسه حقوقاً أكثر من التي يسمح له الدستور بها. وكانت مناسبة البيان أن القوتلي ألقى خطابا في المجلس النيابي تناول فيه موضوع الوحدة العربية وكشف عن دخوله في محور مع الملك عبد العزيز آل سعود والملك فاروق لمحاربة الوحدة العربية، بحجة محاربة مشروع سورية الكبرى، ورغبته في عقد معاهدة مع فرنسا عملاً بنصيحة (تشرشل) رئيس الوزراء البريطاني.
ولقد مارست السلطة الوطنية، بعد هذا البيان العنف ضد الحركة البعثية وقام وزيرُ داخليةِ سُلطةِ الاستقلال بتقليد ممارسات الفرنسيين، فاعتقل صلاح الدين البيطار ونفاه إلى مدينة مدينة الميادين ضارباً عرض الحائط بنصوص الدستور.
ج ـ كانت المعركة الكبرى التي خاضتها حركة البعث هي تعبئة قواها كلها للإسهام في النضال ضد الاستعمار الفرنسي لانجاز الاستقلال التام والتصدي لعدوان القوات الفرنسية على دمشق، ولقد تجددت هذه المعركة القديمة منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها:
1 ـ أصدر مكتب البعث العربي في 16 أيار 1945 بياناً أبرز ما جاء فيه:
نكثُ فرنسا بعهدها الانسحاب من سورية وتآمرها على الاستقلال بإرسالها جيوشاً جديدة (إلى أرضنا بدلاً من تسليمنا جيشنا ومن إجلاء ما لها من قوى عسكرية).
سكوت الفئة الحاكمة عن مماطلة الفرنسيين وخداعهم بدافع الجهل والنفعية، ومطالبة السلطة الحاكمة أن تنهي المفاوضات مع الفرنسيين في سبيل استلام الجيش السوري من دون الارتباط بأية معاهدة.
ورأى البيان في اشتراك الشيوعيين السوريين مع الفرنسيين في جميع أنحاء سورية باحتفالات النصر على ألمانيا، رأى في هذه الاحتفالات تحدياً واضحاً وقوياً للاستقلال والكرامة القومية.
2 ـ أصدر مكتب البعث في 20 أيار 1945 بياناً دعا فيه الشعب للوقوف صفاً واحداً في وجه العدوان الفرنسي وتأييد الحكومة الدستورية ما دامت قد ” أفاقت من غفوتها وغفلتها، وأخذت تسلك طريق الصواب في مقاومة العدوان الفرنسي بالحزم، وأعلن البيان عن تشكيل حركة (فرق الجهاد الوطني) من بين أعضائها، كما أشار إلى جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وتونس ومراكش فضلاً عن جرائمه في سورية.
3 ـ أصدر البعث بياناً في 9 حزيران 1945 بعد قصف الفرنسيين مدينة دمشق وامتداد عدوانهم إلى بقية الأصقاع السورية، واستُهِلّ البيان بعبارة (لن يعودوا) وطالب بتشكيل (حكومة قومية) تقوم سياستها على برنامج يتلخص في رفض التعاقد مع فرنسا وقطع كل صلة معها وإجلاء قواتها عن سورية ولبنان جلاءً تاماً والشروع حالاً بتشكيل الجيش الوطني والتعبئة الشعبية لصيانة استقلال سورية التام واعتبار قضية سورية ولبنان قضية واحدة والمطالبة بمحاكمة الفرنسيين المسؤولين عن العدوان.
4 ـ وصدر بيان في24 آب 1945 وضّح فيه “البعث” أن الأزمة القائمة في البلاد ليست أزمة وزارية في جوهرها وإنما هي أزمة نظام الحكم بكامله.
5 ـ وفي بيان أصدره بتاريخ 26 كانون الأول 1945 هاجم “البعث” اتفاق بيفن ـ بيدو ورفَضَه رفضاً قاطعاً، ورأى في هذا الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي الاستعماري التفافاً على استقلال سورية ولبنان.
6 ـ أصدر البعث في 4 آذار 1946 بياناً أعلن فيه أن العرب في جميع أقطارهم يؤيدون مصر العربية في نضالها الصلب من أجل استقلالها ووحدتها وجلاء الإنكليز عن أرضها.
7 ـ أرسل مكتب البعث العربي بتاريخ 6 نيسان 1946 برقية موجهة إلى أمين الجامعة العربية والحكومات العربية احتجاجاً على عقد المعاهدة الأردنية ـ البريطانية لأن أسوأ ما فيها أنها (تضمن للصهيونية الآثمة تحقيق أغراضها في فلسطين).
8 ـ دعا البعث في بيان له بتاريخ 2 أيار 1946 إلى إضراب عام شامل، في يوم الجمعة الثالث من أيار، احتجاجاً على قدوم اللجنة، التي عينتها حكومتا بريطانية والولايات المتحدة، إلى فلسطين، والتي أعلنت مقترحاتها طالبة إرسال مائة ألف يهودي إلى فلسطين في الحال، وإباحة الهجرة الصهيونية المطلقة، وإعادة حرية بيع الأراضي لليهود، ورفض قيام حكومة عربية في فلسطين.
9 ـ وفي 24 أيلول 1946 وجه البعث العربي برقية إلى الأمانة العامة للجامعة العربية بالقاهرة يطلب فيها تدخلها السريع لوضع حد لعدوان فرنسا ولنصرة عرب المغرب نصرة فعّالة.
ثانياً ـ على الصعيد الأيديولوجي :
كانت عقيدة الحركة قد تبلورت وصدرت في كراسة في العام 1943 تحمل عنوان (أهداف وغايات) وكانت تعبيراً دقيقاً عن مستوى النمو الفكري الذي بلغته الحركة في تلك المرحلة المبكرة في البدايات. والأسس التي أُرسيت في تلك المرحلة هي:
ـ عقيدة البعث بالضرورة عقيدة شعبية.
ـ عقيدة الحزب عقيدة ثورية انقلابية، لا تؤمن إلا بالحلول الجذرية.
ـ عقيدة الحزب قبل هذا كله وفوق هذا كله عقيدة عربية، هدفها الأول بناء الوطن العربي الواحد والقضاء على داء التجزئة الدخيل.
والنظرة الأولى التي أطلّ منها البعث هي النظرة العربية الشاملة، النظرة إلى واقع الأمة ومستقبلها، والتطلع من خلالها إلى الغد العربي الجديد، الغد الموحد القوي.
ثالثاً ـ على الصعيد التنظيمي :
كان لابد للتنظيم أن يعبر ويجسد النواحي الأيديولوجية، ولذا فإن التنظيم يجب أن يكون:
ـ تنظيماً شعبياً، يعتمد الجماهير الكبيرة المحرومة.
ـ تنظيماً ثورياً انقلابياً، يقوم على العناصر الثورية المناضلة الصلبة .
ـ تنظيماً ديمقراطياً لا مجال فيه للتفرد، تنظيما ينطلق من القاعدة إلى القمة، وتقوده قيادة جماعية منتخبة.
ـ تنظيماً عربياً شاملاً، لا تنظيمياً قطرياً محلياً، وهذا التنظيم العربي الشامل هو أول تطبيق عملي لمعنى الوحدة وأول السير المنظم في سبيلها.
اقرأ :
مروان حبش: تكون حلقة شباب البعث العربي 1942- 1943 (5)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939 (4)
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (2)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (3)
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات