زار الكونت فيليب دو باري، وهو أحد المطالبين بعرش فرنسا، دمشق في ربيع العام 1860، أي قبل أشهر قليلة من المذبحة الرهيبة التي ارتكبت بحق مسيحييها، وكتب نصاً غاية في الأهمية عن أوضاعها العمرانية والتجارية والإدارية في تلك الفترة الحرجة من تاريخها، ولذلك يكتسب نصه أهمية خاصة لأن المدينة لم تتعاف من ندوبها العميقة إلّا مع قدوم مدحت باشا والياً عليها في أواخر العام 1878.
يعرج الكونت دوباري في كتابه الشهير “دمشق ولبنان.. مقتطفات من رحلة إلى سوريا عام 1860” على أهم معالم دمشق، كالربوة وخان أسعد باشا والجامع الأموي والقلعة، ويدوّن ملاحظات مفيدة وشائقة وثقت أوضاع المدينة خلال حقبة كانت تشهد فيها السلطنة العثمانية تحولات مصيرية كبرى، وكان لبلاد الشام حصة كبيرة من هذه التحولات؛ إذ كانت الدول الكبرى تخطط لتقاسم تركة الرجل المريض، ولم تكن مناطق النفوذ في ولاية سورية قد حسمت بين الفرنسيين والبريطانيين بعد.
ومن المواقع التي حظيت باهتمام خاص من هذا النبيل الفرنسي المتعجرف خان أسعد باشا، وهو واحد من معالم دمشق الأساسية حتى اليوم، فمساحة هذا الخان تقدر بحوالي 2500 متر مربع ، وله بوابة رائعة الزخرفة ويتكون من واحد وعشرين مخزناً في الطابق السفلي وخمسة وأربعين مخزناً في الطابق العلوي.
وقد باشر أسعد باشا العظم والي سورية ببنائه في سوق البزورية عام 1752، وقد وثق المؤرخ البديري في حوادث دمشق اليومية وقائع بناء الخان، فذكر أن الباشا صرف عليه في اليوم الواحد ألفاً ومائتي قرش.
أي أن كلفته الإجمالية بلغت أكثر من نصف مليون قرش، ولمعرفة قيمتها الحقيقية يذكر المؤرخ عبد القادر العظم في كتابه “ولاة دمشق في العصر العثماني” أن رطل السمن البلدي كان بقرش واحد وأن ستة أرطال من الخبز بقرش، وأربعة أرطال من الجبن بقرش، والرطل أكثر من 2500غرام.
ويخبرنا البديري أن العمل في بناء هذا الخان استغرق 14 شهراً فقط، وهي فترة قياسية حتى في المعايير المعاصرة. ويعطي فكرة واضحة عن مدى التقدم العمراني المذهل لدمشق في تلك الفترة. كما يقول الباحث أكرم حسن العلبي في كتابه “خطط دمشق”. ويبدو أن الكونت دو باري كان يرى أن أبنية الأسرة العظمية تمثل آخر مظاهر العظمة في فنون العمارة الدمشقية، وعندهم توقفت حركة التاريخ.
لغة رفيعة
يكتب الكونت دو باري نصه بلغة عالية، ترفعه إلى مقام الأدب الرفيع، وهذا ليس غريباً فالتربية النبيلة التي تلقاها كانت تفرض هذا النوع من اللغة والخطاب. وبدا وصفه للمنظر وهو يدخل دمشق في صباح ذلك اليوم الربيعي أشبه بقطعة مأخوذة من رواية رومانسية فرنسية: ” كان الصباح منعشاً ومشرقاً. ولا يزال الريف رطباً.
وحده الثلج الجديد الذي يغطي قمة حرمون الوضاءة يذكرنا بعاصفة الأمس؛ لكن السهول القاحلة التي اجتزناها منذ عدة ساعات بدت غير آبهة لعودة الربيع. قاربنا تخوم دمشق، ويمكننا مع ذلك أن تخمن بأننا وسط الجزيرة العربية. بلغنا أخيراً قمة التلال التي تحجب نظرنا، وفاجأنا دمشق المتباهية ممتدة تحت أقدامنا وسط بساتينها الشهيرة”.
ويستطرد الكونت على طريقة روائيي ذلك العصر: “يؤخذ الرحالة المعتاد على مناظر أوروبا بطابع هذه الصحراء اللامتناهية، وبهذه الواحة الشاسعة، كمثل بحر حقيقي من الخضرة، حيث تلمع المدينة العربية في البياض.
ويضع نهر بردى المندفع الذي يمنح الخصوبة لأرض محروقة ورملية، حداً فاصلاً بين طبيعتين متناقضتين ومتجاورتين معاً، وينشر العذوبة تحت تلك الظلال التي تغنت بأطيابها مخيلة العرب التي ألهبتها الأيام الطويلة المحرقة.. كان معسكرنا منصوباً على ضفافه، وسط شجرات الجوز والرمان، لأننا كنا نملك ما يكفي من الخبرة في البلدان العربية كي لا نحبس أنفسنا وسط قذارتها المزمنة وجوّها الخانق. باحة البستان الضيقة التي نشغلها ضمت جالية حقيقية.
احتفظنا لأنفسنا بمكان قرب المياه، ندافع عنه بحزم ضد المتطفلين؛ هناك نصبنا خيمنا فاخترنا البهو في الظل المتحرك لبعض شجر الحور حيث كنّا ننتقل معه تدريجياً ناقلين طاولاتنا وكتبنا وغلاييننا. في مكان قريب منا، أقيم معسكر أدلائنا ومخيم مكارينا الذين يعيشون سوية مع حيواناتهم، والمقهى حيث تمركز بعض القناصة من الشرطة وحيث جلس أيضاً الزوار والمارة، وهي أمكنة لها روادها وجماعاتها، ويستجلب باب البستان المفتوح أبداً كل العاطلين من العمل للجلوس وسط إحدى الحلقات. وكي لا نغيب عن عادات الضيافة في البلاد، اعتدنا أن نعيش غير مبالين وسط هذا الجمهور الذي يحيط بنا”.
الباشا
ويبدو أن والي دمشق في ذلك الوقت أحمد باشا الذي اتهم بمذبحة 1860 وأعدم على أثرها، قد حضر لاستقبال الكونت قس مخيمه القريب من ضفة بردى، فلم يترك أي انطباع ايجابي لدى النبيل الفرنسي الذي وصفه بأقذع الأوصاف.
وهذا الوالي الإشكالي الذي اتهم بالتراخي في منع المذبحة، كان كما يذكر الشيخ عبد الرزاق البيطار، قد دخل في مرحلة الزهد بالحياة، واتخذ الطريقة الصوفية الخلوتية، واعتزل الناس والأحداث، حتى وقعت المذبحة وهو غارق في أوراده وأذكاره وتأملاته، فدفع حياته ثمناً لذلك.
يقول الكونت واصفاً الباشا: “هاهم ينهضون جميعاً ويقفون بالصف، إنه الباشا. يصل على جواد ثمين السرج، وتزين صدره الأوسمة وتتبعه هيئة أركان كبيرة من الموظفين الذين يلبسون جميعاً ذلك الثوب الأوروبي الذي يميز أسياد سورية من أتباعهم، والذي يكفي أن يرتدوه لكي يفكروا أنهم أصبحوا بمستوى حضارتنا.
أحمد باشا حاكم دمشق وسر عسكر جيش سورية، وأمير الحاج، أي صاحب الحق في استغلال مدينة دمشق التي يقود قواتها العاجزة عن فرض احترام نفوذه، والذي بدلاً من أن يحمي بسيفه قافلة مكة حتى أسوار مدينة المسلمين المقدسة، يشتري حماية قبائل عنزة بأتاوة مذلة. وهو يشتهر بكونه وضيعاً أكثر أمام الأقوياء وفظاً مع الضعفاء كما هي عادة الموظف العثماني”.
حديقة الصوفانية
ثمة إشارة إلى أن مكان تخييم الكونت كان في منطقة القصاع قرب الحي المسيحي، ويبدو أنه كان يتحدث عن حديقة الصوفانية الشهيرة، التي كانت متنزهاً لهذا الجانب من المدينة، حيث يمر نهر بردى في طريقه إلى غوطة دمشق.
يقول الكونت دو باري: “رأينا مشاهد مليئة بالحيوية، دون أن نخرج من معسكرنا. فالضفة المواجهة لبردى محاطة بسياج كبير من العليق، تتقاطعه مروج خضراء صغيرة؛ إنها حديقة عامة يؤمها أفضل الزوار؛ يأتي المسيحيون خاصة منذ الصباح مع عائلاتهم ويجدون لهم مكاناً قرب الماء لا يغادرونه إلا متى حل نسيم المساء مكان عذوبة النهار. يفرشون الحصر، ويقرفص كل في مكانه، ثم يشعلون النارجيلة. تخلع النساء الأحجبة البيضاء الكبيرة التي تلفهن كالكفن، مظهرات أثوابهن المشرقية بألوانها اللماعة والمتناسقة.
تبدأ المسنات بالغزل، وتتهامس الصبايا فيما بينهن. وينعم كل واحد بالعطلة بما يسليه من ألوان الكيف. واحد يدخن، وآخر ينام، ويصل من زاوية بعيدة صوت الطبلة يرافق أغنية عربية ذات نغم كئيب، وتنزل دوابنا إلى الساقية لتروي ظمأها. وتستأثر مشاهد سباحة الخيل بانتباه كل الحضور، ويذكرنا انفجار مدوّ، من وقت لآخر، أن مكارياً مرتبكاً سقط في الماء”.
تاجر الشرقيات
يصف الكونت الباعة الجوالين الذين لا يخلو منهم موقع يؤمه السياح الأوروبيون، فيقول: “لا يلبث أن يغزو معسكرنا بعض الباعة اللجوجين، فيتحول إلى سوق حقيقية. وقف جوزيف أمامي بأنفه الطويل، ولونه الشاحب، وعباءته الضيقة، فيما كنت أكتب، وهو يحمل بشكل رصين طرداً جرى توضيبه بعناية. دخلت معه الخيمة، فعرض هناك نسخة قديمة من القرآن..
باعة آخرون ينتظروننا وهم يدخنون بهدوء، قبل أن يتخاصموا لأسلوبنا، لكنهم ما لبثوا أن تحادثوا فيما بينهم، بتفاهم تام. عرفت أحدهم بعمامته العريضة، ورأسه المستدير الخالي من الرموش، وعينيه الدعجاوين اللتين ترسلان نظرات شريرة؛ إنه عبد الله، الملقب “أبو الأنتيكة” إذ ما من أحد يعرف مثله كيف يفرغ جيوب المسافرين لشراء بعض الآثار القديمة من القرن الماضي..
وقع أحدنا أخيراً في التجربة، وما لبث الآخرون أن تبعوه. فرشت الأقمشة الحريرية، والكوفيات ذات الألوان الزاهية، والقماش المقصّب بالذهب، مضى الصباح في النقاش، ثم دقت ساعة الغداء، فتركنا البائع بعد أن وعدنا بالذهاب إلى مخزنه لرؤية الروائع التي، حسب قوله، ترضي رغباتنا حتى الأكثر تطرفاً منها. هذا كل ما كان يريد الحصول عليه”.
وسنكتشف أن هذا التاجر المدعو جوزيف ليس بائعاً جوّالاً بل أحد كبار التجار في خان أسعد باشا، أشهر خانات مدينة دمشق. إذ يقول الكونت دو باري إنه وصل “أخيراً إلى خان أسعد باشا حيث مخزن البائع المسيحي الذي كان أول من طالب بشرف زيارته”.
ويتابع واصفاً بهو الخان وكأنه يرسم لوحة من لوحات مستشرقي ذلك الزمن: “كان الصمت وعذوبة المناخ والنور الخافت قد جعلت من هذا الخان ملجأ ثميناً لا غنى عنه في هذا الطقس الحار. وهناك نافورة مياهه دافقة وعذبة للذين يصلون مثلنا مرهقين من سفر طويل.
وبالقرب من الركائز العريضة في هذا الخان، تنتظر جمال نشطة تبرك دون حراك محملة بالبضائع إلى مكة. وفيما يفرش عبد أسود بسطه الفارسية في زاوية خلفية، ينظر إليه رجلان جالسان بهدوء على منصة صغيرة وكأنه يمثل دور البائع والشاري. إن لمعظم التجار الوسطاء تقريباً مستودعات في أحد خانات المدينة حيث يجري تخزين البضائع فيها لحمايتها من السرقة أو الحريق.
وتقدم الخانات، فوق ذلك، تسهيلات كبيرة لتحميل وإنزال البضائع، باعتبارها نقطة الانطلاق والوصول لكل القوافل. وصلنا إلى مخزن بائعنا عبر سلم مظلم وضيق، فاستقبلنا بحفاوة. لم يكن ذلك الرجل الذي صادفناه صباحاً في البازار، جالساً بين أصدقائه، يثرثر أكثر مما يعمل ولا يجهد نفسه للالتفات إلى الشاري الذي تدفع به الصدفة إليه.
تكثر هنا عبارات التفخيم. أما استراحات تدخين الغليون والقهوة فتكاد تفقدنا صبرنا، وننتهي بأن نبعثر محتويات الدكان كلها. لكن هذا البائع اللبق يعرف كيف يجعلنا ندفع بالإضافة إلى قيمة البضائع ثمن الكلمات اللطيفة الذي غالباً ما يكون مرتفعاً”.
أبو الأنتيكة
بعد جوزيف، يمضي الكونت دو باري إلى دكان “أبو الأنتيكة”، ذلك السمسار العجوز الذي يبيع القطع الأثرية التي تغري السياح الأوروبيين من الطبقات العليا.
يقول الكونت: “قضينا نصف نهار كامل في دكانه دون أسف لمرور تلك الساعات سدى. فتذوق الشرق يقتضي الوقت المديد، ولا تكفي لمعرفته أن تمتطي كل يوم ظهر الحصان، متجولاً في أرجاء ريفه الأغبر، وأن تكون دائم العجلة للحط والترحال. احتفظنا بعاداتنا الأوروبية واعتبرنا الوقت شيئاً ثميناً..
لقد كان على استعداد للاستمتاع بيوم من الراحة على الطريقة الشرقية. شجرة من التين خضراء تبرز على حائط أبيض ويمتد ظلها الأزرق الشفاف على بلاط من الرخام، باب نصف مفتوح يسمح بدخول شعاع من النور إلى غرفة مليئة بالسلاح والأقمشة. كلها لوحات نبحث عنها اليوم.
إن عمليات الشراء هنا ليست سوى ذريعة، إلا أننا انتهينا إلى اختيار ما أعجبنا، وسط كميات كبيرة من الثياب الرثة ذات الأصول الجيدة إلى هذا الحد أو ذاك. كنا أكثر مهارة هذه المرة. بعد عودتنا إلى المعسكر، حافظنا على خياراتنا، وجاء معنا جوزيف و”أبو الأنتيكة” البائعان المتنافسان لأنهما يقومان بنفس التجارة؛ وضعناهما وجهاً لوجه وهددنا كلاً منهما بأن نختار الآخر، فدفعناهما إلى التنازل. “فرّق تسد”. شعار كل كبار السياسيين”.
وصف المدينة
يعود الكونت إلى وصفه الأدبي الرفيع فيكتب حول طريقة اكتشافه للطابع الإنساني المشترك بين التاجرين المسيحي والمسلم، المختلفين بالشكل، ولكن المتشابهين بالمحتوى. ويقول إن ما يشغله هو تأثير موقع إحدى المدن على تاريخها وعادات سكانها.
ويضيف: “هذا ما أدهشني عندما جلست أمس على الجدران المرتفعة للقلعة التي تشرف على المدينة.. كانت شمس الظهيرة تنشر الألوان في ضوء متناغم، ويرتسم الممر الأخضر العريض على جانبي بردى بالأسود وسط أرض الصحراء المائلة إلى الاحمرار. كل شيء صامت في هذه الساعة المحرقة، وفي هذه المدينة الكبيرة التي تمتد مساحتها تحت أقدامنا كبلاط غير متساو.
صف طويل من الجمال يتجاوز سياج الحدائق، يتحرك ببطء على التموجات الأولى للسهوب. إنه يتوجه نحو الجنوب، ليلتحق دون شك في المزيريب بقافلة مكة؛ ليس هناك ما يرضي ذوق الفنان. لكني اكتشفت طابع دمشق الحقيقي، وفهمت بشكل أفضل مصيرها الغريب عندما رأيت خان القوافل الكبير هذا رابضاً على ضفاف بردى.
فدمشق مرفأ في الصحراء، وقد تعرضت بسبب هذا الموقع للاحتلال والرغبة بها والتهديم وإعادة البناء على الدوام؛ هنا يكمن كل تاريخها. ومن هنا تلك الحوليات الكبيرة والعدد القليل جداً من النصب الأثرية التي تحفظ الذكرى”.
ولا يخفي الكونت معارفه الموسوعية حين يقول: “أغرت هذه الواحة الرائعة المبشرين الأوائل، اجتازوا السهول اللاهبة في الصحراء الكبرى بعد مغادرتهم ضفاف الفرات. وما إن خرجت التجارة من حضارة ناشئة حتى اتخذت منها مستودعها الأول. وصدرت مؤلفات هامة تبرز ثروات أرضها، وأصبحت أقنية المياه على بردى عند مدخل أخاديد جبال لبنان الشرقية قاعدة نظام علمي للري أوحى دون شك لعرب إسبانيا بأعمالهم الشهيرة على منحدرات فالنسيا، والتي استمرت عبر كل الثروات لأنها كانت مفيدة لكل الغزاة..
خيرات كثيرة وثروات كبيرة اجتذبت الرغبات وجلبت الكثير من الكوارث، ولم يبق من دمشق القديمة، دمشق اليونان والخلفاء، وحتى دمشق صلاح الدين، سوى شاهد واحد، هو جامع الأمويين. في هذا الجامع، سيجد المهندس أو العالم وثائق ثمينة للتاريخ وللفن”.
انحطاط الفنون
وأيضاً لا يبخل علينا بمحاولة فلسفة تاريخ هذه المدينة الاستثنائية في تاريخ العرب كما يقول. “إن هذا الموقع الاستثنائي لدمشق هو الذي، بعد أن جذب إليها الكثير من الويلات، رفعها من بين أنقاضها وجعل منها إحدى العواصم الأساسية للعرق العربي. فهي لا تزال تحتفظ بأهميتها الأدبية. ويشهد على ذلك خصمنا القديم الأمير عبد القادر. فلم يكن ابن محيي الدين بلباقته وفطنته السياسية المعهودة، ليأتي ويقيم في دمشق لو لم يعرف النفوذ الذي تمارسه هذه المدينة المقدسة على عائلة مواطنيه الكبرى.
وبما أن دمشق هي المدينة العربية بامتياز، فإنك ترى فيها أيضاً انحطاط هذا الشعب بكامله. لا أريد أن أتكلم ضد هذا الشعب الكبير بأخطائه كما بصفاته النادرة، لكني أرى هنا الكثير من الشواهد على هذا الانحطاط؛ أراه في وضع الفن الحالي. فإذا كان الفن العربي ركيكاً بالأساس، وإذا كان ابن البدوي قد زين دائماً قصوره وجوامعه كمثل خيمة ننصبها اليوم ونرفعها في اليوم التالي، إلا أن التقليد المتأصل عميقاً في عاداته قد عوض حتى الآن عن أعماله التي ينسخ بعضها البعض”.
ويتابع قائلاً: “لا تزال دمشق، تلك المدينة الحديثة رغم قدم تأسيسها، التي تحتفظ ببعض البيوت التي تظهر وكأنها رسمت من قبل مهندسي التماثيل الأكثر استمراراً في القاهرة، معاصري الأيام المزدهرة للحضارة العربية. نكتشف فيها كيف دفعت عبقرية أبنائها الخلاقة بعلوم النقوش والزخرفة إلى مرتبة عالية”.
بعد ذلك يقارن داراً ينسبها لعبدالله بك، ولعله يقصد قصر أسعد باشا العظم، فهو الوحيد في ذلك الوقت الذي يمتلك الصفات التي تحدث عنها، وقارنها بفعنون عصر النهضة الأوروبية: “إن من يجتاز معي الباب الضيق والجدران العالية التي تحجب المسكن الفخم الخاص بعبد الله بك عن فضول المارة وحسد الجار وضراوة الباشا، ومن يجلس، بعد اجتياز ساحاته الرخامية وينابيعه المتفجرة بين شجر الليمون، في إحدى دوره بسطوحها المنحدرة لا يجدني جريئاً جداً في مقارنة هذه السقوف المجوفة وهذه الترصيعات بالخشب المطعم بالصدف وهذا الموزاييك المصنوع من الحجر القاسي وهذه الأفاريز المنحوتة بالأعمال العظيمة في عصر النهضة، فالانحطاط لم يكتمل بعد بنيان هذا القصر وهو ما يزال يشهد على عظمة الفن في تلك الحقبة”.
ويضيف قائلاً: “لكن العربي اليوم نسي تلك الدروس القديمة، وأسياده الحاليين فرضوا عليه ذوقهم البدائي. بيت عبد الله بك واقع في خراب، ولم يبن بعده إلا حسب نموذج من إسطنبول، وكأنه يمكن إعطاء اسم نموذج للتقليد الفج والمبالغ فيه لكل ما أنتجه الذوق السيئ في مكان آخر.. عدت أخيراً من زيارة إلى البيوت الحديثة في دمشق، وعيناي متعبتان وقلبي حزين. لم يعد عندي أي شك بانحطاط العرق العربي، الذي كان موهوباً فيما مضى، والذي هو محروم اليوم من مجرد الحس السليم الذي يميز بين البشاعة والجمال”.
الآباء اللعازريون
ويختم الكونت دو باري حديثه عن دمشق باستعراض لتجربة الآباء اللعازريين إذ كان يرى بأنها تمثل الحضارة الأوروبية في أبهى صورها الساعية لنشر الأنوار في هذا الشرق النائم.
يقول الكونت: ” قمنا ذات صباح بزيارة بيت اللعازريين، واستقبلنا في المساء كبير العلماء. أسس اللعازريون في دمشق جالية حقيقية. ويمثل الأب لوروا قلبها النابض. وإلى صفات الحفاوة والكرم التي استقبلنا بها، فهو كثير التواضع والبساطة، وهي صفات يكتسبها الرجال النشيطون لدى إنجازهم عملاً صعباً. لقد كرس كل حياته وكل طاقاته لنجاح الإرساليات الفرنسية في مصر وسورية، وهو على رأسها اليوم. وتمكن في بلد لا موارد له، أن يمارس كل المهن كمثل جندي فرنسي حقيقي، ملبياً لوحده الحاجات المختلفة لمؤسسته.
منذ زمن بعيد، رفض أحد الباشوات طلبه لبناء كنيسة. فبدلاً من أن ييأس، جمع في بيته ألواحاً من الخشب، وحضرها سراً، وشيد في إحدى الليالي الكنيسة الصغيرة الخشبية التي لا تزال في وسط الساحة كنيسة الجماعة. إنه يبني اليوم كنائس أكبر وأمتن. فقد أصبح مهندساً وبناءً ومقصب حجارة.. وبفضل مثابرته في الأمور الكبيرة والصغيرة، توصل إلى جمع كل المؤسسات الغربية هنا التي يمكن اعتبارها الأكثر فائدة للبشرية، والتي يجهلها الشرق كالموارد الأساسية للحياة الأوروبية”.
وحول المدرسة اللعازرية الشهيرة يقول: “يدير بعض الكهنة من إرسالية دمشق مدرسة تضم ثلاثمائة تلميذ ويوفر لهم تعليماً أرفع من مستوى التعليم العام في البلاد، ويتجول هؤلاء الكهنة في القرى الكاثوليكية يبشرون فيها وينشرون أنوارنا، ويعوضون، باختصار، عن جهل الإكليروس المحلي. وأقامت راهبات القديس بولس بالقرب منهم، لكي ينجزن عملاً بحجم عملهم، ويقضين وقتهن بين تعليم الفتيات والعناية بالمرضى. فهل هناك حاجة لوصف الشعبية التي اكتسبنها خلال بضع سنوات؟
لم يعد المستوصف الذي يعاين فيه الأطباء الفرنسيون كافياً لاستقبال آلاف المرضى من كل الطبقات التي تأتي للطبابة. ويوجد في مدارسهن أكثر من مئتي تلميذة، يتمتعن بذكاء حاد يؤهلهن اكتساب المعرفة، وهن يرغبن أن ينلن الحظوة بنظر المواطنين. لمسنا ذلك حين ألقت الفتيات بعض الأمثال الفرنسية أمامنا، وكان مشهداً طريفاً أضفت عليه تلك الفتيات بثيابهن الزاهية ولهجتهن الشرقية طابعاً مميزاً”.
ولايخفي الكونت فخره بالأب لوروا والرهبان التابعين له، لأنهم بحسب رأيه يمثلون “بعض التطور الجاري في سورية”، لافتاً إلى إعجابه “بما يمكن أن تصنعه إرادة حازمة وذكية بإمكانات زهيدة وغير كافية”. كما عبر عن إعجابه الشديد بقدرة الحضارة الغربية “على إيجاد مثل هؤلاء الرجال لكي يتفانوا من أجل قضيتها..
كنت فخوراً برؤية اسم فرنسا مرفوعاً، وسعيداً بأنني وجدت بين مجتمعات الشرق المندثرة هذه المؤسسة الجميلة لراهبات المحبة التي تذكر بأحد أكبر المنجزات التي قدمتها المسيحية للبشرية، أي تحرير المرأة”.
اقرأ:
نزيه مؤيد العظم: رحالة شامي في رحاب صنعاء
حين حاول الرئيس شكري القوتلي الانتحار في السجن
جمال الدين القاسمي..إلى القدس مع انطلاق القطار الحديدي الحجازي
خير الدين الزركلي.. أخبار دمشق لحظة دخول الفرنسيين