مختارات من الكتب
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939
من كتاب البعث وثورة آذار (4)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939م .. من كتاب البعث وثورة آذار
إن عام 1938 كان عاماً حاسماً بالنسبة للشخصيات التي ارتبط اسمها بتأسيس حركة البعث العربي ولقد شهدت تلك المرحلة سلسلة من الفشل (الفشل في عقد اتفاقية فرنسيةـ سورية، وفشل حكم الكتلة الوطنية، وانتهت بإلحاق لواء الاسكندرونة بتركيا نتيجة لمساومات الدولة المستعمرة “فرنسا” مع نظام أتاتورك التركي، وقد أدى ذلك بالطبع إلى إثارة أقوى مشاعر النقمة والسخط لدى الشعب العربي وخاصة في سورية وساد جو من الغليان الوطني خصوصاً في أوساط المثقفين واضطرم الشعور العربي إلى أقصى الحدود.
وقبل مؤامرة فصل لواء الاسكندرونة عن سورية بعام تقريباً وبعد أن أصاب التفكك عصبة العمل القومي، أسرع فرعها الذي كان أمين سره زكي الأرسوزي إلى الابتعاد عنها وتحول في إنطاكية عام 1937 إلى تجمع سياسي يحمل اسم “نادي العروبة ” وأنشئت في هذا النادي مكتبة أطلق عليها اسم (البعث العربي) وحملت الصحيفة التي أصدرها النادي اسم (العروبة).
لقد كانت هذه المجموعة المنظمة إلى حد ما والتي كان على رأسها زكي الأرسوزي تعتبر من قبل السكان العرب، الناطق باسم الرأي العام العربي خصوصاً في منطقة أنطاكية وكانت تنظم المظاهرات الشعبية وتقف ضد الاحتلال الفرنسي والمطامع التركية في اللواء وتندد بالضعف المهين لحكومات الكتلة الوطنية، وبعد مؤامرة ضم اللواء إلى تركيا غادر الأرسوزي والعديد من العرب في نهاية عام 1938 مدينة أنطاكية متوجهين نحو دمشق، يحملون معاناة “الجرح ” في كرامتهم الوطنية والشعور العميق بالمرارة والغضب.
في دمشق و قبل الحرب العالمية الثانية بقليل وفي أثناء هذه الحرب لعب الأرسوزي دوراً بالغ الأهمية في الحركة القومية وفي التيار الفكري، وخصوصاً، بين الشباب والجيل الجديد، هذا الجيل الذي قُدر له أن يدخل فيما بعد المسرح السياسي، والتفت حول الأرسوزي حلقة من الطلاب والمثقفين الذين أصبحوا فيما بعد من بين المؤسسين الأوائل في حركة البعث.
أما الأستاذان ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وكلاهما كزكي الأرسوزي أنهيا دراستهما الجامعية في باريس، وهنالك نما بالفعل تكوينهما الفكري ووعيهما السياسي.
يقول الأستاذان عفلق والبيطار أنه في عام 1928 عندما كانا تلميذين في الصفوف الثانوية كانت لديهما فكرة بسيطة للغاية عن المشكلة السياسية السورية وكانت القضية الوطنية بالنسبة لهما تُطرح من خلال نضال الأمة ضد الاستعمار، فالذين كانوا يتعاونون مع سلطة الانتداب، أفراداً كانوا أم حكومات، تُطلق عليهم صفات الرجعية والخيانة، والذين كانوا يقودون حركة الاستقلال كانوا يعرفون بالوطنيين. وعندما سافرا إلى فرنسا لاحظا أن التعاطف مع قضية بلدهما كانت تأتي، أحياناً، من جانب الشيوعيين وبعض النواب الاشتراكيين في البرلمان الفرنسي.
دأب طالبا السوربون “عفلق والبيطار ” على قراءة بعض كتب كبار الكتاب والمفكرين الذين عُرفوا بصدق ونبل أفكارهم، وباكتشافهما الاشتراكية وجدا نفسيهما أمام تفسير جديد، كامل وأخّاذ لجميع المشكلات السياسية والاجتماعية التي كان يعاني منها العالم بشكل عام والعرب بشكل خاص، وتوصل عفلق والبيطار من خلال قراءتهما إلى تحديد مشكلات بلدهما في مشكلتين اثنتين: مشكلة قومية ناتجة عن السيطرة الأجنبية، ومشكلة اجتماعية متأتية من خضوع المجتمع للاستغلال والجهل والمرض، ولقد عادا إلى الوطن يحملان فكرة الاشتراكية كتعبير عن الغايتين اللتين أوقفا نفسيهما على تحقيقهما: مكافحة الاستعمار الأجنبي، ومكافحة الرجعية الداخلية بكل أشكالها، وأن النضال ضد المستعمر لن يكون صادقاً وشاملاً ومجدياً إلا إذا كان نضالاً شعبياً وكذلك فإن النضال مرتبط، أيضاً، أوثق الارتباط بحالة الأمة الفكرية والأخلاقية، وأنه لنجوع النضال ضد المستعمر لابد من تهيئة انقلاب فكري يغيِّر المفاهيم القديمة العقيمة ويهز النفوس إلى الأعماق ويخلق لها نظرة أخلاقية جديدة وجدية.
وكان الأرسوزي قبلهما قد درس في السوريون ونال منها إجازة في الفلسفة، وكان يولي، أيضاً، عناية خاصة لدراسة التاريخ وفقه اللغة العربية، وقد قرأ أعمال الفيلسوف الفرنسي: برغسون، والفيلسوفين الألمانيين: نيتشه وفخته، وأشار إليهما في كتبه بعبارات تنطوي على شيء من المديح، ويبدو أنه تأثر بـ (فخته) واستقى منه مفهومه للأمة العربية الذي تحظى اللغة عنده بالأهمية الأولى، وتكمن أصالة الأرسوزي -رغم طوباويته- في كونه وضع نفسه فلسفياً على أرض الثقافة العربية، ولقد كان يضع الأمة العربية في المركز الأول في فكره: (وتبدو الأمة في الحدث العربي كوجدان قومي تصدر عنه المثل العليا وتقدر بالنسبة إليه قيم الأشياء)، ويصرح: (بأن العرب هم المجموعة البشرية الوحيدة الباقية أمينة على القيم الروحية التي أورَثنا إياها أبو البشر آدم)، ورسالة الأمة العربية عنده: (رسالة إشعاع الإنسانية بأنوار الروح).
في تلك المرحلة، أي في أواخر 1938، التي شهدت تحولاً ملحوظاً في الاختيارات والتوجهات السياسية لميشيل عفلق وصلاح البيطار (باكتشافهما) طريق العروبة وتعرفهما على القومي زكي الأرسوزي الذي كان يصفهما بالشيوعييَن، ولكن كان هنالك نوع من التقارب بين مفهومهم للأمة العربية.
في هذا الجو بدءا الدخول إلى أوساط المثقفين العرب وتتابعت بينهما وبين بعض المثقفين اللقاءات والمناقشات ولاسيما مع كامل عياد وشاكر العاص، وجرت، أيضاً، عدة محاولات لم تكلل بالنجاح، بغية إيجاد حركة سياسية موحدة، كان أهمها اجتماع عقده الأساتذة (ميشيل عفلق، صلاح البيطار, شاكر العاص، ميشيل قوزما، أليس قندلفت) استقر الرأي فيه على إنشاء منظمة ولكنها ما لبثت أن انتهت بعد الاجتماع الأول في عام 1939. و يمكن القول أن وجهات النظر المتباينة، كانت سبب إخفاق هذه اللقاءات بين هؤلاء القادة القوميين.
في العام 1939 أسس زكي الأرسوزي في دمشق – وقبل سفره إلى العراق للتدريس هناك – حزباً بزعامته أطلق عليه اسم الحزب القومي العربي، ولم تمتد حياة هذا الحزب إلا مدة قصيرة. وهذا الحزب لا يمت بأية صلة إلى الحزب( السري)، وكانت مبادئ هذا الحزب هي نفسها مبادئ حزب البعث العربي الذي أسسه الأرسوزي بعد عودته، في السنة التالية، من العراق الذي كان قد أطلق عليه اسم (بروسيا العرب )، وكان الطلاب الذين هاجروا من لواء الاسكندرونة -بعد مؤامرة إلحاقه بتركيا- بمثابة نواة حزبه الذي كان قيد التأسيس، وحُدِد الاجتماع التأسيسي في يوم الذكرى الثانية لسلخ اللواء أي في 29 تشرين الثاني 1940، وقال الأرسوزي في خطابه في هذا الاجتماع: (أرى أن نؤسس حزباً ونسميه البعث العربي وأَقترح أن يقسم التنظيم إلى قسمين: سياسي وثقافي).
ومن أبرز مبادئ هذا الحزب التي لم تكن أكثر من أسطر معدودات:
أ: العرب أمة واحدة.
ب: الوطن العربي واحد.
ج: العروبة وجداننا القومي مهد المقدسات، عنها تنبثق المثل العليا وبالنسبة إليها تقد ر قيم الأشياء.
د : العربي سيد القدر.
هـ: الزعامة العربية زعيمها عربي واحد.
كانت هذه( المبادئ ـالشعارات ) أشبه بصرخة عنيفة ترفض الواقع الذي كان الأرسوزي وتلاميذه يعيشونه، رفضاً مطلقاً لأن حياتهم الواقعية بعد الظلم الفادح الذي وقع عليهم لم يكن فيها إشراقة ضوء واحدة فلا غرو أن يصنعوا من خيالهم واقعاً أخر يكون بمثابة بارقة أمل في المستقبل، ولم يكن لدى الأرسوزي أية نظرة إلى الاشتراكية بصورتها الاقتصادية.
لم يستطع هذا الحزب، الذي لم يستمر أكثر من عامين، أن يستقطب إلا اثني عشر طالباً جامعياً، وأكبر من هذا العدد بقليل من طلاب التجهيز الأولى.
كان الأرسوزي طموحاً إلى أن يقود بنفسه كفاح العرب ويرى بعينه تحقيق أهدافهم، كما يقول د. وهيب الغانم، ثم يستأنف كلامه قائلاً: (أخذ انقطاع الأرسوزي عن الواقع يشتد يوماً بعد يوم وأخذت الشكوك والوساوس تحتل مكاناً أوسع في نفسه، لقد تعب سياسياً، قاومه الاستعمار بضراوة، كافحوه على جميع المستويات مادياً ومعنوياً، بدأ يعيش حياة خيالية فيما يتعلق بالواقع من شدة بؤس هذا الواقع وبدأ يزداد حساسية، فكان يكفي أن يرى أحد تلامذته يتلكأ عن اجتماع واحد حتى يشك بسلوكيته ووطنيته، وهذا التعب المتواصل أبعده كثيراً عن أية إمكانية لقيادة سياسية….).
أمام هذا الواقع بدأ (بعث) الأرسوزي يتلاشى منذ العام 1942 وانفض تلاميذه من حوله على صعيد السياسة العملية، بل لقد خرجوا عن طاعته واعتبرهم أنهم تخلوا عنه لأنهم بدؤوا ينتقلون من “بعثه” إلى البعث الثاني الذي أصبح المُعبّر الوحيد عن فكرة القومية العربية في دمشق وأخذت الطليعة تنضم إليه وهو يشق طريقه.
كان وهيب الغانم أحد تلامذة الأرسوزي يرى أن حزب البعث هو أداة الثورة العربية ولا بد أن يستمر -رغم تعب ويأس الأرسوزي الذي لم يعد قادراً على قيادة النضال السياسي- حتى لو لم يكن زكي الأرسوزي على رأسه، لذا أنشأ حزباً جديداً في اللاذقية باسم ( البعث العربي ) كان استمراراً لبعث الأرسوزي من جهة، ومختلفاً عنه من جهة ثانية، وإن غلب عليه طابع بعث الأرسوزي ولكن بدون الأرسوزي.
لقد مر نشوء (بعث) وهيب الغانم في اللاذقية، حسب قوله، بثلاث مراحل: مرحلة التمهيد أو الاستطلاع حتى صيف 1943، مرحلة النشوء والانطلاق وامتدت حتى أواخر 1945، ومرحلة الانتشار الواسع في محافظة اللاذقية وقد استغرقت عام 1946 بكامله والربع الأول من العام 1947 حتى انعقاد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي في 4 نيسان 1947 في دمشق.
اقرأ :
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (2)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (3)
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات