أعلام وشخصياتمقالات
محمد خليل المدرس
محمد خليل المدرس
1901 م – 1958 م
ولد في مدينة حلب
علم بارز من أعلام حلب الشهباء
درس في مدرسة الألمان في محلة الصليبة .
عام 1923 م أصيب بمرض في عيناه
《تراخوما》،سافر إلى أوربا للدراسة والإستشفاء في فيينا وبرلين .
أسس المعمل الشهير للغزل والنسيج ، الذي كان نواة للصناعة الميكانيكية الحقيقية في سوريا ، وعمادا للإقتصاد السوري ونموذجا حيا للصناعة الراقية في البلاد العربية .
كانت أول شركة مساهمة تدعى ( الشركة السورية للغزل والنسيج في حلب ) في منطقة عين التل عام ( 1933).
كان كريما بكل معاني هذه الكلمة وكان أمينا في حقوق الناس ، أديب النفس واللسان ، ذكيا ألمعيا يفهم الأمور بسرعة ويحيط بها .
كان حسن الفراسة في الأشخاص لا يخادع ولا يخدع ، شريفا في خصومته ، ومحدثا بارعا حاضر البديهة سريع الجواب لاذع النكتة يخاطب كل امرىء كما يجب له الخطاب …
كان رحمه الله مغامرا جريئا في مشاريعه ، ذا إرادة جبارة لاتثنى لم يعزم على شيء إلا نفذه ولم يعمل شيئا إلا وأتقنه .
القليلين يعلمون أنه هو وأخوه أحمد خليل من المزارعين الأوائل ، الذين أدخلوا زراعة القطن الأمريكي (لوستار) إلى سوريا الشمالية وكان الفرنسيون قد جربوا زراعته في جهات جبلة عام 1922م .
وبعد زمن قليل جربه في أراضيه فنجح بعض النجاح ، وتابع تجارته إلى أن حذق في الزراعة ، وكان القطن الذي ينتجه في قراه من أفضل الأقطان السورية .
نزل إلى عالم التجارة فافتتح مع أخيه محلا في خان الجمرك في عام 1930 وتعرف إلى التجار ودرس حالة السوق والغزول والمنسوجات وخرج من هذه الدراسة بفكرة المعمل وأجهر بها بين إخوانه وأصدقائه ولكي ينفذ هذه الفكرة في ظروف اقتصادية صعبة جدا كان العالم يعاني عام 1930 م وماتلاها أزمة اقتصادية وفي خضم هذه الأزمة الحادة أراد المرحوم تأسيس معمله وتحقيق أمنيته التي تخيلها وهو فتى لم يتجاوز العشرين إلا قليلا وأسر بأمنيته على بعض المخلصين من أصدقائه ودرسوا المشروع معا فأقروه …
صدرت الأسهم وغطيت (رغم الأزمة) وسافر إلى أوربا ليشتري معدات المعمل ويعتبر تأسيس المعمل بذلك الرأسمال الضئيل أعجوبة الأعاجيب .
ودارت آلات المعمل وظهر إنتاجه إلى السوق إنتاجا رائعا لأول مرة يلبس السوريون ألبسة قطنية جيدة من قطن وغزل ونسج أبناء البلاد.
كان بعيد النظر فادخر مقادير عظيمة من الصباغ الألماني الثابت (انتاندره) كفت المعمل أيام الحرب .وكانت تلك المادة قد فقدت من السوق في ذلك الوقت وارتفعت أسعارها ارتفاعا فاحشا .
ونمت الشركة وربحت وبارك الله فيها، فتوسعت أراضيها ، وتكاثرت مغازلها ومناسجها ، وعاشت عائلات كثيرة طوال سنين الحرب من وارد أسهم قليلة في هذه الشركة .
في غمرة الحرب استجاب رحمه الله لفكرة توزيع نسيجا شعبيا بأسعار مخفضة فأخذ الناس يشترون أقمشة طيبة بأسعار منخفضة جدا، على أن هذا النجاح الذي لاقته الشركة لم يكن وليد الصدفة والظروف فقط بل يعود بصورة حاسمة إلى المبادىء التي أسس المرحوم عليها الشركة ، وإلى أمانته الفائقة وإلى شخصيته وإلى الإخلاص والتفاني والتضحيات التي قدمها بسخاء في سبيل الشركة .
لذكر شيء منها فقد ظل طوال سنين التأسيس وهي عديدة يذهب كل يوم إلى المعمل وكانت الطريق يومئذ وعرة موحلة يذهب كل يوم يحصي الشاردة والواردة وظل قرابة السنة يقف ساعات طوال صيفا وشتاء في قاعات كبيرة وغير مدفئة يناظر تركيب الآلات وقد أصيب من جراء ذلك بآلام في رجله ظلت تعاوده إلى أيامه الأخيرة وكل هذه التضحيات دون مقابل .
إضافة لذلك فقد اختار للشركة نظاما داخليا مستمدا من أرقى وأحدث نظم المعامل في أوروبا ،
إذ أشرك العمال في الأرباح، منحهم الضمان الإجتماعي : فكان العامل إذا مرض يطبب مجانا ويصل راتبه إلى أهله .
فتح مطعما. للعمال يتناولون فيه وجبة الظهربأسعار مخفضة، خصص نصيبا معينا من الأرباح لأعمال البر والإحسان .
كل هذا في وقت لم يكن في سوريا تشريع للعمل ،ولم يكن أحد يتكلم عن الضمان الإجتماعي ، وكان في نيته أن يبني مساكن للعمال يمتلكونها بأجور زهيدة ، لولا أن الظروف حرمته هذه الأمنية .
كان تأسيس للشركة ونجاحها، أكبر مشجع لتأسيس الشركات الوطنية العديدة التي تلتها في سوريا ، وبقيت سنين كثيرة وهي مركز الثقل والبورصة في صناعة الغزول وتجارتها .
اختلف أخيرا مع بغض أعضاء الإدارة ، فاستقال منها بعد عشرين عاما من العمل المتواصل والتفاني ، ترك العمل الذي أحبه ووهبه قوته وشبابه وصحته وماله ، ورحم الله الغزالي حجة الإسلام حين قال :
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
وأعلنت الحرب في أيلول لعام 1939 م ، وكان المرحوم واليا على حلب فعمل كثيرا من أجل تخفيف ويلات الحرب . وصادرت السلطات يوما جميع وسائط النقل في البلد ، فاسترجعها كلها وردها إلى أصحابها . ونظم تموين الخبز للأهالي ، وعاقب محتكريه بدون رحمة .
ثم اختير وزيرا للمالية فتبرع براتبه للخزينة، وكان أول وآخر وزير يفعل هذا .أعطى للأمة وقته وأماتته وإخلاصه .
سافر إلى مصر وعاش في مدينة الإسكندرية مدة عام واشترى مزرعة هناك ليزاول مهنة الزراعة ، لكن أصر عليه أخيه أحمد خليل أن يعود لأرض الوطن وتصفية أعماله في مصر والإستقرار في سوريا فقرر العودة .
في حوالي عام 1950 م أسس شركة 《 مدرس ورينهارد 》 لحفر الآبار الإرتوازية واتخذ مكتبا قرب فندق بارون ، وكان تأسيس هذه الشركة فتحا جديدا في عالم الصناعة والزراعة ، أفاد المزارعين في جميع أنحاء سوريا وفي الأردن والعراق ، وتأسست بعدها شركات عديدة .
وبعد عودته تفرغ للعمل الزراعي في ضيعته《كتيان》يصلحها ويعمل فيها وكان صاحب فكر متقد ومحبا للتطور والتحديث وكانت في تلك الفترة عدد الآليات الزراعية محدودة جدا ، فكان من أوائل الناس الذين اقتنوا جرارات وآليات حديثة لتطوير الزراعة ، وأصبحت قرية نموذجية في تلك الفترة .
تزوج محمد خليل المدرس من كريمة أسعد باشا الجابري ورزق منها بطفلة توفيت في العاشرة من عمرها ورزق بكريمتيه 《ظفر وندى》ومن ثم رزق بنجليه《 وليد وسهيل》وقرر محمد وأحمد خليل شراء قطعة أرض وبناء منزلين متجاورين وعاشت العائلتين هناك … وبعد وفاته اشترت الدولة القصر وحولته 《لقصر الضيافة》والمنزل الآخر تحول لمدرسة 《إيكاردا》.
في مساء يوم من أيام آذار عام 1958م ، فجعت حلب بفقدان الوجيه الكبير وابنها البار
《 محمد خليل المدرس 》
فكان لوفاته الكثير من الحزن واللوعة بين جموع عارفيه .
رقد المرحوم رقدته الأبدية في الأرض الطيبة التي عمرها وأحبها وبرحيله فقدت حلب جوهرة ثمينة من 《جواهر حلب 》(1).
(1) باسل عمر حريري، الموسوعة التاريخية لأعلام حلب