غياث نعيسة – تيار اليسار الثوري، بعنوان: (الحزب الشيوعي السوري: انشقاقات وانحطاط)، موقع الاشتراكي في الرابع من نيسان 2016م
انشق الحزب الشيوعي السوري، عبر تاريخه الطويل، كثيرًا، لدرجة أن الحركة الشيوعية السورية بأغلبيتها الساحقة، أو بالأحرى باستثناء حزب العمل الشيوعي، إن كانت حليفة للنظام أم لا، هي مجرد انشقاقات عن الحزب الشيوعي الأم (البكداشي)، وخرجت من رحمه. بل إن ما يعقد فهم واقع الحركة الشيوعية الرسمية في سوريا أن عددًا من الأحزاب التي تشكلت في العقد الأخير بأسماء أخرى إنما هي مجرد تغيير لأسماء انشقاقات عن الحزب الشيوعي السوري “بكداش”.
والملفت للنظر، أن الحزب الأم وانشقاقاته التي حافظت على انتمائها ”الشيوعي” أو حتى تلك التي تخلت عنها بشكل أو بآخر، تغرف من نفس الوليمة الأيديولوجية الستالينية والانتهازية السياسية المريعة.
ما يلي هو عرض سريع لمحطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي السوري وانشقاقاته ولمحات عن مواقفه، بما قد يفسر مواقفه، وانشقاقاته، عن الثورة الشعبية المستمرة منذ نحو 5 سنوات.
الفكرة الجوهرية التي تبرز في هذا العرض هي أن الحركة الستالينية، وما آلت إليه، مع استثناءات شبه نادرة، إما وقفت ضد ثورة الجماهير الشعبية ومع النظام، وإما مارست أسوأ أنواع التحالف مع قوى رجعية وارتبطت، أو راهنت على، قوى إقليمية ودولية، وكأن الستالينية داء عضال، بالنسبة لأتباعها، لا يكفي تغيير الاسم أو حتى قولهم بالتخلي عن الماركسية لشفائهم منه.
وبكل الأحوال، فإننا عندما نمارس نقدا ونفضح مواقف الأحزاب الستالينية الانتهازية فإننا لا ننسى بأن هذه الأحزاب ضمت وتضم اليوم مناضلين مخلصين وشرفاء، من الواجب العمل معهم وتجاههم، لكننا نعني بشكل أساسي قياداتها وسياساتها وممارساتها.
بدايات التشكل
تشكلت النواة الأولى في 28 أكتوبر 1924 (للحزب الشيوعي السوري – اللبناني)، لكن الأممية الشيوعية الثالثة (الكومنترن) لم تعترف به إلا في سبتمبر 1928 تحت اسم الحزب الشيوعي السوري – فرع الانترناسيونال(الأممية). وتم إعلانه في عام 1930.(1).
وضمت الأنوية الأولى للحزب الشيوعي السوري، مناضلين بارزين مثل النقابي فؤاد الشمالي، الذي يُعتبر الأمين العام الأول لهذا الحزب. ومن المفيد تقديم موجز تاريخي لفترة البدايات، وانتشار الفكر الاشتراكي في بلادنا، والعلاقة الوطيدة والمتبادلة بين مجتمعات منطقتنا، ولا سيما ما يُعرف بالشرق الأوسط ومصر.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى أخذ مفهوم انقسام المجتمع إلى أغنياء وفقراء، ومن ثمّ إلى مستثمِرين ومستثمَرين، ينمو باطراد بفعل التأثير المزدوج للثورة الفرنسية البرجوازية 1789 والثورة البروليتارية الروسية 1917. وكان هذا المفهوم – القديم في التاريخ قِدَمَ المجتمعات الطبقية – قد توضّحت معالمه قبل الحرب العالمية الأولى على يد (الديمقراطيين الثوريين)، أمثال فرح أنطون وشبلي شميل، لكنه أخذ الآن طابعاً أكثر شمولية واتساعاً بفضل التطورات السياسية والاقتصادية – الاجتماعية، التي تسارعت وتائرها بعد الحرب العالمية الأولى ودخول المشرق العربي في دائرة الحكم الإمبريالي المباشر.
قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد زوال الحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد إثر قيام ثورة الاتحاد والترقي عام 1908، ساد نوع من الديمقراطية النسبية في سماء الدولة العثمانية، وظهرت الأحزاب السياسية ومنها الأحزاب العربية. في تلك الأجواء قام الجناح اليساري في الحركة الوطنية العربية الناشئة بإصدار صحيفة (الاشتراكية) في دمشق عام 1912. حصل على ترخيص الجريدة حلمي الفتياني، الذي اشتهرت عائلته في نابلس والقدس بتولي عدد من رجالها منصب الإفتاء وعاش حلمي فترة شبابه في دمشق، وأسهم في الحركة الفنية المُبكِّرة في سورية مع أبي خليل القباني، ورافقه في رحلته إلى مصر تجنباً لضربات القوى المحافظة المعادية للفن والمسرح. ويبدو أن حلمي الفتياني تأثر أثناء إقامته في مصر بالجو التنويري السائد بين عدد من مثقفيها، وعندما عاد إلى دمشق بعد زوال الاستبداد الحميدي اشترك مع عدد من المثقفين التنويريين في نشر الأفكار الاشتراكية. وحصل عام 1912 على ترخيص بإصدار صحيفة (الاشتراكية)، التي عطلتها السلطات بعد شهر من صدورها واضطر حلمي الفيتاني نتيجة مضايقات السلطة إلى مغادرة دمشق.
يمكن تقسيم نشاط الحزب الشيوعي حتى مطلع الاستقلال إلى المراحل الأربع التالية:
المرحلة الأولى، التي بدأت مع تأسيس الحزب الشيوعي عام 1924 وانتهت عام 1930، وفي هذه المرحلة برز اسم مؤسسي الحزب اللبنانيين، النقابي فؤاد الشمالي والمثقف التنويري يوسف إبراهيم يزبك. وفي هذه المرحلة جرى وضع اللبنات الأولى في بناء الحزب، وفي دمشق برز اسم ناصرحدّة وفوزي الزعيم كمؤسسين للحزب الشيوعي بدمشق بمساعدة (الرفاق اللبنانيين).
المرحلة الثانية (1930 – 1935)، التي تبدأ مع إعلان الحزب الشيوعي السوري برنامجه المطبوع الصادر في 7 يوليو 1931 من خلال وثيقة تبيّن غايته القصوى وشيئاً من برنامجه. جاء في البرنامج: (إن النظام الرأسمالي ليس مُنزَلاً من عند الله، كما يدّعي البرجوازيون).. (إننا نريد أن نضع حداً لاستثمار جهود العمال السوريين).. (وكذلك الفلاحون فإنهم مستثمَرون من الإقطاعيين وخدم الاستعمار والمرابين ورجال الدين والحكام).. (النضال المستمر ضد الاستثمار الإقطاعي والرأسمالي).. (إنشاء حكومة العمال والفلاحين في سورية).. (الاستقلال التام والوحدة السورية، سحب الجيوش المحتلة، إلغاء الانتداب).. (الإخاء والتضامن بين جميع الشعوب المظلومة، وإيجاد جبهة متحدة بينها للنضال ضد الاستعمار، وأن تتحد مع طبقة العمال العالمية، التي هي العدو الأكبر للاستعمار).
وبعد أن تشيد وثيقة الحزب الشيوعي السوري بالمثال التاريخي لتآخي الشعوب المختلفة في (اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية)، تطالب بـ: (تحرير الجموع السورية العاملة بدون فرق بين الجنسيات والأديان).. (إيجاد جبهة متحدة بين جميع البلدان العربية للنضال والتضامن المشترك ضد الاستعمار) و(إيجاد حلف بين العمال والفلاحين في البلاد العربية).
المرحلة الثالثة (1936 – 1940) وهي استمرار للمرحلتين الأولى والثانية، لكن بنوعية جديدة في مجال تكوّن الحزب سياسياً وتنظيمياً وفكرياً. برز ذلك واضحاً في غزارة البيانات (المناشير) والكراريس والمطبوعات النقابية والأدبية المختلفة، ومع هذه المرحلة بدأت ترتسم قيادة خالد بكداش العائد من الدراسة في موسكو أوائل 1937، ليصبح الأمين العام للحزب الشيوعي ولمدة 60 عاما حتى وفاته عام 1995.
بعد توقيع مشروع المعاهدة بين الكتلة الوطنية وحكومة الجبهة الشعبية في باريس وتأليف الوزارة السورية الكتلوية في أواخر سنة 1936 ونجاح برلمان كتلوي، دخلت سورية في العهد، الذي أطلق عليه (العهد الوطني الأول) (1936- 1939). ونتيجة لذلك تمكّن الحزب الشيوعي السوري من العمل لأول مرة في تاريخه بصورة علنية في سنة 1937. ففتح مكاتب له في دمشق وحمص وحلب وغيرها. كما تمكن الحزب بتاريخ 15 أيار 1937 من إصدار جريدة (صوت الشعب)، التي أغلقتها السلطات الفرنسية أواخر 1939، وعادت للصدور في 20 يناير 1942. كما استطاع الحزب إصدار الكثير من النشرات والكراريس وتمكن من نشر آرائه في عدد من الجرائد والمجلات المختلفة.
لكن تراجع الحركة الوطنية السورية وصعود القوى اليمينية في فرنسا والنشاط الوطني للحزب الشيوعي أدى في 19 سبتمبر 1939 إلى صدور قرار من المفوض السامي الفرنسي بحل الحزب الشيوعي وإغلاق مكاتبه واعتقال أعضائه إذا اجتمعوا أو تظاهروا.
المرحلة الرابعة (1940 – 1945) وتنقسم أيضاً إلى فترتين: الأولى: فترة العهد السري وتمتد من سبتمبر 1939 إلى يوليو 1941، والثانية: فترة العمل العلني وتمتد من يوليو 1941 إلى ما بعد عام 1945.
وفي هذه الفترة التفّ حول الحزب جمهرة من المثقفين القادمين إلى الحزب من بوابة النضال الوطني والمعجبين في الوقت نفسه بانتصارات الدولة السّوفياتية والمتلهفين إلى ارتياد منابع الفكر الماركسي.
عُقد (المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي في سورية ولبنان) في أواخر 1943 أوائل 1944، في بيروت (2). تحول الحزب الشيوعي السوري إلى أحد المكونات الأساسية للحياة السياسية في سوريا لغاية بداية السبعينات من القرن الماضي. وأخذ عليه في مراحل الأربعينات والخمسينات موقفين أساسيين. الأول يتعلق بقرار تقسيم فلسطين الصادر في 29 نوفمبر 1947، حيث كانت جرائده وصحفه تهاجم، قبل إعلان القرار، التقسيم وتندد به. لكن حال صدور إعلان دعم الدولة السّوفياتية له حصل تبلبل في صفوف الحزب الشيوعي السوري حسمه أمينه العام خالد بكداش بتبني القرار والدفاع عنه لأن (السوفيات لا يخطئون) حسب إحدى مقولاته الشهيرة.
والحدث الثاني هو إعلان الوحدة بين بين مصر وسوريا عام 1958، حين كان فيه خالد بكداش نائبا في البرلمان، تغيب عن جلسة التصويت وأعلن معارضته لمشروع الوحدة، أو، كما يحب بعض البكداشيون وصف موقفه، بأنه “تحفظ” عليها وطرح 12 شرطا لها أولها تعزيز التعامل والتعاون مع الدولة السّوفياتية. وفي ذلك الوقت لم يكن الاتحاد السوفياتي معارضا جديا للوحدة بين مصر وسوريا لكنه كان يدعو إلى ضرورة التعاون بين الشيوعيين ونظام ناصر، كما جرى في العراق من تعاون بين الشيوعيين ونظام عبد الكريم قاسم. في حين أن نظام جمال عبد الناصر كان يعتقل الشيوعيين. هذا الهامش الضئيل من الاستقلالية عن الدولة السّوفياتية فقده سريعا الحزب الشيوعي السوري.
منذ ذلك الحين، أصبح واضحا أن الحزب الشيوعي السوري بقيادة بكداش تابع تماماً للدولة السّوفياتية في تقرير سياساته الداخلية والخارجية، التي يمليها عليه “الرفاق الكبار” كما كان بكداش يصف المسؤولين السوفيات.
لعب الحزب الشيوعي السوري دورا سياسيا هاما في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فقد فاز أمينه العام خالد بكداش في الانتخابات البرلمانية عام 1954 في مواجهة ممثل الإخوان المسلمين عن دمشق ليكون أول نائب شيوعي في تاريخ بلدان المنطقة. وكما هو شائع ومعروف فإن القوى السياسية الأساسية في تلك الفترة كانت الحزب الشيوعي السوري وحزب البعث والإخوان المسلمون والعسكر، بالطبع.
أضرت مواقف الحزب الشيوعي من قضيتي الوحدة مع مصر وقضية تقسيم فلسطين التي دعا وروج لها في شعبيته وأضعفتها كثيرا. لكن سياساته وممارساته نتيجة تبعيته للدولة السّوفياتية أودت به إلى مواقف تتزايد في إصلاحيتها وانتهازيتها، وبنيت على فكرتين أساسيتين. الأولى كانت تبنى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956 لسياسة جديدة عنوانها ”التعايش السلمي بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي”، وأخذت طابعا عمليا أكثر مع طرح الدولة السّوفياتية لفكرة التطور اللارأسمالي، عام 1961، التي فتحت الباب واسعا لتحالفات وخضوع للأحزاب الشيوعية مع أنظمة برجوازية “وطنية”. وهكذا أصبحت بعض جوانب السياسات الخارجية، كمعاداة الإمبريالية أو التحالف مع السوفيات، لأنظمة مستبدة وبرجوازية كافية بالنسبة لهذه الأحزاب الشيوعية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي السوري للتحالف مع البورجوازيات وأنظمة الحكم البرجوازية، ولم يقتصر الأمر على سوريا فحسب. فقد أصبحت، وفق رؤية الدولة السّوفياتية وأتباعها من الأحزاب الشيوعية الستالينية، مصر وسوريا والعراق وغيرها من الأنظمة الشبيهة في العالم الثالث أنظمة تقدمية ودول تسير نحو الاشتراكية عبر طريق التطور اللارأسمالي.
إذن، منذ بداية الستينات لم تعد ميزة هذه الأحزاب الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي السوري، أحزاب تابعة للدولة السّوفياتية فقط، بل إنها تحولت بشكل فج إلى احزاب انتهازية خانت قياداتها المصالح العامة للطبقة العاملة والماركسية. ولم يعد تحليل الوقائع الطبقية لبلدانها وبعض مطالبها سوى غطاء هش لالتحاقهم الكامل بالدولة السّوفياتية وأنظمة الحكم ”التقدمية” البرجوازية في بلدانهم.
هذا الحال ما كان يمكن أن يستمر طويلا، دون أن يخلق الصراع الطبقي في سوريا، وكل البلدان المعنية، توترات شديدة، تمس تماسك الحزب الشيوعي السوري، وأشقائه الستالينيين، بالرغم من القبضة الحديدية للأمين العام على التنظيم، وهيمنة القيادة على كل تفاصيل الحزب، وغياب عقد مؤتمراته لعقود طويلة.
الانشقاقات
لعل الانشقاق الأول في الحزب الشيوعي السوري – اللبناني هو “انشقاق” أو انفصال الحزب الشيوعي اللبناني عنه عام 1964، ليصبح لكل من البلدين حزب شيوعي خاص به. لكن مرحلة الستينات من القرن العشرين شهدت تداعي ”الأنظمة التقدمية” في سوريا ومصر وخصوصا بعد هزيمة يونيو 1967 ونمو حالة تجذر ونهوض يساري عمت بلدان المنطقة والعالم مثل بروز المقاومة الفلسطينية وآيار 1968 في فرنسا وغيرها من الأحداث الثورية، وبرز جيل جديد من المناضلين اليساريين متعدد المرجعيات يتململ من المواقف الانتهازية للأحزاب الشيوعية الرسمية (الستالينية).
وبما يخص الحزب الشيوعي السوري، لعبت شخصية خالد بكداش دورا مركزيا في بناء تنظيم تغيب عنه النقاشات والحوار مع إفراط في مرض عبادة الشخصية، وجو من الاٍرهاب الفكري لأي صوت معارض داخل الحزب. في هذا السياق جاء الإعداد لعقد المؤتمر الثالث، بعد ربع قرن من عقد الثاني، الذي فجًر جدلا كبيرا في أوساطه حول عدد من القضايا: من بينها ضرورة نوع ما من الاستقلالية التنظيمية ودرجة أقل من التبعية للاتحاد السوفياتي (لأن أحد من المتصارعين، حينئذ، لم يدعو إلى استقلالية كاملة عنه). وأيضا التعامل الإيجابي مع القضية القومية، ترافق مع بروز تيار عروبي داخل الحزب، ومراجعة نقدية لموقف قيادة الحزب الشيوعي السوري من الوحدة مع مصر عام 1958. وأيضا القضية الفلسطينية ومراجعة الموقف المتذبذب للحزب منها وموضوع موافقته على تقسيم فلسطين، وطرحت أيضا قضايا الموقف من التحالف مع النظام الحاكم، وقضايا تنظيمية تناولت الهيمنة الفردية على مقدرات الحزب.
انكشفت هذه الخلافات، وظهرت إلى العلن، خلال المؤتمر الثالث لحزب بكداش والذي عقد عام 1969. ولم تحسم فيه الخلافات، مما اضطر بكداش وقيادة حزبه إلى عقد مجلس وطني لحسم الخلافات عام 1971 ونقاش مشروع البرنامج السياسي التي طالب بها المؤتمر الثالث وتناولت القضايا المذكورة أعلاه.
فجّر مشروع البرنامج السياسي الخلافات داخل الحزب الشيوعي، تيار يدافع عن الأفكار “الجديدة” ضم في البداية شخصيات معروفة فيه مثل ظهير عبد الصمد ودانيال نعمة وإبراهيم بكري ورياض الترك وبدر الطويل وعمر قماش وأحمد فايز الفواز وغيرهم، ولم يكن حينها رياض الترك (زعيم الانشقاق القادم) أبرز الرموز المعارضة.
في هذه السنوات جرى انقلاب حافظ الاسد في 16نوفمبر 1970 وعمل النظام على إلحاق عدد من الأحزاب غير حزب البعث به، ودعاها عام 1970 للمشاركة في الحكومة، وبعد ذلك للانضمام إلى ما أسماه ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي أعلن عنها في 7 مارس 1972. هذه القضية فاقمت من الخلافات داخل الحزب الشيوعي السوري الذي صوتت غالبية لجنته المركزية المحسوبة على جناح بكداش على الانضمام للجبهة الوطنية التقدمية، ليتذيل بذلك للنظام الحاكم، مما وضع المعارضة داخله بموقف مواجه مع النظام، بعضها لم يكن راغبا به.
استعان جناح بكداش بما يسمى بـ ”الخبراء السوفيات” الذي نقدوا ما هو مطروح في مشروع البرنامج السياسي، واصفين دعاته بالمغامرة والصبيانية اليسارية والنزعة القومية وغيرذلك من الأوصاف التي تعج بها الستالينية. ومستندا على دعم السوفيات له، أصدر خالد بكداش رسالته الشهيرة في 3 أبريل 1972 يصف فيها معارضيه بـ ”الكتلة التحريفية الانتهازية المغامرة التي يقودها رياض الترك”. وأصبح واضحا أن الحزب الشيوعي السوري أصبح حزبان. وأصدر رياض الترك رسالة له مضادة في 27 سبتمبر 197، تخلى إثرها عدد من حلفائه الهامين عنه وهم: دانيال نعمة وزهير عبد الصمد وإبراهيم بكري الذين أعلنوا عودتهم للجناح البكداشي.
وهكذا عقد جناح رياض الترك “المؤتمر الرابع” في ديسمبر 1973 كحزب مستقل، وانشقاق مكتمل عن حزب بكداش الأم وأصبح اسمه الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، وتعريفه بالمكتب السياسي يحيل إلى أن قادته كانوا غالبية المكتب السياسي لحزب بكداش.
ومن جهته، عقد حزب بكداش مؤتمره الرابع في 26 -28 سبتمبر 1974، وانتخب خالد بكداش أمينا عاما مجددا، ليكتمل الانشقاق بشكليه السياسي والتنظيمي، وبوجود أمينين عامين هما رياض الترك من جهة، وخالد بكداش في الجهة الأخرى. وأصبح لحزب بكداش وزيرين و6 نواب في مجلس الشعب التابع لسلطة حافظ الأسد، بينما انتقل جناح رياض الترك إلى موقع تدرج في معارضته للنظام، ركز على قضية الديمقراطية وابتعد عن التبعية للسوفيات وتأثر بأطروحات الحزب الشيوعي اللبناني والأوروشيوعية التي كانت شائعة في السبعينات وخصوصا في أوساط الأحزاب الشيوعية الإيطالية والفرنسية والإسبانية.
وشارك جناح رياض الترك للحزب الشيوعي السوري في تأسيس تحالف معارض هو التجمع الوطني الديمقراطي الذي تأسس عام 1979 من خمسة أحزاب سياسية، ذات تلاوين إيديولوجية مختلفة، هي:
1ـ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي (مؤسسه جمال الأتاسي).
2ـ الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي ـ أمينه العام رياض الترك.
3ـ حزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي ـ جناح صلاح جديد.
4ـ حركة الاشتراكيين العرب ـ جناح عبد الغني عياش.
5ـ حزب العمال الثوري ـ أمينه العام طارق أبو الحسن.
انشقاقات حزبي خالد بكداش و رياض الترك
أ – انشقاقات الحزب الشيوعي السوري – جناح خالد بكداش
منذ بداية السبيعنات من القرن الماضي ومع انضمام الحزب الشيوعي السوري – بكداش لجبهة النظام ومشاركته فيها، أصبح واضحا أنه صار جزءا لا يتجزأ من السلطة الحاكمة للطغمة البرجوازية لآل الأسد. ومن جهة أخرى، عبًر عن التزام بلا حدود لتبعية لا تقسم للدولة السّوفياتية، وبعدها لروسيا كدولة حتى ولو لم يعد الحزب الشيوعي حاكما فيها. وهذان الاعتباران سيرسمان ملامح وأرضية الانشقاقات التي ستجري داخله لاحقا.
انشقاق مراد يوسف
المؤتمر الرابع لحزب بكداش لم يحقق التماسك المنشود له، إذ تجلى خلاله أن هنالك كتلة وازنة تتبع الرجل التنظيمي المهم في الحزب وهو يوسف فيصل، طالبت بحصة كبيرة في قيادة الحزب ثمنا لدعمها لبكداش في مواجهة كتلة رياض الترك، وكان يوسف فيصل يأمل بالحصول على منصب الأمين العام مقابل أن يكون بكداش الرئيس الفخري، وفق ما تردد عن اتفاق سابق بين الطرفين.
تمت تسوية مؤقتة بينهما في المؤتمر الرابع حيث ابتدع منصب جديد هو الأمين العام المساعد حل فيه يوسف فيصل، وخصوصا أن كتلة أخرى داخل الحزب كانت تشكل تهديدا لكل من بكداش وفيصل، وهي كتلة مراد يوسف النافذة في مدينة دمشق.
وعلى الطريقة الستالينية التقليدية والمعروفة، قام بكداش أولا بتقسيم منطقة الحزب في دمشق إلى منطقتين، لإضعاف مراد يوسف، ووجه للأخير اتهام علني في 9 ديسمبر 1978 بالتكتل، وخلال اجتماع مشترك عُقد في أواسط يونيو 1979 بين الحزبين الشيوعيين السوري والسوفياتي أعلن بكداش رسميا عن اتهام مراد يوسف “بتوتير العلاقة مع البعث وإيصالها إلى درجة القطيعة” و”شرشحة قيادته” و”تمريغها بالوحل” وإفشاء أسرار الحزب للخارج وتحريض القواعد على القيادة.(3).
وفي 28 – 29 يونيو 1979 عقدت اللجنة المركزية لحزب بكداش جلسة محاكمة لمراد يوسف، تم فيها إبعاده عن سكرتارية اللجنة المنطقية في دمشق وعن المكتب السياسي. وفي نهاية العام نفسه أعلنت جريدة “نضال الشعب” لحزب بكداش عن فصل مراد يوسف وكتلته من الحزب. فكانت ردة فعل الأخيرين إنهم قرروا العمل بشكل مستقل تحت اسم الحزب الشيوعي السوري – منظمات القاعدة بقيادة مراد يوسف، وحاولوا هم أيضا من جهتهم أن يحصلوا على اعتراف السلطة البعثية بهم، لكن دون جدوى.
انشقاق يوسف فيصل
بخروج كتلة مراد يوسف من حزب بكداش، عادت المواجهة بين بكداش ويوسف فيصل على أمانة الحزب إلى الواجهة، وتفاقم الصراع بينهما إلى درجة أن بكداش، مع معرفته بسيطرته على العدد الأكبر من المندوبين، دعا إلى عقد المؤتمر السادس لحزبه، في حين كان الفيصليون، يرغبون بمؤتمر متوازن بعدد المندوبين، فعقد بكداش مؤتمره السادس في أواسط يوليو 1986 متهما الفيصليين بالتأثر بالخارج لتحويل الحزب من حزب “بروليتاري” إلى حزب اشتراكي – ديمقراطي. ويُذكر لبكداش أنه قال، حينها، أن فصله لمراد يوسف كان “لأسباب تنظيمية” بينما فصله ليوسف فيصل هو “لأسباب إيديولوجية”!.
وهكذا، في المقابل، عقد الفيصليون، الذين دعموا وتعلقوا بالبرويسترويكا الجارية في الاتحاد السوفياتي، مؤتمرهم السادس في 29 – 31 يناير 1987، وبانضمام حركة “اتحاد الشيوعيين”، وهي انشقاق عن جناح رياض الترك، سنتحدث عنه لاحقا، إضافة لانضمام كتلة مراد يوسف، بضعة سنوات لاحقا، إليه ليصبح اسمه الحزب الشيوعي السوري الموحد. واعترفت السلطة الحاكمة به وجعلته يتقاسم عدد كراسي النواب والوزراء بينه وبين جناح بكداش.
ستصبح قضية “وحدة الشيوعيين” وتوحيدهم وبناء الحزب الشيوعي “الموحد” فعلا، مطلبا مكررا لكل الانشقاقات لاحقا، بالتوازي مع توالي الانشقاقات وابتعاد “وحدة الشيوعيين” عن التحقق أكثر فأكثر.
انشقاق قدري جميل
تحولات كبرى جرت مع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وأصابت الأحزاب الشيوعية الستالينية، بل واليسار عموما، بأزمة عميقة، لكن تأثير سقوطه كان أكبر بما لا يُقاس على هذه الأحزاب، لاسيما بسبب التبعية التي عانت منها الأحزاب الستالينية تجاه الدولة السّوفياتية سابقا.
فمثلا كان يرى بكداش، في تعليقه على انهيار الاتحاد السوفياتي، أن الشيوعيين السوفيات “سيعودون وسيعود الاتحاد السوفياتي”. فالشعور السائد في الحزب البكداشي قبل انهياره هو ما قاله، في هذا الخصوص، خالد بكداش ”نحن الشيوعيين لا يمكن أن نكون من دعاة الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي وعن حزب لينين، بل نحن دعاة الانسجام معهما” (4).
وفي تفسير انهيار الاتحاد السوفياتي يمكن تلخيص موقف حزب بكداش بما قاله حينها أحد قادته وهو قدري جميل واصفا سقوطه بأنها نتيجة ”مؤامرة وانحرافات بدأت منذ نقد خروتشوف لستالين عام 1956″. في حين أن جناح يوسف فيصل وجد أن ”تجربة السوفيات سقطت بسبب أخطاء في التطبيق وليس في الماركسية السّوفياتية” (5).
مع وفاة خالد بكداش عام 1995، ورثت أرملته السيدة وصال فرحة الأمانة العامة للحزب البكداشي، وأصبحت قيادته عائلية، حيث تربعت على أمانته العامة محاطة بصهرها، حينئذ، قدري جميل وابنها عمار بكداش (الذي سيُصبِح هو نفسه بعد وفاة والدته عام 2012 أمينا عاما، بدوره). ثلاثي عائلي سيطر على مفاصل الحزب التنظيمية والمالية.
وفي عام 2000 وفي جو من الدراما العائلية – السياسية، انفصل قدري جميل عن ابنة بكداش، ولم يعد صهرها للعائلة، وازداد إمساك عمار بكداش مع والدته بكل تلافيف الحزب وامتيازاته التي توفرها علاقته بالنظام البعثي. فانفصل قدري جميل، أيضا، عن الحزب البكداشي وأطلق مع مجموعة صغيرة موالية له في منطقية دمشق جماعة عرفت باسم “قاسيون”. دعت إلى “توحيد الشيوعيين” وطرحت ميثاق شرف للتوقيع عليه، محاولة تجميع جسد تنظيمي من كل مَن يرغب من الشيوعيين. وفي عام 2001 استفادت المجموعة من مناخ الانفتاح السياسي القصير والجزئي ودعت الشيوعيين المنشقين والمستقلين للتوقيع على ميثاق يدين ما سمته “عقلية العائلة والإقطاع السياسي”، وأطلقت على نفسها اسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين.(6)
عام 2003، عقدت 6 اجتماعات وطنية، ونجحت بتجميع عدد من الأفراد الذين غادروا الحزب الشيوعي السوري، خلال سنوات انشقاقاته الطويلة، وكان تركيز هذه المجموعة، إضافة إلى مطلب (توحيد الحزب الشيوعي) الذي بقي شعارا لكل انشقاقاته المتتالية، ” خلق حوار وطني ديمقراطي شامل بين جميع أطراف القوى السياسية الوطنية لتعزيز الوحدة الوطنية بعيدا عن الثنائيات الوهمية، بل على أساس معايير وثوابت وطنية جامعة “(7)، وبالتالي وضعت هذه المجموعة نفسها خارج إطار المعارضة، وسعت إلى أن يعترف النظام بها كمكون شيوعي ثالث في جبهته ”الحاكمة” لكنها لم تفلح في ذلك، فبقي تنظيما “مقبولا” من السلطة الحاكمة دون أن تعترف به. وفي ديسمبر من عام 2011، بعد أشهر من اندلاع الثورة والحراك الشعبي الذي شارك فيه عدد من قواعد هذا التنظيم، أعلن عن تحول اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين إلى حزب سياسي اسمه ”حزب الإرادة الشعبية”، نال ترخيصا، هذه المرة من النظام، وأصبح قدري جميل أمينه العام، ودخل الأخير في انتخابات مجلس الشعب للنظام عام 2012 ليصبح نائبا فيه، ومن ثم عينه النظام الحاكم نائبا لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، لكن احتدام التدخلات الإمبريالية في الوضع السوري (روسيا وأمريكا) دفعت بقدري جميل إلى مغادرة سوريا مع عائلته للإقامة في روسيا في شهر أكتوبر 2013، ليصبح جزءا مما يسمى بمعارضة ”الداخل” المقربة من موسكو، وليعمل على المشاركة بمفاوضات جنيف بهذه الصفة.
هيئة الشيوعيين السوريين
مجموعة صغيرة كانت تاركة للحزب الشيوعي السوري، أبرز شخوصها منصور الأتاسي، اندمجت مع اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين لقدري جميل وغادرتها عام 2005، وقف قسم منها بشكل صريح مع الثورة، وتعرضت إلى انقسام حول الموقف من الانسحاب من هيئة التنسيق الوطنية، وهي تحالف لقوى سياسية متعددة تأسس في يونيو 2011، كان ومايزال له موقف ملتبس من الثورة الشعبية. فقد أصدر منصور الأتاسي بيانا باسم سكرتارية هيئة الشيوعيين السوريين بتاريخ 17/9/2012، يُعلن فيه انسحاب هيئة الشيوعيين من هيئة التنسيق الوطنية ليليه بعد يوم منه، أي في 18/9/2012، بيانا مخالف له وينفيه باسم ”أعضاء في سكرتارية” هيئة الشيوعيين.(8)
وعلى كل حال، فإنه واضح أن هذه المجموعة التي تشتت بعض رموزها خارج البلاد قد فرط عقدها. لكن منصور الأتاسي، الذي أصبح مقيما خارج البلاد، أعلن عن تأسيس حزب اليسار الديمقراطي في بيان صدر في 17 نيسان/ابريل 2015 ورد فيه أن “الحزب الجديد نتج عن اندماج مجموعات يسارية وشيوعية وأفراد تاركين لأحزابهم اليسارية التقليدية الملتحقة بالنظام والمبررة لقمعه وإجرامه منذ الأيام الأولى للثورة مع هيئة الشيوعيين السوريين المعارضة للنظام منذ 2005، والتي عقدت في النهاية مؤتمرها وتحولت لحزب اليسار الديمقراطي وشعاره (مدنية – ديمقراطية – عدالة اجتماعية)”. وأضاف البيان الصادر عن الحزب: “يواجه هذا الحزب الجديد جملة من التحديات الكبيرة منها الإجرام الكبير الذي يمارسه النظام، وتشتت أفراد الحزب في الداخل السوري، وفي بلدان اللجوء، كما يواجه انتشار المنظمات الأصولية المتطرفة، والمدعومة من نظام الأسد وداعمه في إيران ومن قبل قوى أخرى، وهذه التحديات وضعف الموارد المالية أجبرته على أن يعقد مؤتمره مستفيدا من وسائل الاتصال الحديثة كالفيس بوك والسكايب، وبعد مناقشات طويلة وشاقة دامت 4 أشهر تم التوصل لمبادئ الحزب الجديد، واُختير يوم السابع عشر من أبريل ليكون تاريخ ميلاد الحزب لارتباط هذا التاريخ بذكرى جلاء القوات الفرنسية عن سوريا”.(9)
ورغم الموقف المؤيد للثورة الشعبية لهذا “الحزب”، لكن لا يُعرف له نشاط يُذكر باستثناء تقارير سياسية دورية كما كانت تفعل هيئة الشيوعيين السوريين سابقا، إضافة إلى ميل سياسي قريب من سياسات الهيئات المعارضة البرجوازية مثل الائتلاف الوطني، فقد ورد في العرض السياسي رقم 70 لهذا “الحزب” تحديده للدول “المؤيدة ” للثورة وهي حسب رأيه ”تمثله بشكل واضح السعودية وتركيا ثم قطر”، ما يشير إلى تبنيه لنفس سياسات المعارضة البرجوازية.
ب- انشقاقات الحزب الشيوعي السوري – جناح رياض الترك
عاش جناح رياض الترك سنواته الأولى بعد الانشقاق باحثا عن هوية تميزه عن الحزب الأم، وإن ركز على القضايا المذكورة أعلاه: الديمقراطية والقومية والاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي، إلا أن معارضته التدريجية للنظام ستكون العلامة الفارقة له، وليست أسسه البرنامجية، فقد دفع تدخل الجيش السوري في لبنان في يونيو 1976 لصالح القوى اليمينية اللبنانية، لحظة القطيعة الأهم تجاه النظام وبداية سياسات ”تصعيدية” تجاه السلطة الحاكمة، لكن تيارا هاما لبعض قيادات وقواعد جناح الترك عارضت هذا الخط انطلاقا من عدم قدرة الحزب على تحمل عقابيله وأخطار” (10). يقف على رأس هذا التيار عضوي المكتب السياسي يوسف نمر وصبحي انطون.
انشقاق يوسف نمر
في هذه الأجواء عقد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي في ديسمبر 1978، بعد أن تمت كل الترتيبات اللازمة لتهميش وجود “المعارضين” فيه لدرجة أن أحد ممثليهم وهو صبحي أنطون قال: ”إذا كان خالد بكداش ديكتاتورا بدون نظام داخلي فإن رياض الترك هو ديكتاتور بنظام داخلي”(11).
انشق تيار يوسف نمر إثر هذا المؤتمر، ليشكل ما عُرف باسم ”اتحاد الشيوعيين” الذي انتهى به الأمر للاندماج بالحزب الشيوعي السوري جناح يوسف فيصل عام 1991. واستمر حزب رياض الترك بتصعيد معارضته للنظام، مع ابتعاد متزايد عن الماركسية، وغياب لرؤية فكرية صلبة لأعضائه مع اعتمادهم على افتتاحيات جريدة الحزب كموجه لسياساته. وفي عز المواجهة المسلحة بين السلطة والإخوان المسلمين، دعا حزب رياض الترك في رسالة داخلية للجنته المركزية في يونيو 1980 إلى تكوين “تحالف ديمقراطي – إسلامي – شعبي”، ولم يوجه نقدا بأي من أدبياته للعنف الذي مارسته جماعة الإخوان المسلمين. هذه السياسة سنجدها بعد عقود في تحالفاته مع الليبراليين والإخوان المسلمين وسكوته (بل أحيانا تبريره، كما فعل أحد قادته وهو جورج صبرة) عن ممارسات السلفيين الجهاديين كجبهة النصرة بعد اندلاع الثورة عام 2011.
لكن الحزب الشيوعي السوري – رياض الترك تعرض مثل غيره من قوى اليسار السوري إلى حملات اعتقال شرسة، خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، فككت الكثير من قدراته، ولم يخرج كوادره وأمينه العام من السجون إلا في أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة.
تغيير الاسم وانشقاق المكتب السياسي
بعد خروج أمينه العام رياض الترك من السجن عام 1998 وعديد من كوادره استعاد الحزب نشاطه، وساهم بتشكيل تحالف إعلان دمشق عام 2005، على أسس ليبرالية – وشبه طائفية، واجتاحته حاجة البحث عن هوية سياسية جديدة للحزب ابتعدت أكثر فأكثر عن الماركسية، وبدأ التنظير إلى أن الماركسية “هي مصدر من مصادر متعددة”، ولم يعارض رياض الترك الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بل رأى أنه رفع العراق من تحت الصفر إلى الصفر، مع هيمنة لأطروحات “ليبرالية” لم تقتصر على الحزب بل في أوساط “النخب” المعارضة عموما.
تتوج هذا التحول الفكري بعقد المؤتمر السادس لحزب المكتب السياسي في نيسان / أبريل 2005، ليتحول إلى “حزب ديمقراطي” باسم حزب الشعب الديمقراطي، بأفكار ليبرالية اجتماعية، في حين رفضت كتلة من هذا الحزب هذا التحول الليبرالي وبقيت تنشط، بشكل مستقل تنظيميا باسم الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، ومن أبرز شخوصها الكاتب محمد سيد رصاص.
انشقاق حزب الشعب الديمقراطي
لم يفلت حزب رياض الترك حتى باسمه الجديد ”حزب الشعب الديمقراطي” وبهويته الجديدة “الليبرالية الاجتماعية” من وباء الانشقاق.
فقد دفعت الثورة الشعبية التي اندلعت في مارس2011 بكل الأفراد والقوى السياسية إلى تحديد الموقف من معمعة الكفاح الثوري، ودفعت بها إلى اصطفافات واضحة وجديدة بين قوى وقفت مع النظام الدكتاتوري واُخرى مع الثورة، وداخلها قوى راهنت على القوى السلفية أو الدول الإمبريالية لإسقاط النظام، وقوى ثالثة وقفت موقف وسطي بين النظام والثورة.
حزب الشعب الديمقراطي وقف ضد النظام ومع إسقاطه، لكنه ربط نفسه بكل هيئات المعارضة البرجوازية بدءا من المجلس الوطني إلى الائتلاف الوطني، وبرر لقوى سلفية جهادية، وراهن على تدخل قوى إمبريالية. في الوقت الذي بقيت فيه آلياته التنظيمية أسيرة للمدرسة البكداشية. لذلك لم يكن مستغربا تفجر أزمة داخلية لديه في عام 2014 حيث أصدرت قيادته عقوبات مجحفة بحق عدد من قياداته وكوادره المعارضين، الذين أعلنوا عن تشكيل “قيادة مؤقتة”، من أبرز شخوصها فؤاد إيليا ومازن عدي ومحمود الحمزة، بقصد إدارة شؤون الحزب والإعداد للمؤتمر السابع. وانفجر للعلن هذا الخلاف في رسالة وجهتها “القيادة المؤقتة” في أول آيار / مايو 2015 تحدد فيها أسباب الخلاف والانشقاق”غير المكتمل”. وجاء في هذه الرسالة: ”أخذت تسود في الحزب قبضة مركزية جديدة بشعبوية واضحة. في ظلّ استمرار الصمت. بسبب تطورات الوضع السياسي الكبيرة، ومن أجل قضية شعبنا على طريق التغيير الثوري العام. تلك الأوضاع العامة – مع الميزات الخاصة بأعضائه – التي تجعل من الحزب، في ضعفه وتخلفه، قدوة بين قوى معارضة أكثر ضعفاً وتخلفاً منه، كانت تحول، جزئياً أيضاً، دون مطالب التغيير والالتزام بوعود المؤتمر السادس الكبرى. كما لم تترك فرصة لفتح أبواب الحزب أمام الشباب ذوي العقل الحديث، والمتعامل مع وسائل التواصل التكنولوجية الحديثة”(12).
وأدانت الرسالة ممارسات قيادة الحزب واصفة إياها ”استفحال مرضي للفردية والتحكم وعودة اللغة البكداشية من مقبرتها. وكان الرد عن طريق أكثر الأدوات تخلفاً وفضائحية: التشهير والعزل والعقوبات المرتجلة”. وفي المقابل، هاجمت قيادة الحزب معارضيها واصفة إياهم بأنهم “تكتل تنظيمي حاول بناءه للتخريب في جسد الحزب بعض الذين انتسبوا إليه في المهجر لغاية ما”، كما اتهمتهم بالتآمر و“التمرد على الحزب وهيئاته القيادية وتجاوز خطه السياسي وتقاليده التنظيمية”.(13)
أصبح حزب الشعب الديمقراطي حزبان، على الأقل، لكل منهما سياساته واجتماعاته وتحالفاته وقياداته.
خاتمة
تفكك الحزب الشيوعي السوري على مدى عقود من الزمن، وانشطر إلى أحزاب عديدة، يمكن القول أن كتلتين أساسيتين بقيتا تحملان، حتى الآن، نفس الاسم هما انشقاقا بكداش ويوسف فيصل (وإن توفيا). وهاتين الكتلتين تقفان مع النظام وترى في الثورة “مؤامرة”، ويشكلان جزءا لا يتجزأ من نظام الطغمة البرجوازي لآل الأسد حيث يرى عمار بكداش أن ما يجري في سوريا ليس ثورة بل ”هجمة إمبريالية رجعية على سوريا كون سوريا هي عقبة في تحقيق مشاريع الإمبريالية والصهيونية” (14). أما الحزب الشيوعي السوري الموحد (جناح يوسف فيصل بأمينه العام الحالي حنين نمر) فإنه يغرف من نفس الموقف التابع للنظام فيقول في بيانه (تقويم المرحلة التي وصلت إليها الأزمة الراهنة في سورية) الصادر في يوليو 2011: ” بدا واضحًا منذ بداية الأحداث أن القوى الخارجية التي أدمنت التآمر على سورية بغية حرفها عن مواقفها الوطنية، ومن أجل تنفيذ المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، رأت في هذه الأحداث فرصة مؤاتية لها، فقامت لتوجيه جماعات مسلحة معدة مسبقا لاستغلال التحركات الشعبية”. وبهذه المواقف التي تكرر معزوفة الأنظمة المستبدة المعهودة في مواجهة الحراك الشعبي، يقف انقساما الحزب الشيوعي السوري الكبيرين موقف الانتماء العضوي في السلطة الدكتاتورية الحاكمة. وهو نفس الموقف المعادي لكفاح الجماهير الشعبية السورية من أجل تحررها، الذي تكرره الأحزاب الستالينية وبعض اليسار المتخاذل في بلدان المنطقة والعالم.
بينما نجد أن بقية الانقسامات إما وقفت موقفا وسطيا أو تحالفت مع السلفية والبرجوازية. لكن هنالك عشرات، بل ومئات، المناضلين في صفوف هذه الأحزاب غادرتها والتحقت بالثورة الشعبية، وبعضها عمل إعلاميًا باسم تنسيقيات الشيوعيين، أو مجموعة كوادر شيوعية في هذه المدينة أو تلك. لكنها لا تملك مشروعًا تنظيميًا خاصًا بها، فغالبيتها العظمى ما تزال تحلم ببناء الحزب الشيوعي “الموحد”، كما إنها لم تقم، بما يكفي، من مراجعة تنظيمية وفكرية لأزمة الحزب الشيوعي السوري التاريخية والمستفحلة، والتي لا يمكن فصمها عن أزمة الستالينية وما أورثته من كوارث سياسية وفكرية وتنظيمية.
إن اليسار الثوري الذي يقوم على قطيعة مع هذه التجربة، بالجوانب المذكورة، ويحمل، في الوقت عينه، التراث الكفاحي للطبقة العاملة والكادحين، وخبرات الثورة الشعبية، هو ما يجب لكل مناضل اشتراكي الارتكاز عليه، لبناء الحزب العمالي الاشتراكي الثوري، الأداة الكفاحية الفكرية والسياسية والتنظيمية الضرورية لانتصار جموع العمال والكادحين، وكافة المضطهدين.
*غياث نعيسة: عضو تيار اليسار الثوري السوري
الهوامش
1- عبدالله حنا، المراحل الأولى لظهور الحزب الشيوعي السوري، نُشر على موقع الحوار المتمدن في 11/3/2011.
2- المصدر السابق
3- محمد جمال باروت، في حال الحزب الشيوعي السوري وانقساماته، جريدة الحياة اللندنية، العدد 13014، تاريخ 21/10/1998
4- محمد سيد رصاص، الشيوعيون العرب في مرحلة ما بعد السوفيات، نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 14/5/2015
5- محمد سيد رصاص، الماركسيون السوريون، جريدة الأخبار اللبنانية، العدد 2819 بتاريخ 22/2/2016
6- الجزيرة نت، التيار الشيوعي في سوريا، نشر بتاريخ 27/5/2013
7- تقرير اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين للاجتماع الوطني السادس، نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 24/8/2006
8- جريدة طريق اليسار العدد 40، سبتمبر 2012
9- موقع عكس السير، بتاريخ 24/4/2015
10- محمد جمال باروت، الحركة الشيوعية السورية وأسئلة المصير…، جريدة الحياة اللندنية، العدد13034، بتاريخ 10/11/1998.
11- محمد جمال باروت، المصدر السابق
12- رسالة القيادة المؤقتة لحزب الشعب الديمقراطي، نشرت على موقع كلنا شركاء في 7/5/2015.
13- طارق عزيزة، “أزمة” حزب الشعب الديمقراطي السوري، جريدة الحياة، 16سبتمبر 2015.
14- عمار بكداش في مقابلة مع صوت روسيا، بعنوان ”بكداش : حول تطورات الأحداث في سورية”، نُشرت على موقع صوت روسيا بتاريخ 13مارس 2014.