كانت مدينة دمشق القديمة داخل السور، وما زالت، تتألف من مجموعة من الأحياء متَّصلٌ بعضها ببعض بطرقٍ ضيِّقة متعرِّجة، وتتفرَّع منها حارات صغيرة نهاياتها مغلقة، أرضها مرصوفة بحجارةٍ بازلتية سوداء، وبعضها مسقوف لبروز الغرف العلوية في البيوت فوقها، ومن هذه الأحياء حيُّ القيمرية الذي تجولت فيه مؤخراً بصحبة عددٍ من أعضاء الجمعية الجغرافية السورية، وبإشراف المهندس المعماري حسان نشواتي أحد أبناء هذا الحي الدمشقي العريق، ومن شرحه وواقع مشاهداتي أكتب هذه المقالة، آملاً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.
القيمرية حيٌّ دمشقيٌّ كبير ضاربٌ في أعماق التاريخ، ولكنه لم يشب، غطت منه الأرض أكثر مما أظهرت، ودفنت منه الأتربة أكثر مما كشفت، وتتابعت فوق أزقته دهورٌ وحقبٌ، حتى وصل إلى شكله الحالي، وهو من الناحية الاجتماعية أنموذجٌ رائع للوحة فسيفسائية تمثل الناس الذين عاشوا بدمشق بجميع أجناسهم وأديانهم ومللهم ونحلهم وثقافاتهم وصناعاتهم، مسلمين ومسيحيين ويهوداً.
يُعتقد أنَّ اسم «القيمرية» مستمدٌ من «كنيسة مريم» أو «المريمية» إحدى كنائس الحي، وأصلها باليونانية «إيكوس ماريا» ومعناها: «بيت مريم»، وحرَّفته الألسن على مدى السنوات إلى «القيمرية»، أو من كلمة: «كامار» اليونانية ومعناها: «البيت الكبير». وقد يكون نسبةً لـ: «ناصر الدين أبو المعالي حسين القيمري الكردي» أحد قادة الملك الناصر يوسف الأيوبي الثاني، المتوفَّى عام 663 هـ، 1265 م، الذي أنشأ مدرستها «القيمرية»، وكان مهتماً بالساعات التي أقامها على واجهة المدرسة.
يقع حيُّ القيمرية إلى الشرق من الجامع الأموي حيث ينتصب بابه الشرقي الذي يُعرف بباب جيرون، وعُرف لاحقاً بباب الساعات، يبدأ من حي النوفرة بدرجٍ حجري، حيث يقع مقهى النوفرة أشهر مقاهي دمشق التاريخية، ويمتد حتى منطقة القصاع وبابي توما وشرقي، وهما من أبواب دمشق القديمة، ويحده من الشمال «حارة الجورة» وباب السلامة ومنطقة العمارة، ومن الجنوب الشارع المستقيم شارع مدحت باشا عند الكنيسة المريمية. ومع امتداد الحي ضمن سور دمشق، إلا أنَّه ليس متصلاً معه في أيِّ نقطة، ويُعَدُّ بمنزلة القلب من الجسد داخل المدينة القديمة المتميزة بأصالتها، وتبلغ أطواله كيلو متراً واحداً طولاً وعرضاً.
ليس من المعروف على وجه الدقة متى نشأ حي القيمرية، ولكنه معروف منذ أيام الرومان بشارع الأعمدة التي ما زال بعضها قائماً حتى الآن، وهو الطريق الممتد بين بوابة جيرون وساحة الأغورا القريبة من باب توما، ويُعتقد أنَّ اسمه قد بدأ بالظهور منذ عام 461 هـ، 1069 م، وهو عام حريق قصر الخضراء الذي كان مركزاً للحكم الأموي، وترسخ الاسم بعد عام 660 هـ، 1262 م، وهو العام الذي أُسست فيه المدرسة القيمرية الواقعة وسط الحي حالياً، وكان آنذاك تجمعاً تجارياً وسكنياً، ولكنه كان يُعرف بتسمياتٍ أخرى مثل: سوق المطرزين، وفي هذا دلالة لمهنة انتشرت بالحي، سوق الحريمين، وفي هذا إشارة إلى أنها كانت سوقاً تجارية تختص بمتطلبات النساء، كما عُرف في وقتٍ لاحق باسم الهند الصغيرة تشبُّهاً بها لانتشار صناعة القماش فيه.
تتفرع من الجادة الرئيسية لحي القيمرية عدة حارات، منها: سويقة جيرون، حارة النقاشات، زقاق المتولي، تلة سوق القاضي، زقاق بين الخمارات، ساحة الدوامنة، زقاق الشهبندر، تتميز الحارات بضيقها، حيث لا تزيد على المترين، ورصفها بالحجارة البازلتية السوداء المستطيلة، وهي مرتفعة قليلاً في الطرفين ومنخفضة في الوسط لتسهيل جريان مياه المطر. الحارات متصلٌ بعضها ببعض، عند مدخلها آثار أبواب قديمة كانت تفتح نهاراً وتغلق ليلاً. أما بيوتها فهي طينية تبرز من طابقها العلوي غرف تقترب كثيراً من بعضها مشكلة ما يُعرف بـ: «سيباط»، ومعناها سقيفة بين حائطين تحتها ممرٌ للمشاة لتقيهم أحوال الطقس. تتميز بعض البيوت باتساع مساحتها، تتوسطها باحة سماوية يشرف عليها من فوق طابقٍ ثانٍ، أغلب البيوت بحاجةٍ إلى ترميم لاستمرار ديمومتها، وإلا فإنها آيلة للسقوط ولا سيما أنَّ أغلبها قديم، أما القسم الأقل فهو مرممٌ بشكلٍ جيد. ولعلَّ من أشهر بيوتها: «قصر الشهبندر» الذي كان يسكنه في وقتٍ مضى الزعيم الوطني السوري عبد الرحمن الشهبندر، وهو الآن فندق فاخر يحمل الاسم ذاته، حاله كحال الكثير من بيوت القيمرية التي تحولت إلى فنادق ومطاعم ومقاهٍ.
ولقد اشتهرت القيمرية بالحمامات العامة التي تعكس اهتمام السكان بالناحيتين الصحية والاجتماعية، وكانت تتزود بالماء من نهر بانياس أحد فروع نهر بردى، بعضٌ منها مهمل، وبعضها ما زال يعمل: أذكر منها حمام القيمرية نسبة للمدرسة القيمرية لقربه منها، كان يعمل حتى سنواتٍ قليلة مضت ولكنه مغلق حالياً، حمام البكري، حمام الجورة، حمام سامي، حمام النوفرة، حمام البابين، حمام القاري، حمام نور الدين.
كذلك ضمت القيمرية جوامع ومدارس عديدة، أذكر منها جامع البكري، الجامع الفتحي، جامع السفرجلاني والزاوية السعدية، جامع النوفرة. ويأتي في مقدمة المدارس «مكتب عنبر» الذي يشغله الآن «قصر الثقافة»، مدرسة القطاط، المدرسة المسمارية، المدرسة الرواحية، بعض المدارس ما زال يقوم بوظيفته، وبعضها الآخر مهمل. وما يعكس تلاحم سكان حي القيمرية مسلمين ومسيحيين وجود كنائس عدة يأتي في مقدمتها كنيسة القديسة مريم للروم الأرثوذكس ذات الأصول البيزنطية وتعود عمارتها الحالية للقرن التاسع عشر، كنيسة القديس يوحنا الدمشقي التي بُنيت عام 1858، الكنيسة الإنجيلية المشيخية الوطنية التي شيدت عام 1866.
واشتغل أبناء القيمرية بمهنٍ وحرفٍ عدة، أشهرها تجارة الحرير، ولا يزال هناك خان بزقاق الشهبندر معروف بخان الحرير، وامتهن القيمريون صناعاتٍ رديفة كالنسيج والحياكة والصباغة، وصناعة الصابون التي كانت تنتج بمصبنة القيمرية المهملة حالياً، وصناعة مادة النشاء بقاعاتها، حيث كانت واحدة بجادة القيمرية وأخرى بجادة معاوية، ومهنٌ أخرى كتطعيم الخشب بالصدف والعطارة وصياغة الذهب والطباعة وغيرها. كانت هذه المهن تمارس بالخانات، حيث كانت هناك خانات الوردة والحرير والمحروق المندثرة حالياً، وخانات عيسى القاري، الصواف، أسعد باشا التي ما زالت قائمة. ولكن أشهر معالم القيمرية هي مطبعة الترقي التي وجدت لنشر العلم والتنوير، إحدى أقدم مطابع دمشق وأكثرها إنتاجاً في الطباعة والنشر، ولكنها مغلقة حالياً.
تلك هي نظرة سريعة على حي القيمرية الدمشقي العريق، وما هو في الحقيقة والواقع سوى وجهٌ لدمشق في جميع جوانب حياتها، فهو من الناحية التاريخية ضاربٌ في أعماق التاريخ القديم لهذه المنطقة، ومن الناحية الاجتماعية أنموذج رائع للوحة فسيفسائية تمثل الناس الذين عاشوا في دمشق بجميع أجناسهم وأديانهم ومللهم ونحلهم وثقافاتهم وصناعاتهم. أشير إلى أنَّ حي القيمرية مسجلٌ في لائحة التراث الثقافي العالمي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)؛ باعتباره جزءاً من مدينة دمشق القديمة داخل السور الموضوعة بكاملها في اللائحة منذ عام 1979.