مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): رحلة مجانية أحن إلى مثلها
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
جاءني بالأمس القريب خبر وفاة زميل دراسة لي ألماني يدعى ولفغانغ تروشكة عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. انقطعت عني أخباره بعد عودتي إلى سورية سنة 1965، فلم أره بعدها سوى مرة ة احدة حين كنت في زيارة لجامعتي في برلين سنة 1991 وأنا في طريقي إلى ميه قوابه عاصمة جمهورية الوطن الأم أديغيا ، بعد زوال الاتحاد السوفييتي. لقد كان رحم الله غيرياً بعيداً عن التبجح والترفع على الغير، وكنا كثيرا ما نلتقي في المحاضرات المشتركة وفي المنزا (مطعم الطلاب)…..وما دعاني لتذكره اليوم ، ليست وفاته وحدها فحسب، بل مناسبة لطيفة جمعتنا وزميل آخر لنا يدعى (هانس…) في رحلة لم ولن أنساها، قمنا بها نحن الثلاثة إلى الشمال الألماني والدانمارك. وهي رحلة قد يتبادر لأذهان الكثيرين أنها زيارة إلى احدى الأماكن السياحية المشهورة في العالم، أو أنها رحلة على متن سفينة سياحية….بدعوة واستضافة طلبة جامعيين (منتوفين !!! ) من جهة ما …. لا هذه ولا تلك …….إنها رحلة طريفة لاتمت إلى كل ما ذكرت بأية صلة….بل كانت واحدة من تجارب زمن الشباب والمغامرات في بلد ذي ثقافة مغايرة لما هو سائد في بلداننا، أردت اختبارها.
بعد انتهاء الفصل الدراسي الجامعي (السيمستر) الأول في كلية الرياضيات والعلوم الطبيعية ( MAT. NAT.) في جامعة برلين الحرة، اقترح على زميلا دراسة ألمانيان أن نقوم برحلة جغرافية ميدانية لمدة أسبوعين إلى الشمال الألماني لدراسة تضاريس الجليديات الرباعية، فوافقت فوراً، وسألتهما عن التكاليف، فأجابا أن 10 ماركات غربية كافية. (كان المارك الغربي يساوي 95 قرشاً سورياً أي أقل من ليرة سورية ……ويقابله اليوم اليورو وسعره أكثر من 1000 ليرة سورية ؟؟؟؟؟) ، فظننت أن ذلك مزحة، لكنهما قالا أننا سنسافر متطفلين (أوتو ستوب، أي تعليقة باللغة العامية)، وأننا سنكسب ما يكفينا بالعمل أثناء الرحلة. وطلبا مني استصدار هوية طالب خاصة ببيوت الشباب في ألمانيا، فأعجبتني الفكرة، وتحمست لها للتعرف على تجربة جديدة علي. ولما كان علينا عبور أراضي جمهورية ألمانيا الديموقراطية المعروفة لدى الألمان الغربيين بـ (المنطقة Die Zone) ذهاباً وإياباً، استصدرت التأشرة المناسبة من برلين الشرقية في القطاع السوفييتي، برسم قدره 10 ماركات غربية لكل مرة (كان المارك الغربي يعادل 4 ماركات شرقية)
وفي الساعة المحددة وقفنا على قارعة الطريق الخارجة من برلين الغربية العابرة لألمانيا الشرقية والمتجهة إلى هانوفر في ألمانيا الغربية، وقفنا في مواقع متباعدة، لان استضافة المسافرين لمتطفل واحد أيسر من السماح لثلاثة بالسفر معاً. وكان كل منا يحمل لوحة (كرتونة) كتبنا عليها كلمة (هانوفر)، محطتنا الأولى ، التي اتفقنا على اللقاء في بيت الشباب فيها. وكان حظي أوفر من حظ زميلَي، إذ توقفت سيارة فولكس فاغن (سلحفاة) يقودها رجل في الستينات مع زوجته. ركبت ومعي حقيبتي ظهري في المقعد الخلفي. وما أن أقلعت السيارة حتى بدأت الأسئلة والاستفسارات تنهال علي، وبشكل لاينقطع خاصة من قبل الزوجة. و تزايد سيل الأسئلة حين عرفوا هويتي وجنسيتي وديانتي ووو… بحيث لا أذكر أنهم أغفلوا سؤالاً عن دراستي وبلدي وأسرتي ومعيشتي، لم يطرحوه علي حتى وصلنا هانوفر، وكان الزوجان من أهلها، ودعاني الزوج للمبيت عندهم. فاعتذرت له مع شكري، لارتباطي مع زميلين متطفلين آخرين باللقاء في بيت الشباب.، الذي أوصلاني إلى بابه مشكورين.
سجلت وصولي في بيت الشباب، وأُعطيت سريراً مقابل مارك غربي واحد لليلة واحدة، وانتظرت وصول زميليي اللذين تأخرا عني نحو ساعة (هانس)، وثلاث ساعات (ولفغانغ). والخدمات في بيت الشباب ذاتية، وسعر وجبة الطعام كانت نصف مارك غربي. وبعد سهرة قصيرة ورواية كل واحد منا قصة سفره من برلين إلى هانوفر خلدنا للنوم. وفي صبيحة اليوم التالي اتجهنا إلى مخرج مدينة هانوفر للسفر شمالاً متطفلين أيضاً. وكان سفرنا باتجاه مدينة هامبورغ أولاً ثم ولاية شليزفيغ هولشتاين متقطعاً، مرة سيراً على الأقدام ومرة متطفلين بالسيارات. وكانت أبرز محطاتنا قرية صغيرة، تدعي بولرسن Bollersenعملنا فيها عند مزارع ساعدناه على نقل القش والأعلاف إلى مخازنها، بأجر مجد ، إضافة إلى الطعام والمبيت. وتكرر ذلك ثلالث مرات في مزارع مختلفة. وبعد دراستنا لمظاهر التضاريس في الولاية بتنا ليلة في بلدة فلنسبورغ Flensburgالحدودية ، حيث رأينا متابعة دراسة التضاريس في الأراضي الدنمركية. وهنا برزت مشكلة عدم حيازتي لتأشيرة دخول إلى الدنمارك. ومع ذلك استشرنا مسؤول الجوازات في الجانب الألماني فأفادنا، أن الهوية الجامعية صالحة بالنسبة للجانب الألماني، وأن هناك إمكانية قبولها كوثيقة رسمية من الطرف الدنماركي. تابعنا سيرنا إلى مركزالحدود الدنماركي. وشرحت للمسؤول فيه وضعي وهدفنا من الدخول إلى الدنمارك، وذكرت له ماقاله زميله الألماني بنوع من التحريض والتحفيز. فاستجاب وسمح لي بالمرور بعد تزويدي بكتاب يخولني البقاء في الدنمارك مدة أسبوعين. أما زميلاي فلم يكونا بحاجة إلى كتب مشابهة، وكانت هوية جامعة برلين كافية. نعم حصل هذا في عام 1961. فما رأي أنظمة الحكم في البلاد العربية؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وللمقارنة أذكر ما عشته سنة 1974، إذ كنت مشرفاً على رحلة من جامعة الكويت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة …أننا وعلى طريق سفرنا من دبي إلى أبو ظبي( نعم من إمارة إلى إمارة في دولة واحدة؟؟؟؟)، توقفت سيارات الرحلة، في مخفر لشرطة دولة الإمارات العربية المتحدة، في موقع يعرف بـ: (سيح شعيب)، كان يشكل سابقاً نقطة تفتيش حدودية بين إمارتي دبي وأبو ظبي قبل الاتحاد. صعد الضابط المسؤول وسأل إن كان بيننا غير كويتين أو بحرينيين، ولما علم أنني سوري طلب جواز سفري، كما طلب جواز سفر زميل مصري، وبعد تصفحهما، لم يسمح لنا بدخول أراضي إمارة أبوظبي بحجة أنه لا توجد على جوازات سفرنا تأشيرة دخول من دبي إلى أبو ظبي. فذهلت من قوله، فسألته، ألا تكفي تأشيرة الدخول إلى (دولة الإمارا ت العربية المتحدة التي قامت سنة 1971)، فأجاب أنه لايعترف بها، وأن علينا العودة إلى دبي ومراجعة (قنصلية أبو ظبي ؟؟؟؟) فيها. نعم حصل هذا بعد مضي ثلاث سنوات على قيام الدولة. لكن تدخل مندوب وزارة التربية الإماراتية أنهى المشكلة، التي بقيت موضع تندر زمناً طويلاً.
أمضينا ثلاثة أيام في الدنمارك وزرنا كوبنهاغن، ثم عدنا إلى برلين على مرحلتين متطفلين بنفس الأسلوب الذي غادرناها به. والطريف في الأمر أننا عدنا ومع كل منا يحمل مبلغاً من المال لا يستهان به بالنسبة لطالب، توفر مما جنيناه أثناء الرحلة.
عادل عبدالسلام لاش
دمشق: 14 -1 – 2020