مقالات
سعد القاسم: مجلة الحياة التشكيلية
في خريف عام 1980 كان المشهد التشكيلي السوري يمتلك حيوية مدهشة تعبر عنها المعارض المحلية والزائرة التي تكاد لا تتوقف، والحوار الحار، غير المعلن، بين المفاهيم المختلفة لأجيال التشكيليين السوريين، المتزامنين في حضورهم الإنساني والإبداعي، وقد تجلى من خلال تجاربهم المتباينة، والمتعددة التأثيرات والمصادر والتوجهات..
والتناغم النشط بين أفكار ومقولات وجدت لها موقعها الرحب في حوارات التشكيليين والمهتمين بالفن التشكيلي حول مفاهيم الهوية واستلهام التراث، ومواكبة العصر ونتاج مبدعيه، في شتى أنحاء العالم.
كل ما سبق كان يؤكد الحاجة إلى وجود مجلة تشكيلية سورية متخصصة، وإليه كان هناك ما يبشر بولادة مثل هذه المجلة استكمالاً لمجموعة (الحيوات) كما كنا نطلق على المجلات الفصلية المتخصصة التي بدأت وزارة الثقافة بإصدارها منذ أواخر السبعينات. ففي صيف عام 1977 صدر العدد الأول من مجلة «الحياة المسرحية». وفي عام 1978 صدر العدد الأول من مجلة «الحياة السينمائية». فيما تأخر صدور مجلة «الحياة الموسيقية» إلى عام 1993 .
أنشئت مجلة (الحياة التشكيلية) بموجب قرار السيدة وزيرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار رقم 601/و تاريخ 24/7/1980. وصدر العدد الأول منها في الربع الأخير من العام ذاته عن أشهر (تشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول) في مئة وستين صفحة من قطع يكاد يكون مربعاً (24×28 سم) وبالأبيض والأسود، عدا الغلاف وثمانية صفحات ضمت صور لوحات ملونة بسبب تواضع إمكانيات الطباعة المتاحة حينذاك.وقد حدد ثمن العدد بـ 300 قرش سوري (3 ليرات)، والاشتراك السنوي داخل سورية وخارجها بما يعادل 21 ليرة سورية، مضافاً إليها أجور البريد (عادي أو جوي حسب رغبة المشترك). واقتصرت هيئة تحرير المجلة على رئيس تحريرها الناقد المعروف طارق الشريف مدير الفنون الجميلة في وزارة الثقافة حينذاك، والمشرف الفني الفنان مأمون الحمصي، والخطاط الفنان جمال بوستان. واستمرت المجلة على هذه الحال حتى صيف عام 1999 حين شكلت لها هيئة تحرير لأول مرة. وفي الواقع فإن المجلة قامت كلياً على جهود الناقد طارق الشريف منذ عددها الأول وعلى امتداد العشرين عاماً التالية.
شغل غلاف العدد الأول تفصيل من لوحة (لماذا؟.. من صور النكبة) التي رسمها الفنان المعلم محمود جلال عام 1948 ، وهي تصور شيخاً فلسطينياً مهجراً يفترش الأرض إلى جوار صبية وضعت جرتها إلى جوار عصاه، وتفصلهما عن أرضهما التي اغتصبها جنود صهاينة أشرطة من الأسلاك الشائكة. ومع أنه لم يذكر اسم اللوحة، فإن اختيارها يرتبط بالدراسة الرئيسية المنشورة في العدد والتي حملت عنوان (رواد الحركة الفنية في سورية) وهي بدورها نشرت دون اسم كاتبها، إلا أنه يمكن التأكيد (اعتماداً على الأسلوب، والمعلومات التي وردت فيها، وبملاحظة العرف الصحفي الذي يقضي بعدم تكرار اسم الكاتب ذاته في العدد الواحد) أنه الناقد طارق الشريف رئيس تحرير المجلة، ذلك أن هيكلية الدراسة، والكثير من التعبيرات والمصطلحات قد تكررت في دراسات له نشرت في مطبوعات غيرها. وبكل الأحوال فإن هذه الدراسة تعد من المحاولات الأساسية لتوثيق بدايات الفن التشكيلي السوري، واعتمد عليها فيما بعد عدد من الذين كتبوا عن مرحلة البدايات. وقد صنفت الدراسة الرواد السوريين في التصوير تحت ثلاثة اتجاهات: (التسجيلية الكلاسيكية) وتضم: توفيق طارق ومحمود جلال وسعيد تحسين. و(الانطباعية) وهي تنقسم إلى انطباعية فترة الانتداب الفرنسي ويمثلها ميشيل كرشة، وانطباعية ما بعد الجلاء وضمت: عبد الوهاب أبو السعود ورشاد قصيباتي ونصير شورى و نوبار صباغ. و(الواقعية) وقد أدرج تحتها بعض الفنانين الذين صنفوا كانطباعيين مثل عبد الوهاب أبو السعود و سعيد تحسين، ومعهم: صبحي شعيب وخالد معاذ وناظم الجعفري وعبد القادر النائب وعبد العزيز نشواتي.
أما في النحت فقد لاحظت الدراسة تأخر النحت (زمنياً) عن التصوير، وفي الوقت ذاته لم تصنف النحاتين الرواد تحت عناوين اتجاهات فنية كما فعلت مع المصورين، والأرجح أن السبب هو ندرة عدد النحاتين، وإتباع بعضهم لأكثر من اتجاه. وقد تطرقت الدراسة إلى تجارب النحاتين الرواد: جاك وردة ووفا الدجاني وفتحي محمد (قباوة) ومحمود جلال وألفرد بخاش.
قدمت للعدد الأول الدكتورة نجاح العطار، وزيرة الثقافة آنذاك، بكلمة استهلال جاء فيها: «..ونحن، في مجال الاختصاص، لم ننزع إلى أن تتولى كل مجلة من مجلاتنا قسماً نشرياً بعينه. فكرة تقسيم العمل بينها، على هذا النحو ليست في أساس الهدف الذي نشدناه، لقد أردنا مجلات مختصة بتمام المعنى لإيماننا بأن الأخذ من كل شيء بطرف أمر فات أوانه، فهو موقف سطحي، وهو تشتيت للجهد، وعائق في طريق التطور، فالعصر الآن يتطلب الاختصاص، بل هو يتطلب، في السعي إلى الإحاطة، اختصاص الاختصاص، كي يكون الإلمام بالموضوع متصفاً بالعمق، بالشمول، بالمعرفة التفصيلية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، نظرياً وتطبيقياً، ونتخلص مرة والى الأبد، من الذاتية، ونأخذ بالموضوعية، ونكف عن التخمين والتقدير والمزاجية، ونبدأ بالأصول، بالمفاهيم، بالقواعد، في إطار من الحقيقة العلمية التي هي سيدة الحقائق».
يمكن اعتبار العدد الأول عنواناً للأعداد التالية، أو نموذجاً لها، وإن كان محتوى العدد (الفهرس) قد قسمه إلى دراسات ونشاطات، فإنه في واقع الحال قد سعى إلى الإحاطة بكل جوانب العمل التشكيلي، فضم العديد من البحوث النظرية، والدراسات التوثيقية عن اتجاهات الفن الحديث والمعاصر في سورية والعالم، وخاصة في مطالع الثمانينات.ودلت وفرة المواد المترجمة فيه على الرغبة في معرفة ما يجري في العالم حولنا، وهي في حد ذاتها استجابة لحاجة التشكيليين العرب والمهتمين بالفن التشكيلي الذين تتوجه إليهم المجلة.وإلى ذلك تضمن العدد الأول متابعة لمستجدات النشاط التشكيلي في العالم بما في ذلك من أحداث تتعلق بتشكيليين، ومعارض، وإصدارات..
فإضافة إلى الدراسة عن رواد الحركة الفنية في سورية التي أشرنا إليها قبل قليل، نشر رئيس التحرير باسمه الصريح دراسة نظرية بعنوان (دور الفن في تطوير المجتمع) ناقش فيها الأفكار التي كانت تدور بحيوية حول هذا العنوان، مستعرضاً التحولات التي عرفتها مفاهيم الفن التشكيلي منذ نهاية القرن التاسع عشر. وكتب الناقد خليل صفية مقالة حول التراث في الفن التشكيلي العربي المعاصر، مستشهداً بتجارب عدد مهم من التشكيليين العرب المعاصرين الذين حاولوا إيجاد علاقة بين نتاجهم المعاصر، وإبداعات أسلافهم.
وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على أول معرض دوري سوري (أقيم عام 1950) أعادت المجلة نشر مقالة للدكتور سليم عادل عبد الحق، الذي كان يشغل منصب مدير الآثار حينذاك، والذي كان – بحكم موقعه – يشرف على المعرض الذي كانت تقيمه وزارة المعارف (التربية حالياً) قبل تأسيس وزارة الثقافة عام 1960 وتوليها المهمة.وقد تحدث الدكتور عبد الحق بداية بشكل عام عن المعرض مشيداً بالمبادرة التي اعتبرها حماية للفن وتشجيعاً لأهله وتنشيطاً لهم، ثم قصر حديثه على الرسامين الستة الفائزين بالجائزتين الأولى والثانية (الأولى: محمود حماد وصبحي شعيب و رشاد قصيباتي. والثانية: الفريد بخاش ونصير شورى وميشيل كرشه).. وهذه المقالة هي بحق وثيقة هامة عن تاريخ الحركة التشكيلية السورية من جهة، وعن المستوى المعرفي العالي الذي تميزت به كتابات الدكتور عبد الحق عن الفن التشكيلي، كما عن الآثار. وشغلت الترجمات حيزاً هاماً من العدد، مستجيبة للحاجة إلى معرفة ما يجري في العالم حولنا من فعاليات فنية، وما يثار من أفكار حول فلسفة الفن وعلم الجمال، وكما كان للمقالات المترجمة نصيب هام في العدد الأول كان كذلك حال الكتب، إضافة إلى متابعات غنية للنشاط التشكيلي المحلي والعربي والدولي.
تصدر العدد الثاني خبر المرسوم التشريعي الذي أصدره الرئيس حافظ الأسد والمتضمن منح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى لكل من الفنانين: سعيد تحسين ورشاد مصطفى ونصير شورى، وتلا ذلك الكلمة التي ألقاها رئيس مجلس الوزراء، ممثل السيد رئيس الجمهورية في حفل تكريم الفنانين وتوزيع الأوسمة عليهم. ثم دراسة لرئيس التحرير بعنوان «دور الرعاية في تطوير الفن التشكيلي».
استدركت المجلة في عددها الثاني خطأ عدم الإشارة إلى اسم لوحة الغلاف واسم صاحبها، فنشرت على باطن الغلاف الأول الاسمين المتعلقين بكل من الغلاف الأول والأخير. فكان الأول تفصيل من لوحة الفارس العربي للفنان أدهم إسماعيل، وكان الأخير تفصيل من لوحة نزهة للفنان نعيم إسماعيل، واللوحتان تتعلقان بدراسة في العدد عن جيل التحرر في الحركة الفنية في سورية.ومع العدد الثاني تبدل خطاط المجلة حيث تولى هذه المهمة الخطاط الياس حموي حتى العدد الثامن حيث آلت المهمة الى الفنان وليد الآغا لعددين ثم لتعود هذه المسؤولية ثانية للخطاط الياس حموي، ومع العدد الثاني أيضاَ كرست المجلة هويتها، ومنهجيتها، وأسلوب تبويبها الذي يقسم موادها إلى دراسات ونشاطات، وضم العدد ملفين هامين الأول عن بيكاسو بمناسبة مرور مئة عام على ولادته، والثاني عن نعيم إسماعيل ولؤي كيالي بمناسبة مرور عامين على رحيلهما.
التوجه نحو الملفات الواسعة بدا نهجاً للمجلة في كثير من الأعداد التالية .فقد ضم العدد الثالث ملفاً عن الفن العربي وتأثيره في الفن العالمي، وملفاً آخر عن الفن الفلسطيني.وخصص العدد الرابع ملفه للفن المكسيكي، وكان ملف العدد الخامس عن المرأة و الفن التشكيلي، والسادس عن الفن التشكيلي المعاصر في المغرب، والثامن عن فن الطفل، فيما ضم التاسع ملفين، الأول عن الخط العربي، والثاني عن السيريالية.وخصص ملف العدد العاشر لفن الحفر، والعدد الحادي عشر لفن الخزف، و كان ملف العدد الثالث عشر مخصصاً لأدهم إسماعيل بمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله.و ملف العدد التالي مخصصاً لشقيقه نعيم إسماعيل بمناسبة مرور خمس سنوات على رحيله.وخصص ملف العدد الخامس عشر للفنان لؤي كيالي.
اعتباراً من منتصف عام 1985 فقدت المجلة انتظام صدورها، فصدر العددان التاسع عشر والعشرون في غلاف واحد.وكذلك كان حال العددين الواحد والعشرين والثاني والعشرين.ثم العددين الثالث والعشرين والرابع والعشرين.ثم صدرت الأعداد الأربعة التالية مجتمعة، وأضيفت عبارة «عدد سنوي» إلى رأس الصفحة الأولى.وتكرر الأمر مع الأعداد الأربعة التالية.وبعد ذلك بعامين صدرت أعداد السنتين التاسعة والعاشرة في غلاف واحد حمل تحت اسم المجلة عبارة (عدد السنتين).وقد كانت هناك عدة مرات تم فيها جمع أعداد المجلة مع بعضها، بما حولها في الواقع من مجلة فصلية، إلى مجلة نصف سنوية، ثم سنوية، إلى أن صدرت بعد سنتين، وربما يكون السبب عدم توفر العدد الكافي من الدراسات والمواد الصحفية القابلة للنشر، وقلة عدد الكتاب في مجال النقد والبحث الفني، وعدم وجود هيئة تحرير متفرغة تتولى مسؤولية توفير المواد عن طريق الاتصال بالكتاب، أو إعدادها من قبلها.ومع أن المجلة بقيت تغطي نقصاً في الدوريات المعنية بالشأن التشكيلي، وبقيت كذلك تحافظ على سمعة جيدة بين أوساط التشكيليين العرب.فإن الحاجة إلى تجديد آلية عملها بدت ملحة أكثر فأكثر.فأصدرت السيدة الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة في صيف 1999 قرار يقضي بتشكيل هيئة تحرير للمجلة برئاسة رئيس التحرير طارق الشريف وعضوية الفنان الياس زيات، ومدير ثقافة دمشق الدكتور سهيل الملاذي والفنان الدكتور محمود شاهين، والناقد سعد القاسم، والفنان خليل عكاري.وقد أقرت هيئة التحرير مشروع تطوير شكل المجلة، وتحويلها إلى مجلة ملونة بالكامل، مع الحرص على سوية عالية للطباعة تتناسب مع طبيعة المجلة، كما أقرت خطة التحرير للأعداد القادمة، وتم إنجاز العدد الجديد (العدد السابع والستون) الذي خصص ملفه للفنان الراحل فاتح المدرس.غير أنه قبل طباعة العدد أحيل الناقد طارق الشريف على التقاعد لبلوغه السن القانونية، وغادرت الدكتورة العطار وزارة الثقافة، فصدر العدد بالشكل القديم، ولتتوقف المجلة بعده عن الصدور لمدة أربع سنوات متتالية حتى العام 2004 حين عاودت الصدور، وسمي لها لأول مرة رئيس تحرير مستقل عن مدير الفنون الجميلة، فتولت السيدة مها قواص، بصفتها مديرة الفنون الجميلة، مهمة المدير المسؤول، وأسندت رئاسة التحرير للدكتور عبد الله السيد، وكلف الدكتور محمود شاهين بأمانة التحرير، والفنانة مايا السيد بالإشراف الفني والإخراج، وكتب اسم المجلة (اللوغو) الخطاط أحمد المفتي. و قد صدر العدد الجديد (الثامن والستون) بقطع جديد (20×27 سم) وبمئة وستين صفحة ملونة بالكامل. واستبدل غلاف اللوحة الواحدة بستة عشر صورة مربعة تمثل مواضيع العدد، وقد اعتمدت هذه الصيغة في كل الأعداد التالية حتى عدد صيف 2016 . استمر الدكتور عبد الله السيد في رئاسة تحرير المجلة حتى استقالته من مهمته مطلع عام 2013 بسبب السفر.فأصدرت السيدة الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة (رئيس مجلس إدارة المجلة) ، قراراً قضى بتكليف الدكتور محمود شاهين أمين التحرير برئاسة تحرير المجلة، كما تم تكليف الفنان طلال بيطار بمهام أمين التحرير.فيما تولى المخرج عبد العزيز محمد مهمة إخراج المجلة، التي أعيد إلحاقها إدارياً بمديرية الفنون الجميلة، ليعود مدير الفنون الجميلة (النحات عماد كسحوت) ويكون المدير المسؤول عن المجلة حتى الآن. واستمر الأمر هكذا حتى أواخر العام الماضي حيث تم تكليف سعد القاسم برئاسة تحرير المجلة، كما كلف الفنان والباحث طلال معلا بمهمة أمين تحريرها، وتمت العودة إلى صيغة غلاف اللوحة الواحدة، وكانت للفنان المعلم نذير نبعه مترافقة مع ملف عن حياته وتجربته.
ورغم بعض الاضطراب الذي رافق انتظام صدور (الحياة التشكيلية) في عدة مراحل من تاريخها الممتد لنحو أربعة عقود، فإنه تمثل اليوم إرثاً ثقافياً تشكيلياً واكب الحركة التشكيلية السورية، وسلط الضوء على إبداعاتها ومبدعيها، ووثق بداياتها المعاصرة وتاريخها الموغل في القدم، وفتح نوافذ المعرفة على الإبداع العالمي وفكره الفلسفي والجمالي، وتواصل مع العصر على امتداد الجغرافيا، وهو ما يزال يتطلع إلى الأفق بتصميم على أغناء حياتنا التشكيلية بالمعرفة، ونشر الثقافة التشكيلية بين الناس. ولهذا السبب، وغيره، امتلكت المجلة سمعة مرموقة في الأوساط التشكيلية، والثقافية عموماً، داخل سوريه وخارجها.