عام
د. عادل عبد السلام : من الطب الشعبي الشركسي (الفصد)
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
من الطب الشعبي الشركسي (الفصد) (Лъыхэщыр)
الفصد وشبيه به الحجامة شكلان من أشكال علاج بعض الأمراض، التي عرفتها الشعوب منذ القدم فيما يعرف باسم الطب الشعبي أو بما يعرف اليوم بالطب البديل، إذ استخدم الآشوريون الحجامة منذ 3300 ق. م. والفراعنة منذ 2200 ق.م. كما عرفها الصينيون والأغريق، كما عرفا في الطب النبوي حيث كان العرب يعرفونها بـ (الفصد)، وجاءت حوله أحاديث منها (خير ما تداويتم به الحجامة والفصد) عند مسلم والبخاري.. وأنها يجب أن يتما في أيام 17 و19 , 21 من الشهور القمرية ؟؟؟؟؟. وبغض النظر عن قدم ممارسة هذا النوع من الطب الشعبي، فإن الطب الحديث لايعترف به كفرع من فروعه. وتتم الحجامة اليوم عادة بأكواب زجاجية تعرف بـ (كاسات الهوا) تفرغ من الهواء بإشعال ورقة وما شابهها فيها ثم توضع مقلوبة على المكان المطلوب حيث تترك مدة 5-10 دقائق. (توجد اليوم أكواب متطورة تفرغ آلياً من الهواء) لترتفع البشرة داخلها. هذا في الحجامة الجافة أما في الرطبة فيتم شق البشرة المنتفخة بأداة حادة (محجم) لسحب كمية محددة من الدم.
أما الفصد وهو علاج أقدم من الحجامة وعرف في الحضارات الصينية والهندية والفرعونية وهو إخراج دم من أحد أجزاء الجسم عن طريق إحداث شق في وريد ما. ويقابله اليوم أخذ (سحب) الدم بواسطة إبرة واسعة المسار. ويفصد المرء إذا كثر دمه أو لرداءة دمه وفساده أو لكليهما، وفي حالات مرضية أخرى. ويعدالتبرع بالدم اليوم نوعاً من الفصد.
لم يتخلف أسلاف الشركس عن ركب معالجة المرضى والمصابين وذوي العاهات بطرق وأساليب توارثتها الأجيال عن السلف، واشتهرت بها أسر بعينها وأشخاص أجادوا عملهم. ولعل ما جاء في الملاحم النارتية من أخبار متفرقة عن ممارسة الطب الشعبي دليل على ما تقدم وعلى قدم هذا الجانب من حضارة الشركس. بل ومن المؤكد أنه مورس في أزمنة أقدم من الملاحم، وتزامن مع ظهور أسلاف الشركس قبل نيف و 5000 سنة. ففي الملاحم النارتية التي تعود إلى أواخر الألف الثانية وبداية الألف الأولى قبل الميلاد. نجد ملحمة: (موت شباتنقو) التي تروي كيفية تمكُن (ساوسرقو) من غريمه (شباتنقو) بالخداع والمكروضربه على رأسه وشقه بالسيف ثم فراره. وكيف حُمل شباتنقو إلى (تلَبشЛъэпшъ ) – رب الحديد والحدادين- الذي قام برقع الرأس برقعة من النحاس وخياطته. حيث تعافى شباتنقو وعاد إلى سابق سيرته بمنع ساوسرقو من دخول البلاد. لكنه ولما كان ساوسرقو ذا قدرة خارقة على رفع درجات الحرارة وخفضها متى شاء، أخذ يرفعها مرة فتسخن رقعة النحاس فيغلي دماغ شباتنقو، ليعود فيخفض الحرارة مرة فيتجمد، إلى أن مات.(ص319 من المجلد الثالث من الملحمة 282- موت شباتنقو- الملاحم النارتية- ميه قوابه 1970). النص الأصلي بلهجة الشابسِغ.
…….Саусэрыкъо къызэшъхьылъэти, кятэмыджьэ къеуи Щэбатыныкъо ышъхьэ ‘зэфэдитIо къызэгуиупкIи кIитхъужьыгъ. Натымэ Щэбатыныкъо ышъхьэ зэгоутыгъэ Лъэпшъ ыдэжьы ахьи, Лъэпшъ гъоплъэ идэжьын фишIи ыдыжьыгъ. Щэбатыныкъо хъужьи ыпэрэм фэдэу Саусэрыкъо хэгъэгум къыримыгъахьэ ыублэжьыгъ. Саусэрыкъо фабэуи чыIэуи къышIын ылъэкIынэу щытыгь. Саусэрыкъо зэ фабэ къышIымэ нат Щэбатыныкъо ышъхьэ гъуаплъэр къэплъымэ ышъхьэ кIуцIэр къыгьэжъоу, зэ чыIэ уае къышIымэ гъуаплъэр къэучыIымэ шъхьэкIуцIэр ыгъэцыкъэу гугъу-мытъуджэ ыгъэлIагъ.
ولقد نقل من نجا من الإبادة الجماعية من المهجرين الشركس معارفهم في الطب معهم إلى مواطن التهجير، ومارست أسر عريقة وأشخاص منهم خبراتهم حسب الظروف والإمكانات المتوفرة في المهاجر. منها العلاج بالأعشاب وتجبير كسور العظام وغيره الكثير الكثير…فلقد كانت الطبيبة الشعبية حنيفة حاتقوه (أم زينب) المعروفة بـ( ﮔو ﮔو Гугу)، التي أدركتها (توفيت سنة 1950) ، واحدة من أعلام قرية مرج السلطان، بل ومنطقة المرج في حوض دمشق لموهبتها ولثقافتها الطبية الشعبية التي كرستها لخدمة المرضى والمصابين بشتى العلل والأوجاع، قد برعت بتركيب الأدوية من الأعشاب، وعُرفت بـ: Уц-угъой أي جامعة الأعشاب، وأجادت المعالجة بها. فكانت صيدلانية عطّارة من جهة وطبيبة معالجة من جهة أخرى. عملت في القرية واستقبلت مرضاها من القرى المجاورة ومنطقة المرج طوال خمسة عقود ونيف من القرن الماضي. ولقد تميزت بمعرفتها الدقيقة للأعشاب والنباتات السورية المقابلة لما عرفته في وطنها الشركسي. ومن الأمراض والعلل التي كانت حنيفة تعالج مرضاها :
الجروح الآنيةـ معالجة الجروح القديمة والندب – معالجة الصلع – معالجة تشققات الأرجل – معالجة مسامير القدم وخلافه – تقوية الذاكرة واستعادتها – معالجة ضيق التنفس والخفقان – معالجة آلام المعدة والقرحة – مداواة السعال – معالجة الأكزيما – معالجة أمراض الكلى والرمل والحصيات – معالجة الزلال – تقوية الباه – إلتواء (الفكش)وإصابة القدم – معالجة الحروق – تجبير الكسور- معالجة الأمراض البولية – معالجة داء السكري – معالجة تساقط الشعر وتسويده – معالجة داء الجرب – معالجة اليرقان – معالجة مرض المفاصل – معالجة أمراض الحلق – معالجة نخر العظام – مداواة الدمامل والأورام …. وغيرها. كما اشتهر في الجولان أطباء شعبيون شركس مهرة لعل أبرزهم أبناء أسرة جتكر وغيرها في قرى حمص وحماه وحلب.
ولقد اخترت لقرائنا اليوم الحديث عن العلاج بالفصد الشعبي الذي كان منتشراً بين شراكسة سورية وعرفته شخصياً في قريتي مرج السلطان، وسجلته عن والدتي مريم عبدالله جركس (حاتخ Хьатх) والسيدة فاطمة (ستناي) اسحق أبدة ( Абыдэ).
كان سحب (إخراج) الدم من جسم الإنسان بالفصد Лъыхэщыр)) في قرية مرج السلطان ، تقليداً أو طقسأ علاجياً شعبيا سنويأ موروثاً يمارسه شركس القرية، وشراكسة مهاجر أخرى. وذلك في موسم حصاد الشعير الذي يتفق مع أواخر شهر نيسان وشهر أيار من كل سنة. (لما كان موسم حصاد الشعير مرتبطاً بالأوضاع المناخية حسب العروض الجغرافية فإن مواعيد الفصد تختلف بين مواطن الشركس في وطنهم الأم وتركيا و بلاد الشام..). ففي شهر الفصد كانت الطبيبة الشعبية ومن لديها أو لديه الخبرة، تقوم بدعوة النسوة الراغبات بسحب الدم إلى دارها وتجلسهم في صف كاشفات الجبين وممسكات أوعية أغلبها صحون، ثم تأتي بأداة تعرف بـ (تلاوَ Лъао) أو المفصد أ المحجم، وترجمتها الحرفية (ضاربة الدم)، وهي أداة صغيرة من الحديد، تتألف من قضيب رفيع نسبياً طوله بحدود 10 سم أحد طرفية على شكل شفرة بارزة كالفأس حادة جداً وبعرض 2 ملم. تعقمها بالحرق والتنظيف كل مرة تضرب بها الطبيبة منتصف جباه النسوة بعد تحسسها الوريد وتحديده، ضربة سريعة خاطفة تتم بمسك أسفل االقضيب بأصابع اليد اليمنى وشد القضيب بسبابة اليد اليسرى وتوتيره نحو الخلف، ثم تحرير القضيب من السبابة بسرعة ولمسافة تمس فيها الشفرة الوريد وجرحه دون قطعه، بحيث ينفر الدم بعدها لمدة قصيرة تحددها الفاصدة، وتتلقى المفصودة الدم بالوعاء، بانتظار أمر إيقاف النزف، الذي يكون بوضع كمية قليلة من الملح على الجرح والضغط عليه بحيث يتوقف. ويتم تنظيفه. وكانت أشهر الخبيرات في القرية هي السيدة (حاجة قز Хьэджэкъыз) وغيرها من نسوة أقل خبرة منها ومنهن المرحومة والدتي. وما يسري على النساء من طقس الفصد كان يسري على الرجال عدا المتقدمين والمتقدمات بالسن، لكن الملفت للنظر في الأمر أن العملية كانت شبه مقتصرة على النسوة إلا ما ندر. في حين كان فصد المواشي والخيول بمحجم أكبر حجما من اختصاص الرجال. ولم تكن العملية تترك أي أثر أو ندبة على الجبين لصغر الجرح ودقة العملية.
وبحسب المعلومات المتوفرة لم يكن الشركس يمارسون الحجامة بكاسات الهوا، ولم يعرفها بعضهم إلا في بلدان الشتات، ولم يستعملها أطباؤهم إلا نادراً. ويمكن اعتبار عملية الفصد وغيرها من ممارسات الطب الشعبي عند شراكسة سورية وغيرهم، بحكم المندثرة في هذا الزمن الذي تطورت فيه شتى جوانب الطب الحديث…. إلا ما ندر وقضت به الظروف…لعل أكثرها انتشاراً هي ممارسة تجبير العظام.. التي سنتحدث عنها وغيرها في سورية في قادم الأيام.
(ملاحظة: الرجاء ممن لديه أية معلومة تتعلق بالطب الشعبي الشركسي في سورية وخارجها تزويدنا بها لإغناء الموضوع وتوثيقه..مع الشكر).
عادل عبد السلام لاش