عام
د. عادل عبد السلام (لاش) : سيدة الخير والمحبة، زهرة ناجي
د. عادل عبد السلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
كانت في (وزارة المعارف سابقاً)، وزارة التربية السورية اليوم سيدة، تعد صمام أمان لكل من استضُعف واستُوضم واستُلبت عصاه من أبناء المجتمع. وأعني بهم أولئك الأبناء المرشحين للإيفاد لاستكمال دراستهم في جامعة أجنبية أو عربية، الذين كثيرا ما ضيق المتنفذون على المغلوبين أمرهم من طالبي العلم عديمي السند والدعم الفئوي أوالأسري أوالمالي أوالسلطوي أوالحزبي أوالطائفي أو العشائري أو….. وأو. و كان سلاحها الوحيد في ذلك هو مؤهلات المرشح العلمية وعلاماته و أفضليته على غيره من خلالها. وكانت غيريتها الغريزية في مساعدة الغير وتقديم العون لمن يستحقة من أهم الصفات التي عرفها عنها كل من احتك بها وتتعامل معها.
إنها فاطمة زهراء ابنة إبراهيم ناجي باشا، المشهورة بـ (زهرة ناجي)، وبـ (زهرة خانم) وهي أم خالد. من حمولة ناج Нажьэ أحد بطون قبيلة البظدِغو Бжъэдыгъу الشركسية، من مواليد عام 1923، ومن قرية عين النسر (عين زات) في محافظة حمص السورية. وهي ابنة ضابط في الجيش العثماني كان يحمل رتبة قائم مقام، أي ما يعادل رتبة عقيد اليوم. توفيت والدتها أثناء ولادتها، كما فقدت أباها وهي في العاشرة من عمرها، وترعرت في كنف خالاتها وخاصة خالتها خديجة في حي المهاجرين بدمشق. وكانت لاتعرف اللغة العربية في عقدها الأول، إذ كانت لغة الأسرة هي اللغة الشركسية، لكنها مالبثت أن أتقنت اللغتين العربية والفرنسية فكانت من أوائل خريجات قسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب في جامعة دمشق، رفدتها فيما بعد باللغتين الإنكليزية والتركية. وقد امتهنت التدريس في مدينة سلمية وغيرها، قبل انتقالها إلى الإدارة المركزية ومديرية البعثات في وزارة التربية، ثم إلى وزارة التعليم العالي للعمل في مديرية البعثات، التي أصبحت مديرتها منذ فصلها عن وزارة التربية. ولها العديد من المقالات الأدبية في مجلة (الثقافة).
إن الكثيرين من أساتذة الجامعات السورية والأطباء والمهندسين وغيرهم من خريجي الجامعات الأجنبية يدينون لهذه السيدة بالفضل لما قدمته لهم من خدمات طوال مدة دراستهم ، إضافة إلى تقديم العون لهم بعد عودتهم إلى الوطن. إذ عرف عنها الإخلاص والتفاني في عملها الذي كان يتندر به زملاؤها في الوزارتين أنها لم تطلب يوما واحداً إجازة.
وحديثي عن هذه السيدة يبدأ من معرفتي بها كجارة لنا في حي المهاجرين بدمشق، وكموظفة في وزارتي المعارف (التربية)، والتعليم العالي. وهو في الوقت نفسه حديث علاقتها بمتقفري العلم من طلبته الفقراء من عامة الشعب لا خاصته ، الذين حصّلوا عِلماً يؤهلهم لاغترافه من مناهله ، ولما اكتسبوه من حق طبيعي في بعثة أو منحة أو إيفاد إلى الخارج.
مررت بعد تخرجي من الجامعة السورية بأوقات عصيبة نتيجة مطالبتي بحقي في الإيفاد لاستكمال دراستي والحصول على شهادة الدكتوراه التي كانت حلمي ووسيلتي لطرق أبواب العمل الأكاديمي. ولقد فشلت في تحقيق هدفي، لِما واجهته من رفض شديد من قبل بعض أساتذتي، لأسباب لا أود الحديث عنها، فهم أولاً وآخيراً وبغض النظر عن مبادئهم ومعتقداتهم كانوا أساتذتي. ومما سهل عليهم رفض إيفادي تزامن ذلك مع أوضاع سياسية – دولية أبرزها العدوان الثلاثي على قناة السويس (الذي اتخذوه حجة لعدم إيفادي إلى فرنسا أوإنكلترا) ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة (التي عرقلت إيفادي إلى الإتحاد السوفييتي). مما أخرني أربع سنوات. وما كنت لأحقق هدفي لولا انتقال صلاحيات الإيفاد من أيدي حيتان الوزارات المختلفة إلى وزارة التربية وحدها. ولقد اكتشفت مديرية البعثات فيها أن عدداً كبيراً من المنح الأجنبية المقدمة لسورية كانت نائمة في الكثير من أدراج المؤسسات والوزارات، ومن بينها منحة مدتها سنتان للحصول على ماجستير في علم الخرائط و فن رسمها، مقدمة من جامعة برلين الحرة في برلين الغربية لصالح قسم الجغرافيا في جامعة دمشق.
كانت السيدة زهرة ومنذ أمد قد أصبحت صديقة حميمة لوالدتي بعدما انتقلنا إلى منزلنا في المهاجرين منذ سنة 1951، وكانتا تلتقيان يومياً تقريباً، إذ كان على أم خالد الساكنة في الجادة الخامسة أن تمر في ذهابها وإيابها من العمل على دارنا في الجادة الرابعة على طريق طلعة الباشكاتب، وكانت والدتي تعرف مواعيدها فتتنظرها وراء الباب حيث كانتا تقضيان خلفه وقتاً قصيراً في ذهاب أم خالد وفترة أطول في عودتها، تأخذ فيها قسطاً من الراحة لصعودها الجادات الأربع، في زمن لم يعرف حافلات الركاب الصغيرة وسيارات الأجرة في الأحياء الجبلية.
وكانت رحمها الله دائمة السؤال عن مسألة إيفادي التي كنت قد قاربت مرحلة قطع الأمل منه، والركون إلى قبول عملي مدرساً في المدارس الثانوية، وكنت أثناءها مديراً لثانوية القلمون في مدينة النبك. لكن أم خالد كانت وراء إعادة الحياة لما أصبو إليه، حين أعلمتنا ووالدتي بلهفة و حماس مشجع وتحريضي في أحد الأيام، أن هنالك منحة واحدة فقط مقدمة من جامعة برلين الحرة، وأن علي المشاركة في مسابقة الحصول عليها. لم أصدق الخبر… لكنه آت من أم خالد، ولا مجال لمناقشته. تقدمت إلى المسابقة وحالفني الحظ في النجاح لكوني الأول على دفعتي في الجامعة في تفوقي على 18 مرشح للمنحة المذكورة. وبعد تأخر دام زمناً نُقلت أثناءه للتدريس في المعهد العربي- الفرنسي (اللايييك)، تم إيفادي وبسرعة خاطفة إرضاءاً للفرنسيين الذين رحبوا بالتخلص مني، لاحتجاجي على عدم رفع علم البلاد على سارية المدرسة وقضايا مشابهة أخرى (ر. التفاصيل في سيرتي الذاتية).
كانت أم خالد تتابع أخبار دراستي في برلين، وكان لها هي والمرحوم الأستاذ عبدالحميد دركل فضل وصول راتبي ورواتب بقية السوريين المتأخرة في الجامعات الألمانية، التي كان (أشقاؤنا ؟؟؟؟) المصريين في الملحقية الثقافية، جمدوها أشهراً عديدة، أضطُررت بسببها للعمل في مجمع لصهر الحديد والنحاس في منطقة الرور.
لكن الخدمة المهمة التي قدمتها المرحومة زهرة خانم لمتابعة دراستي، و لايمكنني نسيانها ماحييت هي أنه كان علي بعد حصولي على شهادة الماجستير( الدبلوم العليا)، أن أعود إلى سورية بهدف تمديد إيفادي أولاً، والقيام بدراسة ميدانية للبادية السورية وجبال لبنان الشرقية موضوع أطروحة الدكتوراه ثانياً. وعلى الرغم من العقبات الكأداء التي واجهتني ممن رحمهم الله… نجحت في مبتغياي، وأخذت أتهيأ للعودة إلى برلين، التي قررت السفر إليها بالقطار من اسطنبول إلى ميونيخ ومنها بالطائرة إلى برلين، لقلة ذات اليد. وفي اليوم السابق لسفري إلى حلب ومنها إلى اسطنبول بالحافلات، فاجأتني والدتي بخبر صعقني ولم استوعبه بسهولة، هو أن أم خالد رحمها الله جاءتها مضطربة وشبه مذعورة وأخبرتها أن كفيلي للإيفاد، سحب اليوم كفالته واصبح إيفادي من دون تغطية قانونية، وعلي أن أجد كفيلاً جديداً، وأن برقية بعدم السماح لي بمغادرة البلاد ستعمم غداً صباحاً على نقاط الحدود كلها. فطار صوابي لارتباطي بمواعيد مهمة مع الجامعة، وتأخري عنها يؤثر على دراستي تأثيراً جوهرياً. ومع استحالة تأمين كفيل لي على المدى المنظور قررت السفر بسرعة فجر اليوم التالي (الخميس 8 -11-1962) لأصل معبر باب الهوا السوري قبل وصول البرقية. وهكذا كان، وقام أهلي بعد سفري بزمن بتدارك مخالفتي. ولسحب كفيلي كفالته ولسفري براً قصة لعلي أرويها في قادم الأيام.
عدت من الإيفاد وتعينت مدرساً في جامعة دمشق، ولم تمض سنتان إلا وتدفق في صيف 1967 نازحو الجولان على دمشق. وكانت زهرة خانم مديرة للبعثات في وزارة التعليم العالي، وكان الدكتور شاكرالفحام وزيرها لايتخذ أي قرارولايوقع علىيه إن لم يكن موافقاً عليه من أم خالد وموشحاً بتوقيعها. وهنا لا أنسى دور هذه المرأة الكريمة في خدمة أبناء النازحين من الجولان من حملة الشهادة الثانوية ومن الموفدين في الخارج. فبعيد تدفق آلاف النازحين اتصل بي الدكتور شاكر، بحدود الساعة الواحدة ليلاً يطلب مني موافاته إلى مكتبه في الوزارة. من دون أن يفصح عن السبب. فهرعت إلى الوزارة في حي الروضة، ولما دخلت مكتبه فوجئت بوجود زهرة خانم وأحد موظفيها عنده… في الساعة الواحدة ليلاً ؟؟؟؟. فعرفت أن أمرأ ما يدور حول البعثات. وكان أمراً مفاده أن القيادة طلبت من الدكتور شاكرأن يقدم قوائم بأسماء طلبة أبناء وبنات النازحين من حملة الشهادة الثانوية وما فوقها، للإستفادة من مساعدات ومنح لم يفصح عن مصدرها. وطلب مني تأمين القائمة المتضمنة الطلبة الشراكس، لأن محافظة القنيطرة تكفلت بتقديم قوائم طلبة مخيمات النازحين غير المشمولين برعاية اللجنة العليا للنازحين الشركس، التي كنتُ أمين سرها. وكان على زهرة خانم تحضير قوائم الموفدين من قبل الوزارة، وتحضير أوراق من سيوفد من أبناء النازحين. على أن يكون كل ما تقدم جاهزاً خلال 42 ساعة… انتظرت زهرة خانم قوائم المحافظة التي وصلت منقوصة ومضطربة بعد أكثر من أسبوع، في حين كانت قوائم الوزارة جاهزة وسجلاتها تحت تصرفها. لكن المفاجأة للدكتور شاكر، كانت أن قوائم الطلبة الشركس أصبحت جاهزة خلال 24 ساعة بفضل ورشة عمل كانت تعمل على مدار الساعة ومقرها منزلنا في حي المهاجرين بدمشق. وكانت تتألف من 12-14 فرداً أغلبهم من طلابي وطالباتي. وحظيت الورشة بتوجيهات زهرة خانم ومساعداتها المباشرة لسكناها وأسرتها مجاورة لنا. ولقد ضمت قوائمنا المجموعات الطلابية الآتية:
1-الطلبة الموفدون على حساب الوزارات السورية.
2-الطلبة الموفدون بمنح من دول أجنبية أو منظمات مختلفة.
3-الطلبة الدارسون على حسابهم في الخارج. (لمساواتهم بالموفدين على حساب الدولة).
4-الطلبة الذين لم يقبلوا في الجامعات السورية لمعدلات علاماتهم المتدني، ولقِدم نيلهم الشهادة الثانوية.
والذي أذكره عن هذه السيدة (النحلة العاملة) أنها أنهت كافة معاملات المجموعات الثلاث الأولى وعدد أفرادها 72 طالباً وطالبة في الوقت المحدد. أما أفراد المجموعة الرابعة فكانت من اختصاص شؤون الطلاب، وزاد عددهم على 176 طالباً. ما فتئت تتابع أمرهم حتى انتسب من رغب منهم، إلى الجامعة.
كانت زهرة ناجي أم خالد إمرأة حديدة الأصمعين : القلب الذكي والرأي الحازم، رفيعة الخلق صلبة الموقف،ضنينة الرفق بنفسها في خدمة المظلوم ورعاية أسرتها، أنجبت خمسة أبناء نالوا درجات علمية عالية منهم الدكتور معتصم غوتوق نجم الأسرة الرياضية العربية والعالمية للسباحة. ولقد تميزت مسيرة حياتها المهنية بالإخلاص والتفاني والعمل الدؤوب لخدمة الطلاب الموفدين وكانت تعتبرهم أبناءها دون استثناء. وفي رواية للدكتور علي حسن موسى ، زميلي في قسم الجغرافيا،عن ردود فعلها الغاضبة لهضم حقوقه أولاً ، ثم سعادتها الغامرة بنجاحه في إتمام دراسته، وكأنه ابنها على الرغم من عدم معرفتها به، شاهد على غيريتها وإنسانيتها الصادقة. وهناك أكثر من رواية وصلتني من أشخاص يقرون بجميل خدماتها لهم. ويذكرونها بإعجاب وتقدير.
….تم تكريمها عدة مرات من قبل وزارة التربية ووزارة التعليم العالي ومجمع اللغة العربية والرئيس حافظ الأسد كما رُشحت لمنصب وزير التربية في السبعينات ….. وعلى الرغم من أنها كانت تعمل للجميع إلا أن الشباب الأديغة، وكنت واحداً منهم ، كانت لهم حظوة وحصة كبيرة في جهودها على ترشيحهم ،دون تجاوز، للحصول على فرصة الدراسة في مختلف دول العالم وكانت تقدم لهم التسهيلات والتواصل معهم حتى في قراهم ..ويقدر عددهم بالمئات ..سيما وأن الامكانيات المادية للشباب الشراكسة وخاصة بعد النزوح كانت محدودة. توفيت زهرة ناجي سنة 1998، رحمك الله يا أم خالد وطيب ثراك.
عادل عبدالسلام (لاش) دمشق – كانون الأول – 2016.