مختارات من الكتب
جميل مردم بك .. الإنزال الفرنسي العسكري في سورية 1945
تميم مردم بك- صفحات من حياة جميل مردم بك (16)
في 4 أيار 1945 علمت الحكومة السورية بأن فرنسا أنزلت إلى البر قوات فرنسية، وتم توجيه مذكرة إلى مندوب فرنسا تحيط بموجها الحكومة الفرنسية علماً بالأثر السيئ الذي أحدثه نزول القوات في صفوف الأمة، وتحذر من تكرار مثل هذا العمل الذي يتعارض مع أبسط قواعد العرف الدبلوماسي الذي يوجب الحصول على إذن مسبق لمرور قوات أجنبية في أراضي بلد ذي سيادة.
في 8 أيار 1945 أعلنت الهدنة وانتهت الحرب في أوروبا بانتصار القوات الحليفة، وفي 12 أيار وصل الجنرال بينيه ممثل فرنسا إلى بيروت، وبتاريخ 17 أيار وصلت البارجة “جان دارك Jeanne D’arc” وأنزلت في بيروت 1500 جندي إضافي وأصدر المندوب السامي أوليفا روجيه البلاغ التالي باختصار:
بلاغ هام من دائرة الأركان الحربية رقم B24:
أيها الضباط والجنود الفرنسيين! أيها العاملون تحت العلم الفرنسي!!… بعد انتصارات قواتنا تحت قيادة الجنرال ديغول… رأت الحكومة الفرنسية عطفاً على التقاليد التحريرية التي أخذتها على عاتقها منذ أجيال أن تخدم سورية ولبنان كما خدمتهما حتى الآن!!… ولما كانت الأزمة بدأت تستفحل، أرى من الواجب أن ألفت نظركم إلى الاستعدادات التي يجب أن يقوم بها جيش الشرق ليكون محافظاً على شرف فرنسا!!…
1 ـ يقضي واجب فرنسا العسكري بإبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا المنتصرة من هذه البلاد!!…
2 ـ يجب احتلال جميع دوائر الحكومة السورية ومؤسساتها الثقافية.
3 ـ يجب منع الاتصال مع الدول العربية المجاورة.
4 ـ يجب تجريد جميع أفراد الشعب من الآلات الجارحة في ظرف 48 ساعة.
5 ـ يجب أن تدار البلاد من قبل حاكم عسكري، وتُفتح المحاكم العسكرية إلى أن تنظر الدول المنتصرة في قضيتي سورية ولبنان وتعيد الحياة إلى مجاريها!!…
على جميع القوى العسكرية (الفرنسية ـ السنغال ـ الهجانة ـ الشركس ـ فرق المتطوعة) أن تكون على استعداد ليلاً ونهاراً.
كذلك وفي 18 أيار وكعادة فرنسا في ممارسة الدناءة في تعاملها مع سورية ولبنان، فقد علقت تسليم القطعات العسكرية السورية على الوصول إلى الاتفاقيات التالية:
1 ـ اتفاقية ثقافية.
2 ـ اتفاقيات تجارية وقنصلية.
3 ـ اتفاقيات عسكرية والتنازل عن بعض القواعد العسكرية لفرنسا.
لقد كان القوتلي صلباً في موقفه، ومردم بك أثبت بأنه المؤهل لمثل هذه المواقف، لقد جرب فرنسا كثيراً وأخيراً خرج بنتيجة أنه لا يجوز المباشرة بالمفاوضة من أجل أي اتفاقيات تعاقدية مع فرنسا منذ أن اتخذ القرار في مجلس النواب في 31/12/1938.
“وفي مساء 18 أيار 1945 أصيب الرئيس القوتلي بنزيف في معدته نتيجة القرحة التي يعاني منها والتي كادت منذ عام تودي بحياته، وقد اشتد النزيف ليلاً، فطلب أن يرى مردم بك على وجه السرعة وقال له والدموع في عينيه: “يا جميل… إنني أعتمد عليك الآن، وإذا وافتني المنية فالمسؤولية كلها تقع عليك، وأنا واثق بأنك قادر على مواجهة الموقف، إنني آذن لك بالقيام بمهام الرئاسة بالنيابة عني في جميع الشؤون. وقد طمأن مردم بك الرئيس بأن كل شيء سيكون على ما يرام…”
بدأ الهياج الشعبي في كل مكان، وصارت أمواج الجماهير تتدفق أمام سراي الحكومة، وكان مردم بك يخرج إلى الشرفة كلما جاءت موجة جديدة ليثير حماس الناس. وحدث ذلك في جميع المدن السورية. وتطوع الشباب في الدرك، ولم يكن هناك بنادق لتسلم إليهم، وفر ضباط سوريون من الخدمة تحت العلم الفرنسي وانضموا إلى إخوانهم، كما حدثت استفزازات عديدة، في جميع أنحاء سورية قام بها جنود فرنسا. وكان إطلاق الرصاص على الشعب السوري يومياً. بعث وزير الخارجية جميل بك برسائل ومذكرات عديدة إلى المندوب السامي يحذره من مغبة هذه الاستفزازات، ولكن لا حياة لمن تنادي. جميع هذه التصرفات لم تكن لها قيمة من الناحية القتالية، ولكنها أثبتت للعالم أجمع بأن السوريين يقفون خلف حكومتهم في رفض فرنسا وإصرارهم على ذلك.
في 26 أيار أصدر أوليفا روجيه بلاغاً إلى الفرنسيين عرض فيه ما يجري من أحداث وما يقوم به السوريون ضد القوات الفرنسية قال في ختامه:
“ونحن نعرف من هم الذين يقودونهم، ولدينا أسماء الذين ينفذون الأوامر، فاطلب من الفرنسيين أن يصبروا بضعة أيام، وقد لا يتجاوز صبرهم بضع ساعات، وعند ذلك نشرع في المجزرة الكبرى، فليكن كل واحد مستعداً، وسنصفي الحساب كله دفعة واحدة”.
دمشق في 26 أيار 1945 والجنرال أوليفا روجيه
وكذلك في يوم 26 أيار من عام 1945 يروي الأستاذ شمس الدين العجلاني تحت عنوان: “الرجل الذي تحدى الانتداب”.
شهدت شوارع دمشق في هذا اليوم موكباً عسكرياً حافلاً، تزأر سياراته بصفاراتها الحادة عربات جيب عسكرية… ضباط وشرطة… وسيارات مدرعة ومصفحة… الموكب يخترق شوارع دمشق محاطاً بسيارة فاخرة تحمل العلم الفرنسي، ويصل الموكب بسلام إلى وزارة الخارجية، تقف السيارة الفاخرة، ويقفز الجنود حولها ويتقدم أحدهم ليفتح الباب للجنرال “بينيه Beynet” الذي تبختر بكل عظمته ونياشينه التي علقها على صدره، مع شلة من ضباطه إلى مبنى الوزارة قاصداً مكتب الوزير!!… ولم يكن يدري آنذاك أن وزير الخارجية جميل بك قد عُجن بالوطنية وتلقى أول درس في حب الوطنية من صدر أمه (التي شتمها عمر أبو ريشة) ولم يكن عمره آنذاك إلا أياماً قليلة… لم يفاجأ الوزير بدخول الجنرال الفرنسي، لشدة الضوضاء التي أحدثها هو وموكبه العسكري الحافل!!…
دخل الجنرال وكل نياشينه إلى مكتب الوزير دون موعد أو استئذان، وألقى تحية الصباح على الوزير مردم بك، الذي رد عليه بكل برود أعصاب وهو يقلّب بعض الأوراق التي كانت على مكتبه، فتقدم الجنرال للوزير بمذكرة تتضمن مطالب فرنسية من الحكومة السورية. تناولها مردم بك وأخذ يقرؤها بكل هدوء بعد أن طلب فنجان قهوة لنفسه دون أن يطلب للجنرال أي شيء!…
بعد مرور قرابة ربع ساعة قال الوزير: إن سورية لا تستطيع قبول ما جاء في المذكرة، فرد عليه الجنرال: وهل تستطيع سورية عدم القبول؟ وابتسم بسخرية قائلاً: هل تعتقد سورية أنها دولة مستقلة لكي ترفض طلبات فرنسا؟ فابتسم مردم بك هو الآخر بسخرية ووقف وكل عنفوان رجالات سورية معه قائلاً: وهل تعتقد فرنسا أنها دولة عظمى لكي توجه هذه المذكرة إلى سورية؟ وأشار إلى باب مكتبه قائلاً: اخرج من مكتبي.
عقدت الدهشة لسان الجنرال وتراقصت كل النياشين على صدره، ولم ينطق بكلمة واحدة، وإنما لملم نفسه وجرته قدماه إلى باب المكتب، وخرج من وزارة الخارجية السورية مهزوماً منكسراً.
وأدرك جميل بك أن هذه الحادثة سيكون لها ذيولها، ولا بد من وضع رئيس الجمهورية بصورة هذه الواقعة، فتناول سماعة الهاتف يطلب رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي، وقص جميل بك على الرئيس ما حدث فقال القوتلي للوزير: أنت غلطان لأنك لم تقطع رقبته، أو على الأقل أن تأمر بإلقائه من أعلى درج الوزارة.
هذه هي سورية وهؤلاء هم رجال سورية وصانعو استقلالها، فهل عرفتم هذا الرجل الذي قال لمندوب فرنسا: اخرج من مكتبي لأنه تطاول على الوطن، على سورية؟ إنه جميل مردم بك واحد من عشرات بل مئات رجالات سورية المجبولين بالكبرياء وحب الوطن، الذين صنعوا استقلال سورية. لا تنسوا هذا الرجل إنه واحد من رجالات سورية، والأمة التي لا تقرأ تاريخ رجالاتها لا تستطيع بناء مستقبلها!!!…