مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش) : شكري القوتلي في قرية مرج السلطان
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
العلاقة بين أهالي مرج السلطان الشركس وآل القوتلي قديمة وترجع إلى مطلع القرن العشرين، حين أخذ عدد من شبان الشركس يكتسبون ثقة العائلات الدمشقية الغنية في الغوطة والمرج لإدارة أعمال مزارعهم وبساتينهم، لما اتصف به هؤلاء الشبان من الجدية والجرأة والإخلاص والصدق والتفاني في العمل كـ (وكلاء) لأصحاب المزارع والأحواش. ولما كانت أملاك آل القوتلي وأقربائهم من آل الادلبي قريبة من مرج السلطان (خاصة في مزرعة بالا العتيقة في غوطة دمشق الشرقي) فقد اعتمد آل القوتلي على أحد أبناء مرج السلطان، وهو (عمر لطفي أفندي شوَج)، ليكون وكيلاً لهم في بالا، خلفه فيما بعد (يوسف قبرتاي). كما كان لعارف القوتلي فضل تمويل بناء الجامع المصفح بالتوتياء (كما ذكرت في فصل جوامع مرج السلطان).
كذلك كان عدد من أبناء مرج السلطان يعملون في مزرعة بالا. لذا كانت الصلات بين شراكسة مرج السلطان وآل القوتلي وشيجة وحسنة. ومن هنا تبدأ علاقة شكري بن محمود القوتلي الذي أصبح رئيساً للجمهورية السورية بعد الاستقلال، بمرج السلطان وسكانها.
كان المرحوم شكري القوتلي واحداً من أبرز رجالات وزعماء الثورة السورية على الانتداب الفرنسي، حكم عليه غيابياً بالموت من قبل الفرنسيين سنة 1925. ولما لوحق في دمشق وغوطتها ملاحقة مكثفة، وجد له ملجأَ في مخبأ لايخطر على بال أحد، هو قرية مرج السلطان الشركسية، وذلك بناءً على اقتراح وكيل آل القوتلي في بالا؛ عمر لطفي شَوَج (شَوَج ومار).
وبقي في داره قرابة ثلاثة شهور بحسب رواية زوجة عمر(حدشاش) التي أدركتُها وعمري بحدود عشر سنوات، وكذلك رواية ابنته زكية التي كانت زوجة عمي عبدالستار، و روايات كبار السن الذين قابلتهم في القرية ومنهم والدتي مريم حسن جركس ( حاتخ ). وبقي الأمر مجرد رواية وحكاية متداولة، وأحيانا بتفاصيل متضاربة، إلى أن حصلت على تأكيد لا يرقى إليه الشك لهذه الرواية من محور الرواية وبطلها، شكري القوتلي نفسه، في صدفة غير متوقعة.
ففي خريف عام 1959، بعد مضي عام على الوحدة بين سورية ومصر، وانزواء شكري القوتلى وانعزاله حاملاً لقب (المواطن العربي الأول)، الذي فرضه عبد الناصر عليه، بعد إكراه القوتلي على التنحي عن رئاسة الجمهورية السورية (هناك رأي يقول أنه تنحى برضاه ؟؟)، كنت في زيارة لبلدة صيدنايا المشهورة بديرها المسيحي (دير السيدة)، ذي المكانة المقدسة عند المسيحيين. وسبب الزيارة هو معرفة قديمة بآل معمروعميدهم سليم من صيدنايا، منذ كان والدي رئيساً لمخفر درك صيدنايا سنة 1930 ومولد شقيقتي الكبرى، بكر اسرتنا هناك. وكنا نزور البلدة وديرها وأسرة آل معمر زيارات شبه سنوية. وفي زيارتي لصيدنايا في العام المذكور، قمت برفقة صديقي فريد سليم معمر بزيارة الدير للسلام على رئيسته، التي كانت صديقة والدي ووالدتي.
وأثناء تجوالنا مع الراهبة سيدة الدير في أرجائه وصلنا إلى الشرفة الجنوبية الشرقية من الدير، وكان في نهايته الشرقية القصوى المطلة على سهل صيدنايا والجبال المحيطة به، شخص ملتف بعباءة جالساً على أريكة، لانرى منه سوى ظهره. وهنا رجتنا السيدة أن لانتقدم باتجاهه، ولا نزعجه في جلسته الهادئة، و ذكرت أنه (شكري بك) الذي يزور الدير بين الحين والآخر طلباً للهدوء والراحة. ويبدو أنه سمعنا، فالتفت إلينا، وطلب منا الاقتراب منه. وهكذا كان. وبعد سلامنا عليه ومصافحته لنا، أردنا الانصراف، فسأل فريداً عن اسمه وبلده، فأجابه أنه من بيت معمر من صيدنايا ذاتها. وبسؤالي ذكرت له اسمي وأنني من قرية مرج السلطان التي تقع شرق مزرعتهم بالا. عندها طلب منا الجلوس إليه قائلاً: إجلسوا يا أولادي، وسأروي لكم جزءاً مهماً من حياتي لايعرفه إلا القليل القليل من المقربين. ثم بدأ شكري القوتلي روايته، التي لم أسجلها حينذاك بكلماته، وسجلتها بعد ذلك بحسب ما تسعفني به ذاكرتي، قال:
” كنت بين الوطنيين الذين نفتهم فرنسا في صيف سنة 1925 إلى جزيرة أرواد، لكن الفرنسيين وبعد إطلاق سراحنا عادوا وحكموا علي غيابياً بالإعدام في نفس السنة ، فأخذت أبحث عن مخبأ وملاذ يحميني ويسمح لي بالاستمرار في النضال والعمل مع الثوار في منطقة الغوطة ودمشق، وتنقلت من مكان إلى آخر هرباً من السلطات الفرنسية وعملائهم من أبناء بلدي. وكدت في إحدى المرات أن أقع بأيديهم. ونتيجة لخطورة الوضع عرض علي (عمر أفندي) من أبناء مرج السلطان الموثوقين، الذي كان يعمل وكيلاً لنا في مزرعتنا في بالا العتيقة في الغوطة الشرقية، أن أختبأ في منزله في قرية مرج السلطان، حيث من المستبعد حسب رأيه، أن يفكر الفرنسيون أني أختبأ فيها، لأن سكانها من الشركس المحايدين. على الرغم من أنه كان هناك من كان يتهمهم أنهم يعادون الثورة، وهذا غير صحيح ويعرفه رجالات الثورة الواعين. فوافقت فوراً ولم يعرف بالأمر سوى والدتي. وفي الليلة نفسها ذهبت بصحبة عمر،رديفاً له على حصانه حيناً، وسيراً على الأقدام حيناً، إلى مرج السلطان عن طريق بساتين حرستا القنطرة. ووصلنا إلى منزله في الحارة الجنوبية من القرية قبيل الفجر بنحو ساعتين. وكانت زوجته- حدشاش أو حتشاش – وابنته الكبرى على ما يبدو على علم مسبق بمجيئي، فتم استقبالي بترحاب وبمائدة عامرة بالمأكولات الشركسية. وكان لعمر ثلاث بنات ( فاطمة الكبيرة- فاطيمت شكور-، زوجة غالب سيجبر، و زكية زوجة عمي عبدالستار لاش ثم محمد سعيد، وزليخة- تسراتس-، زوجة محمود شاكوج – أم ليلى. فيما بعد. ع. ع. ل.) وليس له أولاد ذكور على ما أذكر – والكلام ما زال لشكري القوتلي -. أما عمر فقد كان في واخر الخمسينات من عمره.
ولقد أمضيت قرابة ثلاثة شهور مختبئاُ في مرج السلطان، غادرتها أكثر من مرة للإلتقاء برجالات الثورة في أماكن مختلفة من الغوطة الشرقية ومنطقة الزور. وكانت مغادرتي وعودتي إلى مخبأي تتمان بالتنسيق مع مضيفي عمر وعدد من رجال مرج السلطان وشبابها ، الذين كانوا يرافقونني مسلحين، على الرغم من الأخطار المحتملة التي كانوا سيواجهونها من قبل الفرنسيين، ومن قبل الثوار أيضاً. وكانت لقاءاتي مع قواد الثوار تتم من دون حضورهم.
وقد عرف الفرنسيون بوجودي في مرج السلطان وفي منزل عمر لطفي بالذات من أحد جواسيسهم من أبناء قرية مجاورة لمرج السلطان- بسؤالي عنها امتنع شكري بك عن ذكر اسمها، واسم الجاسوس ، بقوله: “عفا الله عما مضى والمسامح كريم يا بني”. وتابع روايته قائلاً:
“وكانت النتيجة أن تعرض منزل عمر وعدد كبير من منازل مرج السلطان وزرائب حيواناتها و أقنان دجاجها ومتابنها وغياضها للمداهمة والتفتيش بحثاً عني. لكن جهودهم فشلت بفضل مؤازرة سكان مرج السلطان لعمر، وإخفائي في بيوتهم متنقلاً من منزل إلى آخر ومن زريبة إلى زريبة ومن تبان إلى تبان طوال فترة المداهمة والبحث. وقال مازحاً: إنني يا بني، أعرف كل متابن وزرائب قريتك أكثر منك، لتهريبي من واحد إلى آخر أيام المداهمات لمرج السلطان. ولقد اعتقلوا عمر أفندي رحمه الله للتحقيق معه، أكثر من مرة، لكنه لم يعترف بأي شيء، حتى أصبحت الأوضاع مواتية لتركي مخبأي وعودتي إلى دمشق ومتابعة النضال.
ولن أنسى ما حييت ما قدمه عمر أفندي وأسرته وكذلك أهالي مرج السلطان من حماية ورعاية ما كان لي ان أجدهما في مكان آخر، رحم الله عمر أفندي وأطال الله بعمر الأحياء ممن آزروني وحموني كأحد أبنائهم، وجزاهم وجزى أهل مرج السلطان كل الخير لما قدموه من مساندة للثورة السورية “.
ولما سألته عن مهاجمة الثوار قريتنا بعد ذلك بسنة (1926) ذكرلي أنه كان ضد فكرة مهاجمة الثوار لمرج السلطان، وأنه سفه إصرار بعض قادة الثوارعلى اتخاذ قرار بهذا الشأن، وأيده في ذلك فخري البارودي صاحب قرية الجربا في منطقة المرج، وصبري العسلي، وسعيد العاص، والدكتور خالد الخطيب وغيرهم ممن حضروا اجتماع قرية الجربا، الذي لم يتذكرشكري بيك تاريخه، وتحققت منه في المراجع فوجدت أنه كان في يوم الثاني والعشرين من كانون الأول سنة 1925. وأبدى شكري بيك استياءه الشديد لما جرى وللنتيجة المخزية التي هزت كيان الثورة السورية. إذ مُني فيها الثوار بهزيمة مؤلمة نتيجة الدفاع المستميت لرجال القرية ونسائها عنها ومقتل أعداد كبيرة من المهاجمين. تلك النتيجة التي كتب عنها أدهم آل الجندي في سفره عن ” تاريخ الثورات السورية ” دمشق 1960، قائلاً:
“والحقيقة التي لا مراء فيها أن نوايا المجاهدين حيال هذه القرية – مرج السلطان- كانت بعيدة عن الإخلاص والغايات السامية، فارتكب القادة أخطاء فادحة بمهاجمتهم القرية، وثبت أن العاطفة قد تغلبت على العقل، فكان لهذه المعركة التي ارتد المجاهدون عنها بخسائر كبيرة رد فعل وأثر سئ في المجتمع، وأظهرت لهم مجرى الحوادث أنهم ارتكبوا خطيئة كانت عبرة وعظة ليتفادوا الوقوع بأمثالها في معارك الغوطة آنئذ ” . (أنظر أدهم آل الجندي في سفره ” تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي ” دمشق 1960، فصل: معركة مرج السلطان – في 25 أيار 1926-، صفحات 384-385-386).
ويذكر أحد رجالات الثورة السورية المرحوم محمد شريف ألَرَشي في مقابلة لي معه، وأخرى ومع الشيخ محمد الأشمر، أن شكري القوتلي كان من أشد المعارضين لمهاجمة مرج السلطان من قبل مجموعة من الثوار، كان هدفها قتل السكان الذكور والأطفال وسبي الفتيات والنساء ونهب الأملاك والمواشي والاستيلاء على البيوت والأراضي. ( ر. معركة مرج السلطان للكاتب نفسه ). وأنه كان حانقاُ على من هاجمها.
توفي شكري القوتلي (أبو حسان) رجل النضال والثورة لتحرير سورية، ورجل جلاء القوات الأجنبية عنها، ورجل الاستقلال الناجز، توفي بعد تنحيته عن منصب رئاسة البلاد في عهد (الانتداب المصري !!!)، وبعد مصادرة ممتلكاته على تواضعها بعد ثورة آذار 1963، توفي بعيد هزيمة العرب المزلزلة في حرب 1967. فنقل جثمانه من مستشفى في بيروت إلى دمشق، وصليّ عليه في جنازة غير رسمية في الجامع الأموي، نعم غير رسمية !!! ؟؟؟؟. وهكذ نجزي رجالاتنا في بلدان التخلف. ولقد قام الكثيرون من أهالي مرج السلطان بواجب المشاركة بالجنازة. كما قاموا بالتعزية بوفاته، حيث استقبلهم ابنه حسان، وروى المعزون أن أغلبهم فوجئ ببساطة منزل المرحوم وفرشه وأثاثه المتواضعين، وذكروا أن سجادة غرفة الاستقبال كانت بالية حافلة بالثقوب… رحمه الله !!.
ولا يفوتني في هذه المناسبة ذكر خدمات شكري القوتلي المباشرة وغير المباشرة للنسيج الشركسي في المجتمع السوري. وبشكل خاص دعمه للزعيم الشركسي محمد علي عزمت قائد الدرك السوري العام، وكذلك دعمه غير المباشر في إنشاء الجمعية الخيرية الشركسية، والأهم من ذلك موقفه من رفض إغلاقها في زمن الوحدة السورية مع مصر حين قرر جمال عبدالناصر إغلاقها.
دمشق : 30 -9 – 2019