من الصحافة
صحيفة النهار: وقائع قصة كيسنجر مع الدخول السوري الى لبنان عام 1976
هشام ملحم - صحيفة النهار
نشرت وزارة الخارجية الاميركية مجلدا جديدا من وثائقها عن عقد السبعينات من القرن الماضي بما في ذلك محاضر الجلسات التي شارك فيها وزير الخارجية انذاك هنري كيسنجر مع مساعديه لمناقشة الحرب الاهلية في لبنان بين ايلول 1975 وآب 1976 أي قبل وبعد دخول القوات السورية الى لبنان.
المحاضر التي تطرقت الى الاتصالات والمداولات التي سبقت دخول القوات السورية الى لبنان، تكشف عن وجود قلق عميق ومعارضة اولية قوية في الحكومة الاميركية لدخول القوات السورية حتى ولو كان موقتاً، نظراً الى اقتناع كيسنجر من ان الدخول السوري سيؤدي الى اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان، وتحديدا المنطقة التي كانت معروفة انذاك باسم Fatahland للقضاء على قوات منظمة التحرير الفلسطينية. معارضة كيسنجر لاجتياح اسرائيل المحتمل للجنوب كان يدفعه هو وغيره من المسؤولين الاخرين ومن بينهم الجنرال جورج براون رئيس هيئة الاركان العسكرية للتهديد بقطع المساعدات العسكرية عن اسرائيل اذا اجتاحت الجنوب، كما ان كيسنجر اقترح في احدى الجلسات انتقاد اسرائيل علنا في الامم المتحدة وتأييد فرض العقوبات عليها.
المحاضر تظهر ان المسؤولين الاميركيين كانوا يتحدثون عن محدودية قدرتهم في التأثير على سلوك اللاعبين بمن فيهم داخل لبنان. قلق واشنطن من وقوع لبنان تحت احتلالين سوري واسرائيلي، واحتمال اندلاع الحرب مجددا بين سوريا واسرائيل، دفع بالجنرال براون لان يقترح نشر قوة اميركية في جنوب لبنان ” لمنع دخول الاسرائيليين”، ورد عليه كيسنجر ” لماذا لا تنظر في هذه المسألة، انا لست واثقا ان اسرائيل لن تتحرك الا اذا ادى ذلك لمنع حرب مع منظمة التحرير”.
وفي احدى الجلسات سأل كسنجر” هل نستطيع الاتصال بفئات لبنانية واستخدام نفوذنا ؟” ورد عليه مساعده لشؤون الشرق الاوسط الفرد آثرتون قائلا انه ليس لواشنطن “تاثير فعال…في هذا الوقت”. وكانت هناك معارضة في اوساط مساعدي كيسنجر ومن بينهم مساعده لشؤون الشرق الاوسط الفريد آثرتون ومدير “السي آي إي” وليم كولبي دعم “المسيحيين” في الحرب الاهلية. وفي احد المحاضر، نظر كيسنجر الى اثرتون وسأله “افترض انك لا تريد مساعدة المسيحيين” ورد آثرتون ” اعتقد انها فكرة سيئة”. ومع ان المحاضر تظهر استياء الاميركيين من سياسيين لبنانيين مختلفين من بينهم الرئيس سليمان فرنجية، او رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي انذاك الراحل كمال جنبلاط، الا انهم كانوا يعبرون عن قلقهم من احتمال تقسيم لبنان، او في حال دخول سوريا الى لبنان ان يؤدي ذلك الى ضمه الى سوريا.
وخلال اجتماع في 23 اذار 1976 وبعد ان ابلغت سوريا، عبر وزير الخارجية انذاك عبد الحليم خدام واشنطن ان الوضع في لبنان يتطلب تدخلها، قال الجنرال بيرنت سكوكروفت مساعد كيسنجر ” المشكلة هي اذا دخلت سوريا الى لبنان كيف سنخرجها. يجب ان يكون هناك تفاهم بانه سيتم استبدالهم خلال فترة محددة بقوة مشتركة (عربية) من قبل قوات تابعة للامم المتحدة” ، ورد عليه كيسنجر “ابدا. انت تعتقد انه اذا دخل السوريون لوحدهم انه سينسحبون لاحقا كي يتم استبدالهم بقوة مشتركة مؤلفة من قوات عربية”. وتدخل ريتشارد مورفي السفير الاميركي انذاك في سوريا ” هذا يعني عمليا ضم لبنان، وانا لا اعتقد انهم يريدون ان يفعلوا ذلك”.
وتكشف المحاضر ان كيسنجر في هذه الجلسات الخاصة كان يوجه انتقادات قاسية ومهينة للحكومة الاسرائيلية ولمسؤولين اسرائيليين محددين، مثل قوله ان “رابين ضعيف”اوان ييغال آلون ” غبي”، او قوله”الاغبياء في تل ابيب ” غير قادرين على فهم مخاطر استفزاز الرئيس حافظ الاسد في لبنان،او حديثه عن “السلوك الاسرائيلي المشين” او ان عقوبة دخول اسرائيل الى جنوب لبنان “لا يمكن التسامح معها”. احيانا كان كيسنجر يستخدم شتائم خفيفة ضد الاسرائيليين مثل “أولاد الكلابThoses sons of bitches تواقون للغاية لتوجيه ضربة حقيقية للسوريين”. وخلال ملاحظته لهدوء الاسرائيليين خلال فترة سبقت دخول السوريين الى لبنان، قال كيسنجر :”ليست من عادتهم ان يتصرفوا بهذا الشكل. اسرائيل تستغل أي تطور سلبي وتستخدمه للضغط من اجل الحصول على المزيد من الاسلحة او ان يحلبوننا للحصول على مساعدات…”
وبعدما تبين ان السوريين يعتزمون دخول لبنان، بعد ان طلب منهم الرئيس اللبناني انذاك سليمان فرنجية مدعوما من المسيحيين، وبعد دخول قوات فلسطينية من سوريا، كان هم كيسنجر ومساعديه وخيارهم الاول منع دخول اي طرف خارجي، او في حال دخول السوريين بقوات نظامية ان يكون ذلك لفترة اسابيع قليلة، يقومون خلالها بضرب واحتواء “الراديكاليين” و “الشيوعيين” وحلفائهم في منظمة التحرير الفلسطينية، يتبعه انسحاب سوري، حيث تقوم واشنطن خلال ذلك بالضغط على اسرائيل كي لا تتدخل وخاصة اذا كان حجم القوة السورية صغيرا ولم تجتز خط الليطاني.وسأل كيسنجر “من المهم ان نعرف ماذا في ذهنهم؟ هناك فارق كبير بين الفين وعشرين الف جندي” . ورد عليه مورفي “اكثر من الفين…”. وسأل كيسنجر “الى اي وقت سيبقون هناك؟ وكيف سندفعهم للانسحاب؟” وكان الجواب هو ان عبد الحليم خدام ابلغ السفارة الاميركية في دمشق انه ليس لديه فكرة واضحة عن عدد الجنود. وتساءل كيسنجر ” ان يقول لنا السوريون انهم سيدخلون لاسبوع وبعدها ان ينسحبوا او حتى ان يبقوا لشهر، ونحن بدورنا نقوم بتقديم الضمانات (لاسرائيل) بانهم سينسحبون، هذا وضع معين” ويتابع ” ولكن سيكون هناك وضع مختلف كليا اذا دخل السوريون دون ان يكون هناك اي نية للانسحاب.
الاسرائيليون بكل بساطة لن يقبلوا ذلك”. وهنا اقترح جوزف سيسكو وكيل الوزارة للشؤون السياسية اجراء تعديل محدود على وحدات الجيش الفلسطيني التي دخلت الاراضي اللبنانية من سوريا، وان يتم طمأنة الاسرائيليين الى ان هدف سوريا هو الانسحاب فور التوصل الى حل سياسي. ورد كيسنجر قائلا ان الطريقة الوحيدة لقبول اسرائيل بذلك هي توفير “ضمانات اميركية، لان اسرائيل ستستخدم التحرك السوري في لبنان لتبرير هجومهم ضد جنوب لبنان، واذا قلنا للسوريين اننا نوافق على تدخلهم، عندها سأجد نفسي في مشكلة عويصة مع المصريين”. وتبين المحاضر ان كيسنجر كان يدرك ان دخول سوريا الى لبنان سيغضب الرئيس انور السادات الذي سيرحب بدخول الاسرائيليين الى جنوب لبنان لاحراج السوريين. كينسجر رأى ان السادات يرحب بالفوضى في لبنان اذا اضرت بسوريا.
وفي اجتماع عقد مساء الثالث والعشرين من اذار 1976 قال كيسنجر ان اسرائيل ” بكل بساطة تريد ان تقوم سوريا باحتلال شمال لبنان، وهذا يعني انهم سيحصلون على جنوب لبنان”. وتبين المحاضر ان الاميركيين حاولوا من خلال بريطانيا حض الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن على علم بطلب سوريا من واشنطن الموافقة على دخولها لبنان، لكي يضغط اكثر على حافظ الاسد لعدم دخول لبنان. وفي اجتماع بتاريخ 24 اذار 1976 قال كيسنجر ” لدينا وضع غريب في لبنان. سوريا تدعم المحافظين والمسيحيين ضد منظمة التحرير والشيوعيين.
مصر تدعم اليساريين والمنظمة ضد سوريا، والاتحاد السوفياتي يجب ان يدعم سوريا، ولكنه يدعم منظمة التحرير ايضا. واسرائيل بالطبع ضد منظمة التحرير، ونحن لا نستطيع ان نسمح لاسرائيل ان تدخل الى جنوب لبنان…” وفي وقت لاحق في اليوم ذاته قال كيسنجر ان واشنطن لم تحصل على الاجوبة المطلوبة من سوريا، وتابع ” واذا دخلوا الى لبنان فانهم قد لا ينسحبوا ابدا. التدخل يكون مقبولا لو دخلوا وضربوا المنظمة وبعدها يتم استبدالهم بقوة تابعة للامم المتحدة”. ومع ذلك فقد كان كيسنجر يبدي دائما تفهما لوضع حافظ الاسد وقلقه من تقدم القوى اليسارية وحلفائها الفلسطينيين في القتال ضد الائتلاف المسيحي. وعاد ليقول انه يعمل على التوصل الى ضمانات دولية التي تضمن بقاء القوات السورية في لبنان “لبضعة اسابيع” بعد ان يتم تحديد عددها وطبيعتها لتفادي نزاع اقليمي اوسع. وراآ انه يجب اعلام الاسد “باننا نتعاطف كثيرا مع وضعه ونوافق على حلوله..وباننا نتحاور مع الاسرائيليين بالنسبة لحجم القوات (السورية) وفترة بقائها (في لبنان) من اجل ان نقلص من احتمالات تدخل اسرائيل”.