مختارات من الكتب
جميل مردم بك واستقالة حكومته الأولى عام 1939
تميم مردم بك- صفحات من حياة جميل مردم بك (12)
على الرغم من الفوز الساحق الذي حققته الكتلة الوطنية والذي أدى إلى تربّع قادتها على جميع كراسي السلطة، حاول المعارضون للكتلة تنظيم صفوفهم على شكل هيئات شعبية على أنقاض جمعيات وأحزاب سابقة، وكان أبرز هذه الهيئات “الهيئة الشعبية” التي ترأسها الدكتور عبد الرحمن الشهبندر واشترك معه بعض الهيئات الضعيفة وبعض من انشق عن الكتلة أمثال زكي الخطيب ومنير العجلاني. وألقى الشهبندر في مقر الكتلة الوطنية بدمشق في 15 حزيران 1937 خطاباً هاجم فيه الكتلة بقوله:
“إنني أرمي إلى توحيد الصفوف، ولا أريد أحزاباً ولا أعني بالشخصيات”، ففهم رجال الكتلة أنه يعرِّض بالكتلة وقادتها. كذلك شنَّ منير العجلاني هجوماً على الكتلة وحكومتها ومعاهدتها.
“ويذكر وليد المعلم في حاشية كتابه «سورية الطريق إلى الحرية». بأن الشهبندر وضع كتاباً بعنوان “القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي” وهو مجموعة مقالات رأى فيها حاجة البلاد الضرورية إلى التجانس وأن حكومة النخبة هي السبب في طحن الجماهير العربية وجعلها متجانسة… ويرى أنه من الخطأ الوهم بإمكان تأليف حكومة عربية مركزية ديمقراطية… ويؤيد إقامة حلف عربي، ويطالب بالاتحاد مع العراق. ولم يُلق الشهبندر ضوءاً على العامل الديني، فقد طغى على ذلك إيمانه بالقومية القائمة على مرتكز البقعة الأرضية المتجانسة ووحدة النسب والتقاليد العامة. وطالب بمساواة المرأة مع الرجل، وحمل حملة شديدة على حجاب المرأة، وكانت زوجته في مقدمة من رفعوا الحجاب في دمشق!…”
ورد في كتاب عبد الرحمن الشهبندر للدكتور عبد الله حنا:
(لم يكن الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في عداد الوفد السوري المفاوض في باريز حيث كان مبعداً ومحكوماً عليه بالإعدام منذ ثورة 1925. من هنا تعمقت جذور الخلاف بينه وبين الكتلة الوطنية، فقد كان يعتبر نفسه أَوْلى من الجميع بترؤس الوفد السوري المفاوض في باريز)، علماً بأن وفد الكتلة في باريز كان دائم الاتصال به عن طريق فارس الخوري ولكن الحقد الذي في نفسه لا بد أن يظهر في أول مناسبة!..
إلى جانب الشهبندر كان من المعارضين زكي الخطيب ومنير العجلاني، وقد سموا أنفسهم (الجبهة الوطنية المتحدة)، وكانوا يرون أن هذه المعاهدة بعيدة عن تحقيق الأماني القومية ولا تحقق الاستقلال، وكأن هؤلاء الثلاثة من الفهم والنبوغ ما يفوق الشعب بجموعه وقادته الذين وافقوا على المعاهدة.
وقد رد عليهم فارس الخوري في خطاب على مدرج جامعة دمشق، ومما قاله: “ليس في المعاهدة التي كتبت بدماء الشهداء ما يمس استقلال سورية، معاهدتنا معاهدة الند للند وهي تؤيد استقلالنا الاقتصادي والسياسي وحرية التعاقد مع الحكومات العربية الأجنبية”.
(ومما يؤسف له بأن بعض من يعتبرون أنفسهم مفكرين وهم أنصاف مفكرين في أيامنا هذه ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين يؤيدون رأي الشهبندر!… ليس لشيء إلا لحقدهم على الكتلة الوطنية ورجالاتها الأفاضل نخبة الشعب السوري).
والجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي السوري قال في المعاهدة: “لقد أحرز الشعب انتصاراً وطنياً كبيراً في عقد هذه المعاهدة… وحقق الشعب مطالبه الوطنية الكبرى مثل ضم جبل الدروز والعلويين إلى أمهما سورية”. هذا بالإضافة إلى الشعب السوري برمته الذي خرج عن بكرة أبيه مهللاً فرحاً بالمعاهدة.
بعد توقيع المعاهدة وعودة الوفد المفاوض، جرت الانتخابات كما سبق ذكره، واستُبعد الشهبندر عن الوزارة التي كان يتحرق ليكون فيها، مما زاد في توجيه نيران نقده للمعاهدة على صفحات الجرائد القاهرية.
ولما عاد الشهبندر إلى دمشق بدأ بتحريض أتباعه الشهبندريين للقيام بمظاهرات الاحتجاج.
في الوقت الذي تعرضت له الحكومة المردمية والحكم الكتلوي الوطني لهجمات المعارضة الداخلية، كانت الدوائر اليمينية الفرنسية تحاول الرجوع عن المعاهدة والتملص منها، والتسويف في المصادقة عليها. ولم يبق مؤيداً لتوقيعها إلا أقصى اليسار الفرنسي.
ومع تأخر توقيع المعاهدة ازداد نشاط المعارضين للحكم الوطني الكتلوي وانقسم الشعب إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ الرجعية الداخلية الراغبة في بقاء الحكم الإمبريالي الفرنسي المباشر للحفاظ على مواقعها.
2 ـ العناصر الوطنية الشابة.
3 ـ الشهبندريون المذبذبون… الذين كانوا يتمنون المعاهدة ولما تم التوقيع عليها انقلبوا معترضين ولو أنهم جلسوا على كراسي الحكم لوافقوا عليها ورحبوا بها!…
تعرضت الحكومة المردمية للانتقاد، وكأن جميل بك هو الذي تأخر في التوقيع على المعاهدة. وبدأ أعداء البلاد من فرنسيين وإنكليز (الذين دعموا المعارضة لعلهم يحلّون محل فرنسا في سورية) بالهجوم على الحكومة واتهامها بالتقصير، كما دبّ الخلاف داخل الكتلة الوطنية، ووضع رئيس الجمهورية هاشم بك الأتاسي العراقيل في وجهها، وبدأت الثقة بالحكومة تضعف بعد توقيع مردم بك اتفاقية تجديد امتياز البنك السوري ومنح الشركات الفرنسية حق استثمار البترول السوري والتنقيب عنه،
وسميت هذه المعاهدة “بونه ـ مردم بك” (وبونه هو جورج بونه وكيل وزارة الخارجية الفرنسية).
أثارت هذه الاتفاقية الكثير من التساؤل واتهم جميل بك بالتساهل مع الفرنسيين، وتعرضت الحكومة إلى انتقاد شديد وقامت المظاهرات الطلابية في أنحاء سورية مما دفع جميل بك لاستقالة وزارته المشكلة من أقطاب الزعامة النضالية في البلاد:
جميل مردم بك رئيساً ووزيراً للاقتصاد ـ سعد الله الجابري للداخلية والشؤون الخارجية ـ شكري القوتلي للمالية والدفاع ـ عبد الرحمن الكيالي للعدلية والمعارف. وكان على مردم بك أن يثبت للملأ أنه ليس في سورية رجال يقبلون التفاهم مع فرنسا على الأسس التي حضر المفوض السامي لتنفيذها… أي تعديل المعاهدة، أو ما رآه المفوض السامي من حيث تغيير بنود المعاهدة لتحقيق الغاية التي هي الإبقاء على الوجود العسكري الفرنسي.
وقد طلب المفوض السامي من جميل بك أن يستقيل من الحكم، لأنه لن يكون هناك تفاهم أو انسجام بين سلوك الحكومة وبين السياسة التي أعلن عنها المفوض السامي.
على أثر استقالة الحكومة الكتلوية (المردمية) اجتمع مجلس الكتلة الوطنية في 20 آذار 1939 وأيد كتاب استقالة الحكومة واعتبر “الأزمة القائمة الآن أزمة سياسة قومية”، واتخذ قراراً هاماً كان نقطة تحول في سياسة الكتلة الوطنية كمجموع إزاء الانتداب، أعلن فيه “عدم جواز استمرار الكتلة الوطنية في الحكم الذي يجب أن يقوم على أساس تنفيذ معاهدة 1936 ودعا إلى عدم تأييد أي حكومة لا تقوم على هذا الأساس. كما دعا الشعب لتوحيد صفوفه”.
تفاقمت الأزمة في آذار إلى درجة أن هاشم بك الأتاسي رئيس الكتلة كلف في 5 نيسان 1939 نصوح البخاري بتأليف الوزارة وضمت خالد بك العظم وحسن الحكيم وسليم جنبرت، ولم تصمد هذه الوزارة طويلاً واستقالت في 5 أيار 1939.
بدأت السلطات الفرنسية تحيك المؤامرات وتشن الهجوم على رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، وسرعان ما أصدر المفوض السامي في 8 تموز 1939 قراراً برقم 144 أوقف بموجبه العمل بالدستور وحل المجلس النيابي، وانتقلت سورية إلى الحكم الاستعماري المباشر، في الوقت الذي كانت غيوم الحرب العالمية الثانية تتلبد في سماء العالم منذرة بحرب ضروس. وأصدر المفوض السامي قراراً بإقالة رئيس الجمهورية جاء فيه ما يلي:
1 ـ يوقف مؤقتاً تطبيق الدستور السوري فيما يتعلق بتنظيم السلطة التنفيذية والتشريعية.
2 ـ يحل مجلس النواب ويحدد فيما بعد تاريخ الانتخابات الجديدة.
3 ـ يعهد بتأمين السلطة التنفيذية تحت مراقبة المفوض السامي إلى “مجلس يؤلف من مديري المصالح العامة برئاسة أحدهم (مدير الداخلية)” وبذلك تشكلت حكومة المديرين برئاسة بهيج الخطيب مدير الداخلية وحل مجلس المديرين محل مجلس الوزراء.
وبهيج الخطيب هو من أصل لبناني مسلم سني غير متعصب عارف بالرجال خبير بجميع المناطق السورية، وبحكم انتمائه إلى الماسونية فإن له صلات مع مختلف رجال الأحزاب إلى جانب كونه من رجال الانتداب وقد أعلن الدكتور عبد الرحمن الشهبندر تأييده للخطيب لدى مقابلته له!…
وهكذا فقد كان مجلس المديرين في دمشق يعالج الأمور اليومية، وكانت قراراته ترسل إلى المندوب السامي الذي يوافق أو لا يوافق عليها. وهكذا نجد أن سورية كانت تحكم من قبل رجال من ورق، تنفذ ولا يحق لها أن تعترض، عبيد للفرنسيين وضعوهم على كراسي الحكم ودعوهم “رئيس وأعضاء مجلس المديرين” تضليلاً للناس!..
منعت هذه الحكومة النشاط السياسي وعاد نفوذ المستشارين واعتقل وطنيون وصحفيون وفتح منفى أرواد من جديد وارتفعت الأسعار ارتفاعاً حاداً وساد التذمر بين أفراد الشعب.