المقال نشر في صحيفة تشرين عام 1983
وقفة مع تجربة الفنان أحمد مادون
لقد فقدناه في لحظة اكتماله فنا ورؤية وانسانية
معاصرا اكتشف نفسه ..حين قرر أن يكون تدمريا
حين ذكر لي بعض الأصدقاء , الحادث المفجع الذي وقع ضحيته الفنان الراحل “أحمد مادون” لم أصدق في البداية أن تقع مثل هذه الفاجعة المؤلمة لفنان مثله , وخصوصا انه كان ممتلئا حيوية , قبل يوم من الحادثة , و يتحدث عن المستقبل , بثقة , ويحاورنا عن مشاريعه فنيا .. وحياتيا
لكن القدر كان له بالمرصاد في لحظة من اللحظات التي كنا نشعر فيها بانه قد بدأ يحقق بعض احلامه التي كانت تراود منذ فترة زمنية طويلة , والتي كانت اقرب الى التحقيق من اية فترة اخرى ؟ وهكذا .. كانت الحادثة المؤلمة اسرع اليه من الحلم الذي راوده , والآمال التي كان يعلقها على استقراره في “تدمر” ليتفرغ للرسم والانتاج الفني , ويحقق لبلدته شيئا ما ,ينعم بالهدوء الذي كان يبحث عنه , ولا يجده في “دمشق”التي اصبحت مقلقة له , ولا تستطيع تلبية كل احتياجاته , وما يطمح اليه من هدوء وتفرغ للفن .
ولقد حدثنا عن مرسم وجده قرب “تدمر” اختاره في مكان هادئ , وعن رغبته في ان يغرق نفسه في العمل قرب بلدته , يستوحيها في اعماله , التي كان يشعر بأ عليه ان يرسمها , في البلدة التي ولد فيها وترعرع وظل يحن اليها , زمنا طويلا , ويحلم بان يحقق عمله الفني عنها .. وفيها ..
ولم يكن حلمه ان ينعم وحده بمرسم خاص , بل كان يفكر ويلح على مرسم فني في بلدته , يأتي اليه جميع ىالفنانين , ليرسموا في هذه المدينة الرائعة ويعيشوا آثارها , ويتمتعوا بما تركه الاجداد من اعمال فنية ونحتية رائعة لا نظير لها .
وهكذا , شعرنا لحظة الخبر الفاجع ان “أحمد” كان في أكثر لحظات حياته قربا من الاستقرار النفسي والفني , واكثرها رغبة في البحث عن الهدوء ليتابع عمله الفني , بعيدا عن كل المنغصات التي كانت تؤثر على حياته , في فترات التأزم والارتباك , وهكذا حسم الموت بقوة آمالا كانت أقرب ما تكون الى التحقيق , وجاءه في مرحلة اقترب فيها من ان يكون هو ذاته بعيدا عن كل الاجواء المربكة
وان المطلع على تجاربه الفنية , او من يحاول ان يتفهم “احمد مادون” عن قرب , ويكتشفه يحس بانه كان موزعا في فنه بين تيارات عديدة , وكذلك هو في نفسيته وتفكيره , انه يريد ان يكون فنانا له عدة اساليب وله عدة اشكال من التعبير , يريد ان يكون قريبا من الفن الاوروبي ومدارسه واتجاهاته , ويحاول اقتحام آفاق التعبير الفني المختلفة والحديثة , وكذلك يريد ان يكون محليا , وله دراساته المختلفة التي تنطلق من تدمر ومن آثارها
ولا يعكس هذا شخصيته الفنية وحدها , بل يعكس هذا التوزع حياته نفسها , انه يريد ان ينتمي الى “تدمر” وهو يحاول هذا في كثير من التجارب , وهو يريد ان يكون معاصرا , ويريد ان يرتبط بدمشق وغيرها من المدن الحديثة , وهكذا توزعت تجاربه بين ثلاثة تيارات , فهو يقدم لنا تجارب حديثة , ترتبط بتدمر ومعلولا وغيرهما , فهو يرسم هذه المدن والقرى بالالوان المائية والزيتية , وبصياغة تقليدية , ويسجل ما يرى بدقة وهو – في نفس الوقت – يقدم لنا تجارب اخرى حديثة تاثرت بالاتجاهات الفنية المعاصرة من تجريدية وسريالية , تعكس عوالم ذاتية بعيدة النور , متأثرا بالفن المعاصر وتعكس هذه عالمه الخاص الذاتي .
وهو في نفس الوقت يتجه الى “تدمر” الى التراث العريق في هذه المدينة العظيمة , انه هنا يأخذنا الى الاساطير العريقة في البلدة التاريخية , ويستوحي هذه الاثار التاريخية والنحتية ويربط عمله بها , ونحن قادرون على اكتشاف ان هذا الشكل الاخير قد بدا يأخذ اهمية كبيرة ويطغى على انتاجه الاخر , وخصوصا في معرضه الاخير الذي عرض فيه لوحة “احتفال” التي تعكس بوضوح كل القيم الفنية , من وجوه واشخاص ونسب تؤكد على صلة عميقة بتدمر , اعاد دمجها مع رؤية حديثة خاصة به , فاستخدم الاسطورة استخداما معاصرا اعطاه دفعا كبيرا وساعده على تحقيق قفزة نوعية على مستوى انتاجه كله , وجعله يؤثر فعلا ان يكون مع بلدته تدمر وان يبدأ من حيث يجب لن يبدا
ولعل هذا التوزع بين “الحداثة” و “الاصالة” وبين “دمشق” و “تدمر” وبين مختلف التيارات , قد قدم لنا شخصيته الفنية التي كان يتنازعها العديد من الافكار والرؤى , ولكن فترة النهاية التي ايقظته من التردد, وقد جعلته امام حقيقة اساسية هي ان عليه يكون فنيا على صلة وثيقة بتدمر , ولهذا كانت رحلاته الى هناك لا تنتهي , وكل زيارة له كانت تساعده على اكتشاف نفسه اكتر , وعلى تحقيق هدفه الرئيسي ان يكون لبلدته قبل كل شئ ..
وفي الحقيقة ان التجارب المختلفة التي عالجها , لم تكن عديمة الجدوى , وفي نفس الوقت لم تكن فارغة المضمون , ذلك لان “أحمد” لم يكن قادرا على الوصول الى ما وصل اليه في تجاربه الاخيرة الا حين مر بالتجربة المتنوعة التي مربها , والتي صقلت موهبته واعطته القدرة على ان يجمع في لوحاته الاخيرة عناصر مختلفة , وهذه العناصر ترتبط مع بعضها في تشكيل حديث .
وذلك لانه تمكن من ان يعطي موضوعه وهو “الاحتفال” عبر جذوره التاريخية التي تعتبر جذورا تاريخية لامته , وقد جمع هذه الوجوه التدمرية مع صياغات جديدة معاصرة – الى حد بعيد – وذلك في الصياغة الفنية , وفي نفس الوقت اعطى ما هو شخصي , نحس به عبر الوجوه التي لم تعد “جميلة” كما هي حال الوجوه النحتية التدمرية , بل اصبحت الوجوه معبرة عن مأساة وفاجعة احيانا , وربط هكذا بين الموضوع الخارجي التاريخي , وعالمه الشخصي الذاتي , وفي نفس الوقت قدم لنا ما هو معاصر , اي اللوحة التي تتحدث عن موضوعات نعيشها , وهكذا كشف لنا عبر رؤيته عن واقع معاصر له جذوره التاريخية التي لا يمكن ان تنعزل عنه او تبتعد .
وهكذا حل الاشكال والتوزع , ووجد نفسه بعد رحلة طويلة اعطى فيها اشياء كثيرة , لكن “تدمر” حسمت الموقف كله لمصلحتها , ولكن الموت جاء في لحظة كان فيها “أحمد مادون” اقرب ما يكون الى أن يكون هو ذاته . ولعل هذا الاحساس يجعل من موته فاجعة مضاعفة , لاننا فقدناه لحظة كماله , فنا , ورؤية , وانسانية.