مقالات
معروف الدواليبي: ديغول ودوره في استقلال سورية ولبنان
احتفلت سورية حكومة وشعباً بعيد الجلاء، جلاء القوات الفرنسية عن سورية ولبنان. وتقرر اتخاذ يوم جلاء القوات الاجنبية عن سورية ولبنان ذكرى وطنية سورية. ولا بد في هذه المناسبة ان نذكر الجهود التي بذلها رئيس وزراء سورية سابقاً الدكتور معروف الدواليبي، عندما كان مقيماً في باريس عند انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهذه الجهود قلّ من يعرفها عندما كان في باريس آنذاك. وكان الرئيس فرنسوا ميتران ألّف سنة 1990 لجنة للاحتفاء بمرور مئة سنة على ميلاد الجنرال شارل ديغول ودُعي الدكتور الدواليبي الى الاحتفال. وكلفه الرئيس ميتران ان يلقي كلمة عن الجنرال ديغول وما له من فضل على جلاء القوات الفرنسية عن سورية، وإعلان استقلالها. وهنا بعض ما جاء في كلمة الدواليبي.
> شاءت الأقدار ان أصل الى باريس في مطلع عام 1939 الذي انفجرت فيه الحرب العالمية الثانية بعد اشهر في 31/9/1939، وذلك للالتحاق بجامعة باريس ومتابعة الدراسات العليا فيها لإعداد الدكتوراه في الحقوق، وفي ظل تفاقم الخلاف بين الحكومة السورية وبين الحكومة الفرنسية حول معاهدة الاستقلال التي كانت عقدتها سورية مع فرنسا في عام 1936، ثم أبرمتها سورية قانونياً في السنة نفسها، ولكن من دون ابرامها من قبل فرنسا. وظل الأمر كذلك حتى انفجرت الحرب العالمية التي حالت دون البت فيها… ولذلك لم تلبث مشكلة المعاهدة ان انفجرت من جديد فور توقف الحرب في أوروبا في 8/5/1945، وذلك حين تقدم مندوب حكومة ديغول وقائدها العسكري في سورية الجنرال اوليفار روجيه، وبعد عشرين يوماً من توقف الحرب، وطلب من حكومة سورية الدخول في مفاوضات من اجل عقد اتفاقات مع فرنسا تمنحها امتيازات واستراتيجية عسكرية تعطل ما قد سبق لديغول نفسه من اعتراف مع انكلترا باستقلال سورية ولبنان اثناء الحرب. وهذا ما يوجب علينا الآن ان نستعرض بإيجاز مشكلة معاهدة 1936 التي أبرمتها سورية، ثم تراجعت عنها فرنسا، وما كان وراء ذلك من خلفيات وحقائق حملت سورية على رفض كل مفاوضة بعدها مع فرنسا، حتى اذا ما عرف الجنرال ديغول هذه الحقائق حمله الانصاف والاخلاص لوطنه ان يبدل موقفه تجاه سورية حينئذ، ما بين عشية وضحاها، من سلبيات العدو، الى ايجابيات الصديق. وهذا ما سوف اشرحه مما قد نامت عليه وثائق الخارجية الفرنسية، وحفظت في ظل النسيان حتى اليوم.
كانت معاهدة 1936 قد دعت اليها فرنسا بعد ثورة سورية شاملة، في جميع مدنها وقراها. وكان سلاح هذه الثورة الجديد هو الحجارة والاضراب العام، والمقاطعة لكل شيء فرنسي، والامتناع عن دفع الضرائب بحكم الاضراب العام الذي امتد ستين يوماً تعطلت فيها جميع مصالح الدولة ودوائرها، وتزايدت معها المشاكل والاحداث يومياً، حتى امتلأت السجون بالمعتقلين وضاقت بهم، وأصبح الوضع العام ينذر بشر من ذلك. وكان هذا على اثر اغلاق المفوض السامي مكاتب حزب الكتلة الوطنية الوحيد في سورية، واعتقال قيادته. وظل الاضراب مستمراً حتى اضطرت الحكومة الفرنسية الراديكالية حينئذ امام هذا الوضع الخطير الى تدارك الأمر. وذلك بأن اتصلت مع القيادة الوطنية السورية برئاسة هاشم الأتاسي، وأعلنت الاتفاق معه على الافراج عن المعتقلين، ودعوته مع وفد سوري عال الى باريس لوضع معاهدة الاستقلال. وصدر بذلك بيان رسمي، وأعلنت القيادة الوطنية عندئذ وقف الاضراب العام، وانتقل الوفد السوري برئاسة هاشم الأتاسي من سجون سورية الى قصور باريس في ظل انتخابات جاءت فيها حكومة الجبهة الشعبية برئاسة ليون بلوم التي استلمت المفاوضات بضعة اشهر، وانتهت بعد جهد شاق بتوقيع معاهدة عرفت بمعاهدة 1936، وأسرعت سورية بالدعوة الى انتخابات اقامت بعدها حكومتها الشرعية برئاسة هاشم الأتاسي، رئيس الجمهورية، وأبرمت المعاهدة في اواخر عام 1936.
وأخذت حكومة ليون بلوم تماطل في التصديق قانونياً على المعاهدة خلال سنتين، حتى حلّت مكانها حكومة رالادبية الراديكالية الاشتراكية عام 1938، وأخذ الاعلام الفرنسي ينادي برفض المعاهدة لأنها لم تضمن مصالح فرنسا. وصدر في ذلك تقرير مقرر لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي هانري هاي محافظ مدينة فرساي. وهذا ما دعا حينذاك الطلاب السوريين في باريس لإقامة جمعيتهم الطلابية بصورة قانونية، والتصدي للاعلام المغرض، والدعوة لعدة ندوات في ذلك، ودعت اليها هانري هاي وغيره من الشخصيات البرلمانية ومن رجال الصحافة، وكلفت عندئذ من قبل اخواني الطلاب برئاسة هذه الجمعية. ولم يأت صيف عام 1939، وقبيل انفجار الحرب العالمية الثانية، حتى اوقفت الحكومة الفرنسية الدستور السوري، واستردت كل السلطات، وصرفت الحكومة الشرعية ورئيس الجمهورية، وعادت سورية الى وضع أسوأ من وضعها السابق قبل معاهدة 1936. وهذا ما ترك أسوأ الأثر في سورية، بل وفي جميع الدول العربية المحبطة بسورية.
وهكذا، ولم يأت عام 1941 حتى انفجرت ثورة العراق في أشد أيام الحرب العالمية الثانية، وهي تنذر بثورات اخرى في الشرق الأوسط، لولا ان تداركت انكلترا الأمور، فور قمع الثورة العراقية، الاعتراف بسرعة باستقلال العراق وسورية ولبنان، وهذا ما دعا الجنرال ديغول ايضاً لتأييد ذلك الاعتراف، خاصة وقد كانت سورية ولبنان لا تزالان حينذاك تحت سيطرة حكومة فيشي وفي ظل الاحتلال الألماني، كما كانت سلطات فيشي قابضة على كل السلطات في سورية ولبنان. وسهل ذلك الاعتراف البريطاني – الفرنسي المشترك للقوات الانكليزية القادمة من فلسطين ان تقتحم سورية ولبنان بأفراح البلدين، وأن تقيم لهما حكومتين مستقلتين دستوريتين فيهما حتى نهاية الحرب في أوروبا في 8/5/1945. وهذا ما حمل الحكومتين بناء على نصيحة تشرشل لهما بضرورة اعلان الحرب اخيراً على دولتي المحور لتشتركا في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي سيضع ميثاق الأمم المتحدة الذي لن يدعى اليه الا الدول المستقلة ذات السيادة الكاملة، وكذلك كان. وأعلن رئيس الجمهورية شكري القوتلي بنفسه الحرب الدفاعية ضد دول المحور في مجلس النواب السوري بتاريخ 12/2/1945.
لذلك كله صدم السوريون عندما عادت فرنسا المتحررة، وبعد عشرين يوماً فقط من توقف الحرب، وخاصة بعد ان وصلت البارجة جان دارك في 17/5/1945 وأنزلت قوى اضافية معززة بها قواها في سورية ولبنان، ثم اعقبها على الفور في 18/5/1945 مطالبة كل من سورية ولبنان – وفي ظل قدوم تلك القوى الجديدة – بتوقيع اتفاقات مع فرنسا تضمن لها امتيازات ومصالح اقتصادية واستراتيجية عسكرية قبل جلاء القوات الفرنسية التي كانت سورية ولبنان تطالب بجلائها عقب انتهاء الحرب في أوروبا. ووجد السوريون في مطالب فرنسا مجدداً بتلك المصالح عودة مرة ثانية الى ما رفضه البرلمان السوري بالاجماع من قبل بتاريخ 31/12/1938، اذ في تلك المطالب تعطيل للاستقلال مرة ثانية ايضاً. ولهذا رفضت سورية رفضاً نهائياً كل بحث يمس استقلالها، وأعلنوا ان لا معاهدة ولا مفاوضة بعد اليوم مع فرنسا. وكان الجواب على هذا الرفض من قبل الجنرال اوليفار روجيه، مندوب حكومة ديغول وقائدها العسكري في سورية هو ضربة دمشق وبرلمانها بكل عنف. وتعالت عندها صيحات الاستنكار العالمية الى جانب سورية، وتوترت العلاقات بين ديغول وتشرشل، وتبادلا التهديدات، وكان آخرها في مساء 30/5/1945 هو انذار تشرشل لديغول عن طريق سفير فرنسا في لندن ماسيغلي بوجوب وقف اطلاق النار في دمشق حالاً، وبلزوم انسحاب القوات الفرنسية الى ثكناتها، مع تصريح تشرشل بأنه في حال استمرار القتال فإن القوات البريطانية لا تستـطيع ان تقـــف مكتوفة اليدين، وبأنه عندما يتوقف اطلاق النار سيكون على استعداد للدخول في مباحثات ثلاثية، وهي ما بين فرنسا والولايات المتحدة وانكلترا في لندن.
وهكذا، وعملاً بهذا الانذار، اضطر الجيش الانكليزي التاسع للتدخل رسمياً عملاً بتبعية القوات الفرنسية لقيادته حينذاك، ولإلزامها بالانسحاب من سورية والاقامة في ثكنات خصصت لها في لبنان. وقضت انكلترا بذلك، ومنذ تلك اللحظة، على كل أمل بدور لفرنسا في سورية بعد اليوم. وقطعت سورية تبعاً لذلك علاقاتها الديبلوماسية مع فرنسا بعد ان كان لها وزير مفوض في باريس.
وفي ظل هذا التوتر المجهولة عواقبه، قمت فوراً بالاتصال بمن عرفتهم جمعيتنا من الشخصيات الفرنسية المعروفة باخلاصها لفرنسا، والعارفة معنا لحقائق المشكلة السورية، وخصوصاً بعد ان تذوقوا مرارة الاحتلال الاجنبي الألماني خلال خمس سنوات، وأصبحوا من أشد العاملين معنا لاستقلال بلادنا، والحريصين معنا على اقامة صداقة بين فرنسا وبين جميع شعوبنا العربية. وكان في مقدمة هؤلاء المخلصين الاستاذ المحامي الصديق جان لويز اوجول. فسارع الرجل، وكانت الاحداث تطالبنا بالسرعة، وجمعني اولاً وفوراً مع الجنرال دوشيه، حاكم باريس العسكري حينذاك، ومن كبار المقربين للجنرال ديغول، وكان مرشحاً لإرساله مفوضاً سامياً لسورية ولبنان. ثم لم يلبث الاستاذ اوجول وبالتعاون مع اصدقائه من كبار رجال ديغول، ان ابلغني صدور امر الجنرال ديغول لوزير الخارجية جورج بيدو باستقبالي سريعاً في وزارة الخارجية، والاستماع اليّ في الموضوع بعد ان قطعت العلاقات السياسية وكل اتصال مع احد ما من سـورية. وهكذا اوصلني الاستاذ اوجول بنفسه الى مكتب الوزير، ثم انسحب.
تم اجتماعنا هذا بعد ان دعا الجنرال ديغول الى مؤتمر صحافي في 2/6/1945 وحضره عدد كبير من ممثلي وكالات الانباء والصحافة الاجنبية ليتلو عليهم رسالة الجنرال اوليفار روجيه الذي ضرب دمشق قبل خمسة ايام في 29/5/1945، وشرح في رسالته الاحداث الخطيرة وما فعله “حلفاء الامس بالقوات الفرنسية في سورية”. وأوجز الجنرال ديغول اولاً في مطلع حديثه ما جاء في تلك الرسالة وقال: “ان اوليفار روجيه سيروي لكم بالتفصيل ماذا صنع معنا حلفاؤنا… انه شيء بغيض… انه الخنجر في الظهر… وإننا نعاني الآن صعوبة شديدة… وان البريطانيين يعملون على سلبنا… واننا نقاتل قدماً بعد قدم من اجل ان نحول بقدر الامكان دون ان يمسك البريطانيون بزمام القيادة… وذلك بانتظار الحل السياسي، وانه حسب ما نسمع من الاذاعات لن يكون ذلك غداً، وانه تزداد حالنا كل يوم سوءاً”…
وهكذا قدر لي ان ادخل على وزير الخارجية جورج بيدو بناء على امر الجنرال ديغول، في ظروف صعبة انقطع فيها الاتصال مع سورية، ووصلت الامور الى الطريق المسدود المظلم الذي لا امل بنور فيه، وما كنت ابغي في هذا الاجتماع الا ما كنت ادعو اليه دائماً في حواري مع اصدقائنا الفرنسيين من وجوب تحكيم العقل وانتصار الحق والصداقة مع الجميع. وها أنا اوجز لكم، وأعلن للمرة الأولى ما دار بيننا من حديث، وما قد انتهى اليه بعد موافقة الرئيس ديغول: من مفاجأة عالمية لم تكن في انتظار احد، وخاصة الحليفة بريطانيا العظمى.
دخلت على السيد الوزير الذي لم يكن يعرفني، ولم اكن اعرفه، فاستقبلني استقبالاً كريماً يعبر عن المقام السامي الذي امر بهذا اللقاء غير المنتظر، بعد ان انقطعت كل صلة لهم بسورية. وابتدرني بالحديث قائلاً: “اعترف لك بأنني لا اعلم شيئاً عن جذور المشكلة السورية”. وأنقذني سيادة الوزير من حيرتي فيما يستحبه مني ان أبدأ به الحديث في اخطر موضوع من مواضيع الساعة في العالم حينذاك. وتوجب عليّ عندئذ ان أبدأ بتاريخ المشكلة السورية التي هي جزء من تاريخ المشكلة للبلاد العربية التي انفصلت عن الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى في ثورة عليها من اجل الاستقلال كما اتفق عليه حينئذ مع انكلترا باسمها واسم حلفائها غير ان نصيب العرب قد انتهي بعد ذلك الى نكث العهود، والى فرض الانتداب عليهم من لبنان الى العراق، ضد حق شعوب المنطقة في تقرير المصير والاستقلال. وكانت حصة فرنسا من ذلك هو احتلالها لسورية ولبنان بالاتفاق مع انكلترا، ونشأ عن ذلك ثورات متتابعة، كان آخرها احداث سورية الخطيرة وثورتها الشاملة في نهاية عام 1935، تلك الثورة التي انتهت باعلان استقلال سورية عملاً بمعاهدة الاستقلال عام 1936، وما انتهت اليه من تراجع فرنسا عنها نهائياً قبيل اعلان الحرب العالمية الثانية… ثم العودة اليوم من جديد الى معاهدة جديدة بعد ان فقدت سورية كل ثقة بفرنسا. وأدهشني استماعه اليّ بكل انتباه. وكان هــــو يوجز في صحــيفته ما يريد، وكان السكرتير معه يختزل الحديث بكامله.
وحرصت في ذلك أن اكون موجزاً ما استطعت لننتقل الى موضوع الساعة. ولكن الوزير كان بادي الاهتمام بما أقول، وعلمت منه بعد ذلك انه من رجال الاختصاص في التاريخ، وأدركت منه بعدئذ السر في استفساره مني عن جذور المشكلة السورية في اول ما بادرني، وهذا ما سهل عليّ الخروج من حيرتي فيما يجب ان أبدأ به.
غير انني لا أنسى، حين استمعت الى رغبته في معرفة جذور المشكلة السورية أولاً، استأذنته ان يسمح لي بكلمات نتعارف فيها اولاً، وذلك رغبة مني بانفتاح كل منا على الآخر في حديث ودي من غير تحفظ حين البحث في صلب الموضوع، وكان ذلك. قلت له: انني يا سيادة الوزير. عرفتك جيداً منذ سنوات، وذلك منذ عرفت برئاستك للمجلس الوطني لمقاومة الاحتلال الألماني عام 1943، وبأنك نذرت نفسك لتكون من الجنود الأوائل الذين تجندوا لمعركة التحرير… وهذا ما جعلني انظر اليك يا سيادة الوزير بأن الوزارة هي التي تشرفت بك اليوم ولست انت الذي تشرفت بالوزارة، وسوف يبقى نضالك في سبيل تحرير بلدك من الاحتلال الاجنبي اعظم وسام لك في تاريخك… وأرجو الآن ان تسمح لي بتقديم نفسي اليك، فإنني ايضاً ممن نذر نفسه مثلك للتجند مع جنود التحرير لبلدي من الاحتلال الاجنبي… غير ان هذا الشرف في هذه الجندية بلغ من العمر خمسة وعشرين سنة من سني الاحتلال… وأما انتم يا معالي الوزير فلم يتجاوز عمر تجندكم فيه خمس سنوات، وأنتم اهل لأكثر من هذا الشرف… فتعال يا سيادة الوزير ندعو الله لو يعود الاحتلال الاجنبي لبلدكم عشرين سنة اخرى لنتساوى في سني هذا الشرف، لأنني يا معالي الوزير لا اريد ان أتقدم عليكم فيه. فضحك الوزير وقال لي… يكفــــينا ما لقيـناه من شرف السنوات الخمس. فقلت له: ولكن يا سيادة الوزير الا يكفينا نحن في سورية شرف الخمسة وعشرين سنة؟
وهنا عندئذ دخل الوزير في صلب الموضوع وقال: اننا اعترفنا باستقلال سورية منذ عام 1941، ونحن صادقون، ولا رجعة لنا فيه. وانما نريد معاهدة بعد مباحثات تنظيم العلاقات بيننا في مصالحنا المتبادلة. فقلت: عقدت سورية سابقاً معاهدة مع فرنسا، ثم تراجعت فرنسا عنها معتمدة على قواها المسلحة في سورية قبل جلائها، وعطلت الدستور الشرعي، وصرفت رئيس جمهوريتها الشرعي وحكومتها… وذلك بعد ان شجب برلمان سورية بالاجماع هذه المباحثات المعطلة للاستقلال. ولذلك، ثق يا معالي الوزير بأنه لم يعد هناك في سورية اليوم من يقبل معاهدة ثانية. وهذا أيضاً ما لا رجعة لسورية فيه، وخاصة بعد ان عززتم في هذا الشهر قواكم فيها، وكان ذلك سبباً لهذه الاضطرابات الشعبية الجديدة في سورية، ثم كان جواب مندوبكم العسكري عليها ان ضرب مجلس النواب ومدينة دمشق. ولم يكن لذلك من تفسير عند عامة الشعب السوري الا انكم قد تراجعتم عن اعترافكم باستقلالها الذي كنتم اعلنتموه عام 1942 بعد ثورة العراق عام 1941، وذلك كما كانت تراجعت فرنسا عن الاعتراف باستقلال سورية ولبنان عام 1939 بعد ان اعلنت قبل ذلك اعترافها باستقلالهما عام 1936 وسجلته لدى عصبة الأمم في جنيف حينذاك. فأجاب الوزير ليؤكد من جديد صدق فرنسا اليوم في اعترافها باستقلال سورية. وقال: ان فرنسا اليوم هي غير فرنسا قبل الحرب. فقلت: انني سعيد بأن أسمع ذلك منكم، ولنفتش اذن اليوم عن موقف فرنسي جديد يتفق مع مبادئ حرية الشعوب وحقها في تقرير المصير، تلك المبادئ التي اشتركتم مع حلفائكم من اجلها. وإنني احرص ان يكون لفرنسا وحدها شرف المبادرة اليوم في خلافها مع سورية، وأن لا يكون هناك أية مباحثات عن مصالح متبادلة في ظل القوة والاحتلال. فأجاب قائلاً: وهذا ايضاً ما عزمنا عليه الآن. غير ان انكلترا دعتنا لمباحثات ثلاثية بين فرنسا من جهة، وبين انكلترا والولايات المتحدة من جهة ثانية، وذلك لتنظيم الجلاء بعد ان تم وقف اطلاق النار، وذلك ما لا نرضى به للمباحثات معهما فقط بعد ان وقفت انكلترا، بالاتفاق مع الولايات المتحدة، ذلك الموقف المهين لقواتنا العسكرية في سورية. ولذلك دعوناهم الى مباحثات خماسية يضاف فيها الى الثلاثة كل من الاتحاد السوفياتي والصين، ولكنهم رفضوا ذلك، ولا نرى مبرراً لهم في هذا الرفض، الا حرص البريطانيين على ان يبقى زمام المبادرة والقيادة في ايديهم فقط. وهنا ألححت على سيادة الوزير قائلاً: “انه بالنسبة لسورية لا فرق عندنا بين المباحثات الثلاثية وبين المباحثات الخماسية ما دمتم، كما فهمت منكم، انكم عزمتم اخيراً على الجلاء. غير انكم في كلا الحالتين، ستلزمون سورية بدفع عمولة الجلاء الى انكلترا والولايات المتحدة فقط دونكم في المباحثات الثلاثية التي اقترحتها انكلترا، او انكم ستلزمون سورية بدفع هذه العمولة اليهما والى السوفيات والصين دونكم ايضاً في المباحثات الخماسية التي اقترحتموها… لأن سورية ستقول انها لم تتوصل الى هذا الجلاء الا بفضل اولئك فقط. وأما انتم فتجلون وقلوب السوريين مملوءة بالضغينة عليكم لأنكم انتم الذين قصفتم برلمانهم وعاصمتهم دمشق، ولأن اولئك هم الذين اجبروكم على وقف اطلاق النار اولاً، ثم على الجلاء ثانياً. وانكم بذلك يا سيادة الوزير تعززون، خلافاً لما تريدون، زمام المبادرة البريطانية التي شكرهم عليها السوريون والعالم اجمع. ويسرني هنا يا سيادة الوزير ان ألفت نظركم مرة ثانية الى ما قلته لكم آنفاً: انني احرص ان يكون لفرنسا وحدها شرف المبادرة الاخيرة لحل خلافها مع سورية ومن غير وساطة، وذلك رغبة مني بنسيان الماضي، وفي حمل سورية على ان تدفع عمولة الجلاء لكم وحدكم، وعلى ان تقول سورية بعد اليوم ان فرنسا الجديدة في ظل الجنرال ديغول هي حقيقة غير فرنسا القديمة كما اردتم تأكيده لي. فسارع مبتهجاً وقال: وكيف يكون ذلك؟ قلت: الأمر بسيط وسريع ان أردتم ذلك… وذلك بأن تبلغوا سورية منذ صباح الغد أنكم بأنفسكم قررتم الجلاء من دون قيد ولا شرط غير نسيان الماضي، وإنكم قد استغنيتم من اجل ذلك عن كل الوساطات الثلاثية والخماسية، وان فرنسا الجديدة ستضع كل امكاناتها مع حلفائها لدعم استقلال سورية استقلالاً غير منقوص. وسوف يكون لكم بهذه المبادرة شكر سورية أولاً، وشكر حلفائكم ثانياً، وإعجاب العالم بكم اخيراً. وهنا فوجئت بالفرحة التي غمرته، وابتدرني قائلاً: انني معك وإنني اهنئك على ذلك، وإننا بذلك سوف نستغني عن العودة الى انكلــترا التي اذلتنا… وسوف أنقل الى الرئيس الجنرال ديغول فوراً رأيك، ولا اشك ايضاً بأنه سيكون سعيداً بذلك، وموعدنا غداً في نفس الوقت لأخبرك بما قدم تم الاتفاق عليه.
في صباح اليوم الثاني سارع مكتب الوزير وطلبني هاتفياً للحضور فوراً… فدخلت على الوزير، وهو على غاية من الابتهاج، وأخبرني قائلاً: وافق الرئيس ديغول على اقتراحك، واختار تكليف الكومت هوتكلوك للسفر مساء هذا اليوم الى لبنان، وإبلاغ سورية عن طريق لبنان بأن فرنسا قررت الجلاء عن سورية من غير وساطة، ومن دون قيد ولا شرط. فشكرته على هذا الخبر الطيب… وقلت له: لا بد أيضاً من ابلاغ لبنان بالجلاء عنه على مثل الجلاء عن سورية. وإن سورية لن تقبل ببقاء الجيش الفرنسي في لبنان، لأن الجنرال غورو حين احتل بيروت في آخر الحرب العالمية الأولى لم يلبث ان احتل دمشق. ورجوته بتأخير سفر الكومت هوتلكوك الى ما بعد موافقة الرئيس ديغول على الجلاء في آن واحد عن لبنان أيضاً، وإلا فان سورية ستعتبر ذلك مكيدة جديدة. ولم أجلس كثيراً ورجوته السرعة بتدارك الأمر، ثم ودعته على ان اعود في اليوم الثالث. وهكذا تمت ايضاً موافقة الرئيس ديغول على ابلاغ كل من سورية ولبنان في آن واحد بجلاء جميع القوات الاجنبية عنهما، بما فيها القوات الانكليزية التي كانت وعدت من قبل بالجلاء فقط عن سورية حين جلاء فرنسا عنها وسكتت عن لبنان. ولم يبق بعد ذلك غير تحديد وقت الجلاء الذي تم تحديده بعد ذلك في ما بين فرنسا وانكلترا فقط… للجلاء سوية عن كل من سورية ولبنان.
* رئيس وزراء سورية سابقاً.