أعلام وشخصيات
عبد القادر عيسى
الشيخ الكبير المرحوم عبد القادر عيسى
ولد الشيخ عبد القادر بن عبد الله بن قاسم بن محمد بن عيسى عزيزي الحلبي الشاذلي في مدينة حلب عام 1920 م
جذبتْه يدُ العناية الإلهية من الدنيا وزينتها، فأعرض عما كان فيه من اللهو واللعب والزينة والطيب، وحلق شعره، ولبس الثياب المرقعة، وصحب الصالحين من أهل الجذب، في الفترة من سنة 1939 حتى 1942، مدة أربع سنوات تقريباً، كان خلالها يميل إلى الجذب مع بقيةٍ من الصحو حفظتْه من حال أهل الجذب.
حُبِّب إليه طلب العلم، فصحب العلماء، منهم الشيخ محمد زمّار والشيخ أحمد معودّ، ثم صحب الشيخ حسن حساني شيخ الطريقة القادرية، فسلك الطريق على يديه، وأذن له الشيخ حسن بالختم القادري.
انتسب إلى المدرسة الشعبانية في 24/12/1949 ودرس فيها مدة ست سنوات كاملات، كان خلالها إماماً لمسجد ساحة حَمَد، وكان مسجداً لا تُقام فيه الجمعة، وكان مهملاً، وكاد أن يُخرب، فعمل الشيخ على ترميمه وإصلاحه، وأحدث فيه منبراً للخطابة، وذلك في 21/1/1957.
اجتمع في الشيخ رحمه الله تعالى خلال دراسته في المدرسة الشعبانية من الصفات الطيبة المباركة، والأخلاق العلية، والهمة العالية، ما ينبىء عن خير واعدٍ، فسلك على يديه عدد من زملائه في المدرسة وهو لا يزال طالباً فيها، فكان شيخاً من جهة وتلميذاً طالباً من جهة أخرى.
ومما يدل على علو همته، وصدق إقباله على الله عز وجل؛ أنه لم تغرَّه المشيخة، ولم يقنع بما وصل إليه من الحال والجاه، فراح يبحث عن المرشد الكامل الذي يعرّفه على الله عز وجل، ويعبر عن ذلك فيقول رحمه الله تعالى:
“كنت أقرأ في كتاب (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) لابن عجيبة، فأرى فيه أشياء لم أكن متحققاً بها – رغم كوني شيخاً – فعرفت أنه لا بد لي من صحبة مرشدٍ كامل”.
سافر إلى دمشق، والتقى بكثير من مشاهير علمائها، ممن اجتمع عليهم خلق كثير لعلمهم وفصاحتهم وبلاغتهم، ولكنه لم يجد في واحد منهم مبتغاه، فتردد إلى زيارة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، فأُلهم بصحبة الشيخ محمد الهاشمي شيخ الطريقة الشاذلية، فبحث عنه فوجده في الجامع الأموي الكبير بدمشق يُقرر بعض مباحث علم التوحيد، وحوله ثلة قليلة من إخوانه يعظهم ويعلمهم، فأقبل على مجلس الشيخ وحضره ثم تعرف إلى الشيخ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى، فقال له الشيخ محمد الهاشمي: “جئتَ آخرَ الناس، وتكونُ أولَهم بإذن الله، فأنا أنتظرك منذ زمنٍ طويل.” فتَّم للشيخ رحمه الله تعالى مبتغاه من صحبة المرشد الكامل، فصحب الشيخ الهاشمي رحمه الله تعالى سنة 1952م إلى أن توفاه الله تعالى.
ولما رأى الشيخُ محمد الهاشمي رحمه الله تعالى في شيخنا أهليته للإرشاد، أذن له بالورد العام والخاص في الطريقة الشاذلية، كما أذن له بالتربية والإرشاد كما هو مبين في الإجازة الموجود نصها على صفحات آخر هذا الكتاب، وذلك في سنة 1337 هـ – 1958 م.
استمر الشيخ رحمه الله تعالى إماماً وخطيباً في مسجد ساحة حَمَد، إلى أن توفي الشيخ محمد الرزّاز إمام وخطيب جامع العادلية، حيث انتقل الشيخ رحمه الله تعالى إليه، فأقام فيه مجلساً للذكر بعد صلاة العشاء من يوم الخميس من كل جمعة، وكان ذلك في 21/12/1963م.
كان جامع العادلية مهملاً، حيث كانت ساحته مرعى للمواشي، وكان يشكو إلى الله تعالى قلة المصلين، فراح الشيخ يعمل على إصلاحه وصيانته، حتى غدا الجامع مقصداً لطلاب العلم، وأهل الطريق، وعمر الجامع بمجالس العلم ومجالس الذكر، وطارت شهرة الشيخ في الآفاق، فأقبل الناس عليه بمختلف فئاتهم من عوام ومثقفين وطلاب علم، فغدا جامع العادلية مدرسة تشع بالعلم والنور، وانتشر طريق التصوف بعد أن نقَّاه الشيخ من كثير من المخالفات الشرعية والشطحات وغيرها مما كان الناس ينفرون منه – كما تجد ذلك على صفحات هذا الكتاب – وعشق الناس التصوف، وانتشرت طريقة الشيخ في كل أنحاء القطر العربي السوري، فلا تكاد تجد مدينة أو قرية إلا وللشيخ فيها إخوان ومريدون، بل جاوز ذلك إلى البلاد المجاورة؛ كالأردن وتركيا ولبنان والعراق، ثم جاوزت شهرة الشيخ ذلك كله، فلا تكاد تجد بلداً في الدنيا إلا وللشيخ فيه إخوان ومريدون، فوصلت طريقته إلى الكويت والسعودية والمغرب، وجنوب إفريقيا والهند وباكستان، وإنكلترا وبلجيكا وفرنسا، وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم، مما يدل على باع الشيخ الطويل في المعرفة والتربية والإرشاد.
يعد الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله تعالى في طليعة المجددين للطرق الصوفية عامة والطريقة الشاذلية خاصة، يشهد لذلك كتابه هذا الذي طبع مرات متعددة وترجم إلى اللغة الإنكليزية واللغة التركية، وطارت شهرته في الآفاق، كما يشهد لعلو مقام الشيخ كثرةُ إخوانه على اختلاف فئاتهم من جميع طبقات الناس في كل بقاع الأرض، الذين يعتبرون بحق كتباً ناطقة عن الشيخ الذي لم يخلف من الثروة العلمية إلا هذا الكتاب، وذلك بسبب واجبات الدعوة الإصلاحية التي حملها على كاهله في نشر الطريق الصحيح القائم على الكتاب والسنة المطهرة، كما تلمح ذلك على صفحات هذا الكتاب.
إن خلاصة منهاجه وما أراد أن ينقله للناس قد أودعه وبيَّنه في كتابه “حقائق عن التصوف” الذي كان بحق فتحاً في علم الشريعة والطريقة والحقيقة، فتلقاه الناس بالقبول والانتفاع على مختلف طبقاتهم، واستفاد منه خلق كثير.
كان للشيخ كرامات كثيرة وكشوفات واضحة، ولكنه كان يعرض عن كل ذلك ويُحَذِّر إخوانه من الركون إلى الكرامات والكشوفات، ويقرر أن أعظم الكرامات الاستقامة على شرع الله عز وجل، وكان يعرف الطريقة فيقول رحمه الله تعالى: الطريقة هي العمل بالشريعة.
سعى مرة في الإصلاح بين زوجين، وخلال ذلك اطلع على ظلم الرجل وتسلطه، فنصحه، ولكن الرجل حمل الحقد والضغينة، عوضاً من أن يستجيب للنصح، وبعد مدة من الزمن، استغفل الرجلُ الشيخَ في ممر معتم قرب جامع ساحة حَمَد، فتهجم عليه وطعنه بأداة حادة على وجهه قرب فمه، فسال الدم من الشيخ، فهرب الرجل، ونُقل الشيخ إلى المستشفى، وترك علامة على وجه الشيخ لم تمحها الأيام حتى توفاه الله، ولكن أخلاقه النبيلة التي كان متحلياً بها الشيخ دعته إلى العفو والمسامحة والصفح، فتوفي الرجل بعد أشهر، فكان أولَ المصلين عليه صلاة الجنازة الشيخُ رحمه الله تعالى”.
أُكْرِمَ رحمه الله تعالى بمجاورة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة قرابة خمس سنوات، ثم أقام بالأردن بعمان يدعو إلى الله تعالى، كما هو شأن الصادقين المتحققين حيثما حلوا ونزلوا، فاستفاد منه خلق كثير من علمه وحاله ودعوته.
في سنة 1991 سافر إلى تركيا لزيارة بعض إخوانه، فاشتد عليه المرض هناك، فأدخل المشفى في مدينة مرعش، ثم نُقل بعد ذلك إلى استانبول ودخل أحد مشافيها.
تعجب القائمون على معالجته من أطباء ومختصين، كيف لا يتوجع أو يظهر ألماً، وهو ساكت لا يتكلم، مستغرق بقلبه وببصره وبكله إلى الله تعالى.
فأراد أحد أولاده أن يطمئن عن شعوره وإحساسه وإدراكه، وعن غيبته التي طالت، وعن عقله وهو لا يكلم أحداً، وكان بينه وبين والده – رحمه الله تعالى – ملاطفة ومدارسة فسأله عن بيت من الشعر كان قد سمعه منه رحمه الله تعالى ليثبت للموجودين آنذاك بأن الله تعالى هو يتولى الصالحين، وأنه كامل الوعي والإحساس والعقل، ولكنه منجذب بمحبة الله تعالى ومستغرق به سبحانه وتعالى، فذكّره بهذا البيت من الشعر:
يا سائلي عن رسول الله كيف سها والسهو…
ثم سكت وقال له: يا سيدي من فضلك أكمل لي هذا البيت وكان يمازحه، فالتفت إليه وقال متمماً:
………………. والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهي
سها عن كل شيء سرُّه فسها عمَّا سوى الله فالتعظيم لله
وأعاد شطر البيت مراراً: والسهو عن كل قلبٍ غافلٍ لاهيٍ.
ثم دمعت عيناه رحمه الله تعالى وبكى ولم يكلم أحداً بعدها.
انتقل رحمه الله تعالى إلى جوار ربه، عشية يوم السبت الساعة السادسة، في الثامن عشر من ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وأربع مائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق للسادس والعشرين من تشرين الأول سنة إحدى وتسعين وتسع مائة وألف للميلاد ( 18 ربيع الآخر 1412 هـ 26 تشرين الأول 1991م) وكان مثواه الأخير بجوار الصحابي الجليل سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في استانبول(1).
(1) باسل عمر حريري، الموسوعة التاريخية لأعلام حلب