من الصحافة
منذر الموصلي : ايلي كوهين أكذوبة … وكان جاسوساً أقل من عادي
إبراهيم حميدي - صحيفة الحياة 18 -11-2003
كشف منذر الموصلي مدير مكتب الرئيس السوري الاسبق امين الحافظ ان الجاسوس الاسرائيلي ايلي كوهين ابلغه قبل اعدامه في 18 ايار مايو 1965 انه كان ينوي عقد مؤتمر صحافي قبل كشف امره ليعلن “ندمه على عمله القذر والمخجل وطلبه اللجوء السياسي” في سورية. وقال الموصللي لـ”الحياة” ان كوهين “اكذوبة القرن العشرين، لأن الاسرائيليين بالغوا في دوره وسموا شوارع باسمه فيما كان جاسوساً اقل من عادي”.
وولد كوهين في الاسكندرية في 16 كانون الأول ديسمبر 1924، وانتقل الى القاهرة في سن 23 قبل ان تجنده الاستخبارات الاسرائيلية موساد عام 1955 مستفيدة من اتقانه العربية، وانتقل الى اسرائيل وتزوج فيها بعد ثلاث سنوات من فتاة اسمها ناديا.
وأمضى كوهين بين 1957 و1960 في التدريب على ايدي خبراء الموساد، الى حين بدء مهمته انطلاقاً من الارجنتين إذ ارسل اليها بجواز سفر ارجنتيني مزور يحمل اسم كامل امين ثابت ليغادرها الى دمشق باعتباره مغترباً من اصل سوري عاد الى بلده لـ”يخدمها من ثرائه بلا غايات مالية”. وكان يخفي وراء ذلك جهوداً كبيرة لبناء شبكة واسعة من العلاقات في الاوساط النافذة وزيارة مواقع حساسة.
لكن “جيمس بوند” اسرائيل وقع في الفخ السوري. اذ عندما ظهرت تساؤلات حول الاخبار الحساسة التي تبثها الاذاعة العبرية، وضعت اجهزة الامن خطة تضمنت اقفال البث الاذاعي المحلي والتنصت برادار روسي عالي الحساسية على الموجات الصادرة في الحي الذي سكنه كامل ثابت كوهين وتم دهم منزله في 24 كانون الثاني يناير واكتشاف معدات عالية التقنية مخبأة في خزانات المنزل.
وبعد سجنه والتحقيق معه خمسة اشهر، اعدم في ساحة المرجة وسط دمشق، وشاهد جثمانه معلقاً نحو عشرة آلاف سوري، قبل ان يدفن في مكان لا يعرفه سوى عدد قليل من المسؤولين السوريـين الذيـن رفضـوا عبر السنين تسليم رفاته على رغم الضغوط الاميركية والوساطات الاجنبية التي استمرت الى نهاية التسعينات.
وفيما يعتقد ان المعلومات التي قدمها كوهين ساهمت فـي هزيمـة العرب في حرب الايام الستة في حزيران يونيو 1967 الى حد ان الاسرائيليين يعتبرونه “اهم وأخطر جاسوس” جندوه، بحيث سمـوا شـوارع باسمه ووضعوه في مصاف مؤسسي الدولة العبرية، قلل الموصللي الذي كان ضابطاً وعمل مديراً لمكتب الحافظ بين عامي 1964 و1966 من اهميته معتبراً ان مبالغة تل ابيب في دوره تضمنت “أكاذيب وقحة”، نافياً حصول كوهين على “معلومات عسكرية مهمة”.
وانطلق الموصللي بصفته مطلعاً على الملف، من حديث عضو مجلس قيادة الثورة الاسبق احمد ابو صالح عن القضية في قناة “الجزيرة” لسرد ما يعرفه شخصياً. وقال في مقال طويل نشره في موقع “كلنا شركاء في الوطن” الذي يشرف عليه المهندس السوري ايمن عبدالنور: “في مساء يوم الاعدام طلبني الرئيس أمين الحافظ وأبلغني انه سيتم إعدام الجاسوس كوهين بعد منتصف الليل وعليك الحضور والمشاركة في الاشراف على الاجراءات وإعلامي هاتفياً وعلى الفور عن اي شيء يستحق الابلاغ”.
وكانت الجهات المختصة رتبت لتنفيذ حكم الاعدام برئاسة القاضي ابو الخير اسطواني وحضور الحاخام نسيم لممارسة الشعائر الدينية، وآلاف من عناصر الأمن الذين التفوا في شكل دائري.
وسألت “الحياة” الموصللي عما دار بينه وبين كوهين، فقال: “عندما اختليت به سألته: ماذا تريد ان تحدثني به ولم تقله في التحقيق او المحاكمة؟ وهل لديك خواطر معينة؟ فأجاب: حضرت الى سورية بهذه المهمة في عهد الانفصال عام 1962 وهي محددة في أربع سنوات، وكانوا سيسحبونني هذا العام حيث انتهت مهمتي، لكن حظي السيئ ادى الى كشفي والقبض علي”.
ومما نقله الموصللي الذي عمل ايضاً مديراً للأنباء ومشرفاً على مكتب الحاكم العرفي بعد ثورة آذار مارس 1963، عن الجاسوس الاسرائيلي ان زوجته ناديا “لم تكن تعرف انه يعمل جاسوساً وكان يفسر غيابه الطويل بأنه لعمل تجاري في اوروبا وهو ما ثبت في التحقيق”، الى ان قال: “انني آسف وخجل ونادم على هذه المهمة القذرة التي قمت بها فأنا لست من هذا الوسط ولم أمارس لا السياسة ولا التعامل مع اجهزة الامن والاستخبارات، وليتها زوجته تعلم انني تورطت، واستميحها العذر كوني خدعتها ولم اصارحها عن مهمتي لأنهم حظروا عليّ ذلك”.
وأضاف موصللي لـ”الحياة” انه يملك نص رسالة من كوهين الى زوجته. ونقل عن كوهين ايضاً قوله: “امضيت في سورية اربعة اعوام واحتككت بشعبها وتعرفت على العديد من ابنائها مسلمين ومسيحيين وأحببتهم وأحبوني، هي تجربة عاطفية انسانية لم تمر معي في وسطي اليهودي بصرف النظر عن مهمتي كجاسوس”، لافتاً الى انه كان ينوي “بعد انتهاء مهمتي ان استدعي زوجتي ناديا وأولادي الى اوروبا وأعقد مؤتمراً صحافياً اكشف فيه انني أنا فلان عملت جاسوساً لاسرائيل في سورية وانني نادم وأحببت شعب سورية وأطلب اللجوء السياسي فيها”.
واستند موصللي في “تصديق” الجاسوس كوهين الى كونه كان “قاب قوسين او ادنى من حبل المشنقة وهو يسر لشخص امامه كائناً من كان كاشفاً عن مشاعره … وقد قال ان الجيران كانوا يحبونه ويدعونه الى بيوتهم، وفي رمضان يتسابقون لارسال الطعام اليه ساعة الافطار، كما تمنت عليه احدى الجارات ان يخطب ابنتها ويتزوجها”.
وبعدما قال موصللي: “هولوا في الخارج عن الجاسوس كوهين وتناقلوا اكاذيب وقحة بينها انه حصل على معلومات عسكرية مهمة، واحتك بالأوساط السياسية والحزبية، وجرى تنظيمه في الحزب”، اكد ان كوهين لم يكن سوى “جاسوس” اقل من عادي، حيث كان يرسل برقيات عادية من نشرات اخبـارية مثـل تعيـين وليـد طالب وزيراً للخارجية بالوكالة، خصوصاً ان الموساد قالت له ان يرسل كل شيء وان لا علاقة له بتقويم الخبر. ولم يتعرف على احد سوى من احيلوا معه الى المحاكمة او من جرى استجوابهم كشهود”، كان بينهم جورج سيف الذي عمل موظفاً عادياً في وزارة الاعلام.
وعندما وضعوا الحبل في عنقه خشي الموصللي “ان يبصق علي وعلى من حولي مثلاً ويحيي اسرائيل، وهو ما يفعله اي جاسوس متمسك بوطنيته الى حد الفداء”، لكن كوهين “بدا انساناً ضعيفاً مستسلماً زائغاً يدعو للشفقة لو لم يكن يهودياً اسرائيلياً”، الى ان اعلن للصحافيين انه “نادم على ما قام به، وانه يعتذر عن كل اساءة تجاه سورية”.
وكان الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو ارسل المحامي جان مارسيه الذي الف كتاباً عنه، الى دمشق للقاء الرئيس السوري. وقال الموصللي: “حدد الحافظ موعداً، لكنه طلب لاحقاً الغاءه. وعندما اعترض مارسيه على عدم وجود محام في المحكمة، طلب مني ان ابلغه: بهذه المحاكم نحاكم مواطنينا وأبناء البلد، فما بالك بالجواسيس والعملاء”.
وعلى عكس ما تردد، يعتقد موصللي ان كوهين “لم يكن زير نساء لأنه اما كان مخلصاً لزوجته او لأن الاستخبارات حظرت عليه ذلك”.
وختم موصللي: “جعلوا من حكاية الجاسوس كوهين اسطورة من اساطير التجسس، وألبسوها من تهويل الاعلام، وجعلوا منه لدى الشعب اليهودي بطلاً كبيراً وكبروا دوره واختلقوا له ادواراً في سورية لم تكن صحيحة ابداً”، لافتاً الى “ان سورية دولة مؤسسات في كل زمان. وان اجهزة الامن الساهرة كشفته ولو انها تأخرت قليلاً بسبب ما كان من مؤامرات وفتن داخلية ضد حكم الحزب وثورته ما شغل اجهزة الامن قليلاً عن اكتشافه. وهو لم يكن اول وآخر جاسوس نكتشفه ونعدمه. والدنيا كلها يقوم فيها عالم كبير من الجواسيس، فقد كشفوا في اسرائيل عن جواسيس لسورية مرات ومرات”.