مقالات
باسل الأتاسي: الرئيس الجليل هاشم الأتاسي وموقفه من انقلاب حسني الزعيم
نقل موقع “التاريخ السوري المعاصر” من كتاب “الانقلاب السوري: أسراره ودوافعه ومراميه وكيف تمت حوادثه” لواضعه، الصحفي بشير العوف، كلمة زعم أن الرئيس الجليل السيد هاشم بك الأتاسي ألقاها في بعض المجالس الخاصة، فقال:
“وفي اليوم العاشر من نيسان الحالي تحدث فخامة السيد هاشم الأتاسي في مجمع من عيون البلاد فقال:
{إني أؤيد هذا الإنقلاب تأييداً مطلقاً بدون قيد أو شرط واني أنصح الى كل نائب والى كل سوري، ان يؤيده ويتعاون مع أبطاله. ان هذا الإنقلاب كان امراً لا مفر منه بل كان امراً محتوماً، ولو لم يقع اليوم لوقع غداً، لأن القائمين على الحكم في سوريا قد اشتطوا واندفعوا في هذا الشطط، مما كان سيؤدي حتماً إلى شطر الأمة شطرين. وإني أشكر الله تعالى على نعمه وآلائه بأن تم هذا الإنقلاب على يد جيشنا الباسل بدون إراقة نقطة دم أو إطلاق رصاصة واحدة}” أ.هـ (ص 161).
قلت: وهذه الكلمة المزعومة لا تخلو من دلائل التلفيق الظاهرة على لسان الرئيس الجليل، منها عبارة “التأييد المطلق بدون قيد أو شرط”، وهو أمر عال بملفقها تماما عن سلوك الرئيس الجليل المألوف، والذي طالما عارض تسلط العسكر، واجتنب طيلة حياته التأييد المطلق “دون قيود” لأي جهة كانت، وهو تصرف غير مسؤول ويتنافى مع ما عرف عنه من اعتدال وتجنب المواقف المتطرفة…. ومنها عبارة اتهامه حكام سورية بالشطط، وهي أيضا بعيدة كل البعد عن شخصيته التي اتصفت بالحيادية والوسطية وتركت كل أشكال التهجم الكلامي أو التعنت السياسي… وأخيرا عبارة “جيشنا الباسل” الغريبة على مفردات الرئيس الجليل، التي كان أكثر من يرددها هم الضباط المنقلبون…. في خطابات انقلاباتهم…. دليلا على أن كاتب هذه الكلمات لم يكن إلا من الذين كانوا يملون على العساكر بيانات انقلاباتهم أو يكتب لهم برقيات التأييد. ومما يدل على كذب من أوردها أنه لم ترد في أي صحيفة أو جهة رسمية في أثناء حكم الزعيم أو بعده أي برقية أو رسالة تأييد من الأتاسي، ولو أن الرئيس الجليل لمح بأي تأييد للانقلاب لأي جهة، لطار به حسني الزعيم نشوة وفرحا، ولنشره في كل الصحف المؤيدة له لإضفاء الشرعية عليه! ولك أيها القارئ أن تقارن كلمة التأييد هذه ببيانات الأتاسي التي كانت الكتلة الوطنية تصدرها في عهد الانتداب الفرنسي، لتعلم أن كاتب هذه، ومؤلف تلك، صاحبا ثقافتين مختلفتين كل الاختلاف!
بل إن شئت قارن كلمة التأييد المزعومة هذه بكلمات أخرى وردت في ذات الكتاب، سواء كانت خطابات ألقاها حسني الزعيم، أو بيانات تأييد لانقلابه، لتجدن الأفكار فيها قد تكررت: فالانقلاب حدث دون طلقة واحدة، وكان أمره محتم الوقوع إن عاجلا أو آجلا، وقد خلص الأمة من هلاك محقق كادت الحكومة السابقة أن توردها فيه، مع كثرة وصف الجيش بالبسالة، فتعلم إذ ذاك أن كل ما ورد في الكتاب من بيانات تدور في محور واحد، بل تكاد تنطق بأن كاتبها شخص واحد!
والصحيح أن الرئيس الجليل، الذي وهب حياته لصيانة الحياة الدستورية، وحماية الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، ما كان ليرضى بمغامرات انقلابية تعارض هذه القيم والمبادئ، ولا أن يظهر التأييد لأي عمل من شأنه أن يعطل مؤسسات الدولة لأجل أغراض شخصية، أو أن يقضي على الحريات في يوم وليلة، حتى لو استهدف هذا العمل خصومه السياسيين، وفي سيرة حياته -قبل هذا الانقلاب وبعده- مواقف كثيرة تدل على أنه كان أكثر السوريين فهما لهذه المبادئ وحرصا عليها، سواء في زهده المتكرر في كرسي الرئاسة، أو في شدة حلمه وحسن تعامله مع خصومه السياسيين، أو في مواجهاته المفتوحة مع أعتى الضباط الذين أخلّوا بركائز الدستور. فهو الذي طالب بعودة القوتلي من منفاه، وهو الذي منع رفاقه في الكتلة الوطنية -بكل حزم- من سجن الدكتور عبدالرحمن الشهبندر بالرغم من أن الأخير كان كثير الانتقاد والتهجم على الكتلة الوطنية…. وهو الذي وقف في وجه أكبر دكتاتور في ذلك العصر، الضابط أديب الشيشكلي، وفي وجه أكثر العساكر تسلطا وشرا، عبدالحميد السراج… وهو الذي استقال غير مرة بإرادته من مناصب الرئاسة… وهو الذي رفض العودة إليها ما دام الفرنسيون يجوسون في عرض البلاد وطولها.. وهو الذي كان طرفا في أول عملية لتسليم الرئاسة وتبادل السلطة، وفي أخر عملية، واللتين لم يكن في تاريخ البلاد سواهما!
ولعل أكبر دليل على هذا ما أورده الأمير عادل أرسلان في كتابه “ذكريات الأمير عادل أرسلان عن حسني الزعيم” فذكر أن الزعيم كاد أن يقدم على اعتقال الأتاسي بسبب الاجتماعات المعارضة لحكم الزعيم المنعقدة في دار الأتاسي بحمص، لولا أن الأمير أرسلان حمل الزعيم على ترك هذا. كتب الأمير عادل أرسلان:
“كنا في بداية الانقلاب نكافح في سبيل رفع الظلم عن بعض رجالات البلاد وأحزابها، فتارة نوفق في انقاذهم من الاضطهاد وطورا نفلح في إطلاق سراحهم، وكنا أحيانا نخفق. جاءنا (يعني حسني الزعيم) ذات يوم يقول:
-هاشم الأتاسي يعقد الاجتماعات في داره بحمص، والأتاسي والمجتمعون عنده يدبرون الدسائس ضدي، ويكيدون لي. قررت إصدار الأمر باعتقاله.
ونهضت عن كرسي مذهولا، وقلت له:
-تريد أن تعتقل هاشم الأتاسي؟ ماذا أصابك؟ إن بيت الأتاسي في حمص مفتوح للناس منذ أجيال، يترددون عليه في كل يوم، ولم يفتحه الرئيس هاشم في عهدك، فحذار أن تمسه بسوء.
وأخذ الزعيم يتمتم بغضب، وما لبث أن أرسل تهديدا إلى حمص يمنع تلك الاجتماعات” أ.هـ (ص 45).
قلت: ولا تعجبن إذا عرفت أن الأمير كان من الذين تعاونوا -بادئ ذي بدء- مع حسني الزعيم، بغية توجيهه، واحتواء طيشه، وكبت رعونته، فكان نائبا لرئيس حكومته، ووزيرا لخارجيته، ثم ما لبث أن تركه بعد أن تمادى في غيه. فانظر ما شهد عليه!
بل انظر إن شئت كيف كان سلوك الأتاسي بعد الإطاحة بالزعيم…فلو أنه لم ير انقلاب الزعيم فاقدا للشرعية… لما طالب بعودة شكري القوتلي إلى الحكم بعد انقلاب الحناوي…. بالرغم من رغبة الجميع في تولي الأتاسي زمام الأمور.
ففي 14 آب عام 1949 أطاح اللواء سامي الحناوي بالزعيم… وجمع زعماء البلاد، واستقر الرأي على إسناد رئاسة الحكومة إلى الرئيس الجليل “بوصفه زعيماً تاريخياً، ووطنياً يتمتع بحب واحترام الجميع” كما عبر الأستاذ عبدالغني العطري في كتابه “عبقريات وأعلام”…. فتستعيد البلاد رشدها… وتخرج من تخبطها… في فترة انتقالية، يتم فيها إعادة الدستور المدني وإزالة الحكم العسكري. إلا أن الأتاسي والسيد رشدي الكيخيا اقترحا إعادة القوتلي إلى الحكم، واعتبار استقالته غير مقبولة… لأن حكم حسني الزعيم لم يكن شرعيا.. والقوتلي استقال في سجنه مرغما… وبعد هذا إما يستمر القوتلي في الرئاسة… أو تشرف حكومته على انتخابات جديدة!
كان الأتاسي -بالرغم من خلافه السابق مع القوتلي (بسبب تعديله الدستور ليتكرر انتخابه)- ما زال يعتبر أن القوتلي هو رئيس البلاد الشرعي، لا يجوز تهميشه أو تجاهله، وهذا من شدة احترامه رحمه الله للدستور وشرعية الانتخابات. فالحظ التضارب بين هذا الموقف، وبين ما نقله العوف في كتابه. وبالرغم من ذلك فإن الجيش وأغلب القوى السياسية في ذلك الوقت لم تكن راغبة في إرجاع حكم القوتلي وقد أودى هذا الحكم بالبلاد إلى فوضى سياسية، وأصروا على تولي الأتاسي رئاسة حكومة تشرف على انتخابات نيابية جديدة… وكان نتيجة ذلك ولادة دستور عام 1950 الشهير…أفضل الدساتير السورية!
ذكر قضية اقتراح الأتاسي عودة القوتلي إلى الرئاسة معالي الوزير والحقوقي أسعد الكوراني في كتابه “ذكريات وخواطر”، والبياتي في أطروحة الماجستير: “هاشم الأتاسي ودوره السياسي في سورية”، والدكتور سامي المبيض في كتابه: ” Damascus Between Democracy and Dictatorship”، وغيرهم، وفي هذا وحده ما بنقض كلمة العوف المزعومة ويجعلها هباء منثورا!
باسل الأتاسي
في مدينة برايتون بالديار الميشيغانية
في 17 أب 2019
اقرأ: