من الصحافة
وصال فرحة بكداش : هكذا اعتقلوا وعذبوا واغتالوا فرج الله الحلو
أجرى الصحفي والإعلامي إبراهيم حميدي حواراً صحفيا مطولاً مع وصال فرحة بكداش في عام 2002م، تناول الحوار العديد من القضايا التي تتعلق بحياتها الشخصية وكان القسم الأكبر من الحوار حول الحزب الشيوعي السوري وتطوره في سورية. الحوار نشر على جزئين في صحيفة الحياة. وهذا الجزء الثاني الذي نشر في الخامس من آب 2002م.
نص الحوار:
تكشف وصال فرحه بكداش في الحلقة الثانية والاخيرة من ذكرياتها كيف تم اعتقال القيادي الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو واغتياله بعد تعذيبه، وتروي تفاصيل عن موقف الحزب الشيوعي السوري من “الحركة التصحيحية” ومن “الاخوان المسلمين” متوقفة امام المحطة الكبرى: انهيار الاتحاد السوفياتي.
أين كنت في حرب حزيران يونيو 1967؟
– استنفر الحزب كله. كنت مع الاتحاد النسائي نعمل على رفع المعنويات ونكتب نصوصاً للاذاعة لرفع معنويات الجنود. كان مقرنا الموقت، أي اللجنة النسائية السورية، في بيت خالد العظم. كنت في المنزل عندما سقطت القنيطرة. اخذ ابني عمار يبكي، فقال له ابو عمار خالد بكداش: “طول بالك المعركة طويلة لسه كثير طويلة”.
اذكر ان ابو عمار قابل وقتذاك رئيس الجمهورية نور الدين الاتاسي وطلب منه تغيير السياسة الاعلامية والتوقف عن استخدام كلمات مثل “اضرب، اسحق، نكبهم بالبحر، لا ترحم اعداءك”، لانها تضرنا. وطالب باستخدام شعارات الدفاع عن الوطن. فرد الاتاسي وقتها: “اذا رفعنا شعار الدفاع عن الوطن يظـن الناس اننا ضعفاء” على عكس ما جرى في عام 1973 حيث كانت كل الشعارات دفاعاً عن الوطن.
< قبل “الحركة التصحيحية” في العام 1970، هل كانت هناك علاقة بينكم وبين الرئيس الراحل حافظ الاسد؟
– عندما حصل انقلاب 23 شباط فبراير 1966 وصدر بلاغ رقم 1 بأن وزير الدفاع هو حافظ الأسد، عرفنا انه انقلاب يساري لانه كانت هناك دعاية ان اليمينين يريدون ان يقوموا بانقلاب.
< ماذا كان تعليقه؟
– قال انه انسان وطني وعنده وضوح في الرؤية. ربما عنده بعض التحفظات على الفكر الاشتراكي، لكن اكيد كلما اطلع عليه يغير آراءه. بحثنا في المكتب السياسي الموقف من الحركة وصوت خمسة ضد اثنين لمعارضة “الحركة التصحيحية”. خمسة قرروا ان يعارضوا الحركة”: رياض الترك، عمر قشاش، دانيال نعمة، ابراهيم بكري، وظهير عبدالصمد. أما الذين صوتوا ضد قرار المعارضة فهم خالد بكداش ويوسف فيصل.
وبعد صدور بيان “الحركة” حصل نقاش تبعه تصويت اظهر انقلابات في موازين القوى في اللجنة المركزية واسفر عن اتخاذ قرار بغالبية 10 ضد خمسة.
< ثم بدأت مفاوضات تشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية”؟
– بعد الاستفتاء على الدستور والرئاسة، تم تشكيل لجنة برئاسة محمود الايوبي للتفاوض مع بكداش والراحل جمال الاتاسي زعيم “الاتحاد الاشتراكي”، للوصول الى صيغة جديدة بعد فشل تجربة الحزب الواحد في مصر والعراق. لقد كان في بال الرئيس الاسد تحرير الاراضي العربية المحتلة والجولان لذلك اراد تشكيل جبهة واسعة وقوية حتى يخوض حرب تشرين.
وظلوا سنة يتفاوضون على ميثاق “الجبهة” الى ان اعلن الميثاق واناطوا بها قرار الحرب والسلام. وللتاريخ فان قرار الحرب اتخذ في “الجبهة”. الرئيس الاسد قال: سنتحالف مع السادات والسادات موافق على ذلك، فقال بكداش: انا اشك بالسادات وبكل ما يقوله ويفعله ولا ارتاح له، وان شاء الله تكذب الايام مخاوف ابو عمار. لكن في كل الاحوال، سيقوم الشيوعيون بواجبهم في الدفاع عن الوطن.
< متى حصل انشقاق في “المكتب السياسي” بقيادة رياض الترك؟
– بدأت المشاكل معه بعد المؤتمر الثالث في 1969. وبدا ان الخلاف ليس صراع اجيال كما كان يقول رياض. بدت هناك خلافات ايديولوجية كبيرة جداً. كانت شعارات رياض متطرفة قومياً مثل تحرير فلسطين حتى تل ابيب، الوحدة العربية من دون قيد او شرط، الحزب الشيوعي العربي الموحد. وكان في بعض الطروحات متقارباً كثيراً مع صلاح جديد. في 1971 عقد مجلس عام للحزب ظهر فيه خلاف فكري وسياسي الى ان حصل الانشقاق في نيسان ابريل، أادى الى خروج الترك وعمر قشاش ودانيال نعمة وظهير عبدالصمد وابراهيم بكري.
< هم الذين صوتوا ضد “الحركة التصحيحية”؟
– بالتصويت الاولي. لكن في التصويت الثاني تغير الوضع وحصلت خلافات جوهرية بينهم.
< كيف كان موقفكم من دخول القوات السورية الى لبنان؟
– نحن كحزب لم نكن مع الدخول الى لبنان، وقالها بصراحة ابو عمار: “حباً بسورية انا لا اشجع الدخول الى لبنان لأننا مستهدفون وعندنا مشاكل كثيرة”. لكن عندما دخل الجيش السوري الى لبنان لم يعد حزبنا ينتقد هذا الشيء لأسباب استراتيجية كون لبنان هو ظهير سورية، وان المعركة واضحة ضمن الظروف الاقليمية.
< وموقفكم من “الاخوان المسلمين”؟
– لقد اغتالوا رفاقنا مثلما اغتالوا البعثيين. راح كثير من الرفاق عندنا مثل نقيب المحامين نزيه الجمالي. وعلى رغم اجواء الخوف يومها من “الاخوان المسلمين” نزلنا في مسيرات كبيرة وكسرنا طوق الخوف.
< كيف تلقى بكداش خبر انهيار الاتحاد السوفياتي؟
– بعد سقوط النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، قال ان الاشتراكية ستنهض من جديد وبأشكال جديدة وستكون اقوى من السابق. وله كلمته الشهيرة عن القطب الواحد الاوحد مفادها انه لا في الطبيعة ولا في المجتمع يمكن ان يكون هناك قطب واحد. امام هذا القطب الاوحد الذي يريد فرض نفسه على العالم سيخرج وسينبثق قطب آخر لا تغيب عنه الشمس هو قطب الشعوب.
< هل شعر بالمرارة في جلساته الخاصة؟
– شعر بمرارة كبيرة طبعاً لان هؤلاء الثوريين الاوائل امثاله كرسوا عمرهم كله لمثل عليا. كان يرى ان حركة التحرر الوطني العربية في حاجة الى حليف، وهذا ما نراه الآن في سياتل وجنوى وواشنطن ذاتها وفي البلدان العربية. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي تقف الحركة الوطنية بلا سلاح امام المطامع الامبريالية. شعر بالمرارة الكبيرة وكان يعتقد ان الصهيونية وراء سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن كان عنده امل كبير في بزوغ فجر انساني جديد.
< لدى رحيله في العام 1995، كيف تلقيت النبأ على الصعيد الشخصي والسياسي؟
– كان حادثاً اليماً جداً جاء في اوقات دقيقة تمر فيها البلاد. حتى حركة التحرر خرجت منها اصوات نشاز طرحت طروحات يائسة، لكنه بقي الى آخر ايامه يستنهض الوعي ويبعث الامل في من حوله.
< عقد بعدها مؤتمر للحزب وتم انتخابك اميناً عاماً؟
– لقد ترك خالد وراءه حزباً محصناً فكرياً وتراثاً اخلاقياً متفانياً. لم اكن اريد الترشح الى الامانة العامة، لكن كثيرين من الرفاق ارادوا ذلك. واستجبت للضغط العام وتم انتخابي في اجتماع اللجنة المركزية التي انتخبت في ختام مؤتمر الحزب في 25 آب اغسطس 1995.
< فصرت اول امرأة عربية تتزعم حزباً سياسياً وشيوعياً؟
– نعم. وشعرت بمسؤولية كبيرة، لكن عندما رأيت التفاف الرفاق وتعاونهم تحمست وصرنا نتعاون ولا نزال بشكل جماعي.
< ماذا أضفت كامرأة الى الحزب؟
– لا ارى فرقاً بين الرجل والمرأة في الميادين كافة وفي الحزب، اذ يجب التعامل في شكل رفاقي مع الجميع. اذا كان هناك انتقاد يجب الا يكون هدفه التجريح. والشيوعي او السياسي يجب ان يتحلى بروح انسانية قبل كل شيء وان لا يكون العمل الحزبي عنده مهنة. كثيرون من الرفاق يقولون انهم يشعرون بأن هناك أماً تهتم بهم.
< أي أن الحزب يتميز بأمومة وصال فرحه بعدما كانت يتميز بأبوية بكداش؟
– لا، هذا تهجم عندما يقولون ابوية. انا اقول انها اخوية لأن خالد بكداش كان يعامل كل شيوعي كأخ. لو عمل أبوية لما تمرد الناس عليه هنا وهناك. قادة بعض الاحزاب الاخرى كانوا يقولون هناك فارق كبير بين مستوى خالد بكداش ومستوى بقية القيادة، فهم كانوا يريدون ان يغطوا هذا النقص فيقولون ابوية.
< بعد انتخابك امينا عاما وانتخاب ابنك عضواً في المكتب السياسي، قيل ان الحزب صار عائلياً؟
– عائلة السياسي هي الطغمة التي تكون حوله في بعض الاوقات. هل ذنب عمار ان يكون خلق شيوعياً؟ هل من دواعي الفخر ان يكون ابني مدير شركة مثل اولاد غيري، أم انه يعيش براتب متواضع وعيشة متواضعة وحرصاً منه على الطريق الذي سار فيه ابوه ويكون احد السائرين في هذا الطريق.
< قيل ان هذه “العائلية” من اسباب انقسامات الحزب؟
– الانقسام ليس مشكلة الحزب الشيوعي فقط. لا شك ان في المنعطفات تحصل انقسامات. هذا يحصل في كل العالم، مع ان بعضهم صور الانقسام بأنه جرى في حزبنا فقط.
< بعد التغييرات الكبيرة في العالم، ألم يكن الحزب في حاجة الى وقفة مع الذات، فكراً وممارسة؟
– لقد قمنا بهذا الشيء داخل الحزب. ما نستطيع قوله اننا الاقل خطأ بين جميع الاحزاب. كان هناك تجنٍ كبير علينا. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما تلاه من زيادة وحشية الرأسمالية العالمية وابادة شعوب بكاملها والطغيان الامبريالي وما يحدث للشعب الروسي ولشعوب العالم كلها، تأكدنا نحن من صحة نظريتنا انه لا يمكن ايقاف وحشية الرأسمالية العالمية الا بالنظام الاشتراكي المبني على الملكية الاجتماعية لوسائل الانتاج.
< اذاً، لم تجدوا أي حاجة الى التغيير؟
– ان أثبتت الاحداث صحة رؤى حزبنا. وهنا فرق كبير بين من يغير اسلوبه ومن يغير جلده.
< بعد وصول الدكتور بشار الاسد الى الحكم سمح لكم بالعمل العلني وبممارسة النشاط في الوسط الطلابي، كيف انعكس ذلك على انتشار حزبكم؟
– نحن لا نريد اي مصلحة حزبية لاننا نريد مصلحة الوطن. ثانياً، بالنسبة الى النشاط في الجامعات، هناك خطأ في تصوير عملنا، اذ اننا ننشط منذ عشرين سنة. ويعمل طلابنا مع البعثيين وغيرهم. صحيح هناك مادة في ميثاق “الجبهة” تحصر النشاط بين الطلاب بـ”البعث” وحده، لكن لوحظ مع الايام ان هذا الحصر غير واقعي، حتى ان الرئيس الراحل قال في مقابلة صحافية العام 1984: “تبين لنا وجود بنود غير واقعية منها منع احزاب الجبهة من العمل بين الطلاب”. لذلك منذ عشرين سنة ينشط حزبنا بين الطلاب.
ولا شك ان العمل “الجبهوي” اصبح اكثر نشاطاً وحيوية حيث صارت الاحزاب تصدر صحفها العلنية وفتحت مقراتها.
< هل ترين ضرورة لتغيير ميثاق “الجبهة” بعد مرور ثلاثين سنة عليه؟
– طبعاً، لكن السؤال الكبير هو: هل نحو الافضل ام نحو الأسوأ في هذه القضية؟>
عن فرج الله الحلو
في سهرة في منزل اكرم الحوراني قبل الوحدة السورية ـ المصرية، التقينا مسؤول الأمن عبدالحميد السراج الذي اكد لخالد بكداش انه على علم بكل ما يجري في الحزب الشيوعي. فساور بكداش الشك ان يكون رفيق … هو الذي يسرّب المعلومات عن حزبنا فحذّرني منه. كما طلب لقاء فرج الله الحلو لتكليفه بالتخلص من رفيق … اما بارساله الى لبنان او الى رومانيا. وكان هناك شخص آخر شككنا به اسمه منير ….
لاحقاً عندما علمت ان هناك مذكرة توقيف بحقي طلبت من فرج الله الحلو ان يجد لي بيتاً اختبئ فيه. فجاء رفيق عارضاً علي بيت اخت منير …، وعلى رغم شكوكي بهما ذهبت الى البيت. بقيت فيه اياماً عدة حيث لاحظت ان الورشة التي تعمل في الخارج ليست سوى مجموعة من رجال الامن كلفوا بمراقبتي في غياب منير ….
ذهبت بعدها لمقابلة خالد العظم الذي استدعاني محاولاً مساندتي وتشجيعي. وعندما اخبرت منير … ورفيق … بالأمر “فوجئا” فلم يعد الوضع يريحني، فطلبت من صديقتي اسماء صالح ان تجلب لي منديلاً وانتهزت فرصة وجود منير واخته خارج المنزل للهروب. ولاحقاً عندما علموا ان اسماء هي التي هرّبتني، اعتقلوها ستة اشهر وعذبوها كثيراً.
ارسل بعدها “ابو عمار” رسالة إليّ من بيروت يقول فيها انه يجب على فرج الله ان يغادر البلد ويذهب الى لبنان، لكن الأخير رفض “حباً بحزبه وبسورية” حسب قوله. فحاولت اقناعه بأن اكثرية الرفاق ذهبوا الى هناك، لكنه قال انه عندما يأتي واصل فيصل ليتسلم بدلاً منه سيرحل.
في آخر لقاء لنا معه في لبنان أكدت له ضرورة الهرب لكنه اعتقل بعدما عاد من بيروت الى دمشق حيث افشى احد المعتقلين مكان اقامته السري. اذ عندما دخل فرج الى بيته المراقب، اعتقل وعذب، اولاً على يد عبدالوهاب … وبعدها على يد سعد … وعندما بدأ يحتضر فتشوا اغراضه وشاهدوا دواء القلب. ولما بدأ يسلم الروح، نادوا جلاداً في الاستخبارات، وطلبوا منه ان يكمل ما بدأوه، ومات على يده.
وحسب الرواية، فإن عبدالوهاب … أخبر الرئيس جمال عبدالناصر بالأمر في السادسة صباحاً فاجابهم: “يا ويلكم خلقتم لنا شهيداً ثانياً للشيوعيين، الا يكفي شادي عطية؟”. ذلك ان شادي عطية الامين العام للحزب الشيوعي المصري كان قد قتل قبل ذلك بشهرين في مصر.
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات