مقالات
فاضل السباعي: جيراننا اليهود بحلب
عندما جاء جدّي “الحاج سليم المفتي السباعي” أيام “السفر بَرْلك” من بلده حمص قادمًا إلى حلب، شاء أن يسكن في “زقاق الزهراوي” الذي كان ينتشر فيه “آل السباعي” القادمون قبل زمن من موطن الآباء حمص، وفي تلك الدار العربية – التي اشتراها جدّي من أسرة يهودية – رأت عيناي النور في خريف 1929.
ثمّ تأتّى للأسرة أن تنتقل صيف 1942 إلى “حيّ الجميليّة” غربيّ حلب، في بناية كان شراؤها أيضا من أسرة يهودية كبيرها يدعى “عذرا شويكي”. وللعلم كان يُعرف “حي الجميليّة” بكثرة القاطنين فيه من يهود حلب، مثلما يُعرف الحيّ الآخر الحديث شماليّ المدينة “العزيزيّة” بكثرة مَن يسكنه من مسيحيّيها.
أقول: كان يقابل بنايتنا على الرصيف الأخر بنايةٌ تسكنها أسرة يهودية يملكها الجدّ “مُرْدُخ سيلفيرة Silvera” (عَلِمنا فيما بعد أنّ أصوله إيطالية)، له ابن أوحد اسمه “عدرا”، الذي كان منجِبًا فله من البنين والبنات ثمانية أو حول ذلك. وكان يَلحق ببنايتهم “كنيس”، تقام فيه الصلاة والأفراح أيضا، نشهد ذلك ونراه أمرا عاديا.
ولن أنسى علاقة الجوار الحميمة بيننا، والزيارات المتبادلة، حتى إنّ ابنا لهم اسمه “أبراهام” في مثل سنّي كنت أدعوه إلى بيتنا أحيانا، أكتب واجباتي المدرسية بالعربية ويكتب هو واجباته بالعبرية!
فلما صدر قرار تقسيم فلسطين خريف 1947، هبّت فئة من الناس بحلب ممّن قهرهم قرار “التقسيم” بمظاهرات تحطّم وتحرق، واقتربوا من الكنيس بجوار بيتنا، واقتحموه وأشعلوا فيه النار، والجدّ – الذي التجأ إلى بنايتنا – يشهد من عل.
كان هناك في أدنى بنايتهم باب يُفضي إلى باحة الكنيس. من ناحيتي شهدت الحريق، وعزمت على أن أحمي بناية الجيران من أن تُحرق. وقفت في ذلك الباب أمنع مَن يريدون اجتيازه، مدّعيًا أنّ البناية لأهلي ونحن مسلمون، فكانوا يُصدّقون، يعتذرون ويذهبون. ولكنّ نفرا آخرين من المتظاهرين ما يلبثون أن يأتوا إليّ، يُفسد بعضُ أبناء الحارة عليّ قصدي مبيّنين لهم الحقيقة، فأبذل جهدا أكبر في “الإقناع”… وهكذا حتى انفضّت المظاهرة وأنقذتُ البناية من الحرق.
تلك الليلة بات أفراد الأسرة كلّهم في بيتنا، موزّعين في طابقين، وكان أن شاركني الابن الأكبر الحفيد “مراد” النوم في غرفتي، وتحدثنا قبل النوم طويلا.
في اليوم التالي عاد أفراد الأسرة إلى بنايتهم، سالمين. استدعاني الجدّ، وشكرني كثيرا، ثمّ تملّى النظر منّي وأنا في عزّ فتوّتي، وشاء أن يدعو لي بالخير، قال: «الله يْجوّزك!». وما مضت سنتان حتى كنت أتأهّب للسفر إلى مصر لأدرس في جامعة فؤاد الأول، مصطحبًا عروسي!