مقالات
وقائع وصور تنشر للمرة الأولى عن مقتل فتى الشام فوزي الغزي – المحاكمة (5 / 6)
شمس الدين العجلاني
الزمان: عام 1929
المكان: قرية الريحان
الضحية: فوزي الغزي
المتهمون: لطفية اليافي، منير الغزي، رضا الغزي، وجيه الغزي.
وراء الكواليس : الجنرال هنري بونسو.
القارئ والمتابع لسيرة حياة فوزي الغزي يدرك تماماً أنه لم يكن رجلاً عادياً، لم يكن وطنياً عادياً، لم يكن سياسياً عادياً، كان ظاهرة غريبة في حب الوطن والدفاع عنه، كان سياسياً صلباً في مواقفه، كان أستاذاً لجيل طويل عريض من أبناء الوطن ولم يتجاوز الثلاثين من العمر. وكان موضع عشق وحب من جيل الشباب نساءً ورجالاً وخاصة من أبناء سورية ولبنان فكان دائم التواصل مع محبيه من خلال المحاضرات التي كان يلقيها أو المقالات التي كتبها في الجرائد السورية واللبنانية.
وهذا كله جعله هدفاً للانتداب الفرنسي لأنه كان عقبة صلبة في وجه كل مخططاته.. فتعرض كم ذكرنا في العددين السابقين للسجن والملاحقة والنفي، وورث من ذلك الأمراض الجسدية التي لم تفارقه، وعداوة المستعمر والمتعاونين معه والحساد وضعيفي النفوس ممن حوله من أبناء الوطن.
المحاكمة :
استطاع فوزي الغزي بعبقريته النادرة وحبه للوطن أن يستقطب أهل الشام جميعاً عدا المتعاونين مع سلطات الانتداب الفرنسي والحساد وضعيفي النفوس من أبناء الوطن، فتجمع حوله عدد من أبناء الوطن الذين كانوا يضمرون الشر له، فهو كان على خلاف مع كل من يشك في ولائه للوطن، فكان مثلاً على خلاف مع الوزراء أعضاء الوزارة الدامايه الأولى، لأنه لم يكن واثقاً من إخلاص الداما أحمد نامي للقضية الوطنية، وخلافه مع هذه الوزارة اشتهر في ذلك الزمن، كما فتح على نفسه جبهة كبيرة مع الانتداب الفرنسي والمتعاونين معه من أبناء الوطن بموقفه المشرّف من دستور عام 1928م..
انتشر خبر وفاة فوزي الغزي فقامت دمشق وعدد من البلدان العربية عن بكرة أبيها تودع هذا الرجل الكبير، ودفن الجثمان في مقبرة الدحداح بدمشق على أساس أن وفاته كانت طبيعية وحصلت بالسكتة القلبية، ولم تمض سوى أيام حتى أُخرجت الجثة وكشف عليها وتبيّن أن الوفاة حصلت بفعل فاعل واتهم من اتهم في مقتله.
لم تعرف تفاصيل محاكمة من اتُهم بقتل الغزي، وحتى عام 1949 كانت لم تزل أوراق ومجريات ووثائق المحاكمة موجودة في أدراج الجهات القضائية بدمشق، ولكن يمكننا الإشارة إلى بعض من مجريات المحاكمة وما قيل عنها، لقد جرت محاكمة المتهمين في مبنى دار العدلية (هدم في بدايات الخمسينات من القرن الماضي) والذي كان قائماً عند زاوية زقاق البحصة في الجهة الشمالية لساحة المرجة، ويحتوي هذا المبنى على طابقين، الأرضي وهو سجن التوقيف المؤقت (النظارة) والذي أوقف به كل من الزوجة ورضا ومنير ووجيه الغزي أثناء المحاكمة، والطابق الأول والذي كان يضم المحاكم المختلفة ومنها محكمة الجنايات التي جرت فيها محاكمة المتهمين في هذه القضية، حصلت وفاة الغزي في 5 تموز وحتى تاريخ 19 تموز كانت الصحافة تشير إلى أن الوفاة كانت فجأة ولم يرد ذكر حادث جنائي، وفي نهاية شهر آب من عام 1929 كانت الصحافة تشير إلى التحقيق مع الزوجة وبقية المتهمين، وصدرت الأحكام في هذه القضية يوم 19 نيسان من عام 1930..
اعترف في المحكمة كل من رضا ووجيه ومنير بما نسب إليهم وأنهم دسّوا السمّ للفقيد، بينما أصرت الزوجة أنها لم تكن تعلم بما تحتويه البرشامة من السم، لقد خضعت مجريات المحاكمة لهياج وغليان جماهيري وموجة للعواطف الشعبية التي كانت أسيرة حب للفقيد، فقد خرج الناس إلى ساحة المرجة يطالبون بإعدام المتهمين، أضف إلى ذلك كما سيمر معنا لاحقاً أن القاضي الذي كان قائماً على مجريات المحاكمة لم يكن على قدر المسؤولية والدراية فصدر حكم قضائي مبرم بعد أقل من عام على وفاة الغزي عن محكمة الجنايات، وذلك يوم 19 نيسان من عام 1930 قضى الحكم بإعدام المتهمين الثلاثة لطفية اليافي ورضا الغزي ووجيه الغزي ودفع الدية الشرعية لأهل الفقيد وقدرها 125 مجيدياً، كما حكمت على الصيدلي منير الغزي برغم أنه (حسبما قيل وقتها) هو من قام بتحضير السم للفقيد ويعرف الغاية منه.؟ بالسجن سنة واحدة إذ اعتبرت عمله جنحة.!؟ ودفعه 5 مجيديات. وعندما علمت سلطات الانتداب الفرنسي بهذه الأحكام تدخلت على الفور لسبب غير واضح للتخفيف من هذه الأحكام فأصدر المفوض السامي الفرنسي الجنرال هنري بونسو أوامره للقضاء السوري فجعل الحكم بالسجن المؤبد عوضاً عن الإعدام لكل من لطفية ورضا ووجيه، وأبقى الحكم على الصيدلي منير كما صدر، وهذا الأمر جعل أبناء سورية يعتقدون بأن للانتداب الفرنسي أياديَ خفية في هذه الجريمة، واعتبروا أن الفرنسيين وراء مقتل زعيمهم الشاب..
وقامت بدمشق ضجة كبيرة أشارت لها الجرائد الصادرة آنذاك واتهمت السلطات الفرنسية بالضلوع بالمؤامرة، وقيل إن رضا الغزي قال أثناء مجريات المحاكمة إنه أوهم لطفية بأنه وضع ضمن البرشامة التي أعطاها إياها فيتامينات ومقويات تفيد الفقيد، وإنه صرخ بأعلى صوته حين تلاوة حكم الإعدام على لطفية، إنه هو الجاني ولطفية بريئة، وطبعاً المحكمة لم تأخذ بأقواله هذه.
نفذت الحكم لطفية لمدة حوالي العشرين عاماً وخرجت بعد ذلك من السجن بتاريخ 18 أيار من عام 1949 بمرسوم رئاسي من الرئيس حسني الزعيم، أما رضا ووجيه ومنير الغزي، فلم يعرف عنهم شيئاً، وقيل إنهم هربوا من سجن قلعة دمشق عندما قامت سلطات الانتداب الفرنسي بقصف دمشق في التاسع والعشرين من أيار عام 1945م وقصفت حينها سجن القلعة.؟
الحلقة المفقودة
هنالك سؤال كبير ومهم لم نستطع الحصول على إجابة عنه، ألا وهو من هي الجهة التي طلبت إخراج جثمان الفقيد والكشف على أسباب وفاته.؟ لأن هذا الأمر على غاية الأهمية، كون عاداتنا وطباعنا وتقاليدنا الدينية بعيدة كل البعد عن تشريح جثة المتوفى، والجهة التي طلبت الكشف على الجثة كانت واثقة تماماً من نتيجة الكشف لأنها على علم بحقيقة الوفاة.!؟ وعلى قناعة بأنها لن تثير رأي الشارع السوري.. إن كانت هذه الجهة فرنسية فإن الأمر يكون واضحاً بضلوع سلطات الانتداب الفرنسي في هذه الجريمة وأنها أرادت التخلص من هذه الشخصية الوطنية الكبيرة التي كانت تقف عائقاً في وجه كل مؤامراتها، وهي بالتالي على يقين تام بأن الأمر في الكشف على الجثمان مضمون النتائج ولن يحصد الفوضى واستثارة الرأي العام.. والرواية التي سبق وذكرناها في الحلقة السابقة والتي وردت في كتاب (نشر البشام فيما هو مكتوب على قبور أهل الشام) والتي تنص أنه كان للفقيد صديق ألماني هو طبيبه أيضاً: ولما سمع بالنبأ ركب طائرة إلى دمشق، وأمر بإخراج جثة الوزير من القبر، وبعد الفحص حكم بأنه مسموم، وجرى التحقيق الرهيب، واعترف كل من رضا ولطفية، وحكم عليهما بالسجن المؤبد، وكما قلنا سابقاً ولدت لطفية في السجن بنتا سمتها (حبيسة) وفي عام 1945 يوم 29 أيار هربا من السجن حين ضربت القلعة من قبل (أوليفا روجيه) القائد الفرنسي وهذه الرواية لا أرى أنها تجانب الحقيقة، وهي أشبه بالقصص الشعبية التي لا تستند إلى الواقع ناهيك أنه من المثبت أن الحكم القضائي صدر على لطفية ورضا بالإعدام وليس بالمؤبد، وأطلق سراح لطفية عام 1949 ولم تهرب من السجن عام 1945م.
ولا بد من الإشارة أن الرأي السائد آنذاك لدى المثقفين لم يكن يخرج من دائرة الشائعات، ولم يكن يدين الزوجة لطفية، فيقول في هذا الصدد أحد تلامذة الفقيد عن هذه الجريمة لطفي اليافي في كتابه عن فوزي الغزي والمعنون (الفقيد العظيم فوزي الغزي بقلم المفجوع لطفي اليافي، طبع في مطبعة بابيل إخوان وصدر عام 1929) يقول:(إثر الشائعات المؤسفة حول تسمم الراحل الشهيد من قبل عصابة سافلة أبرأ منها إلى الله)، ولطفي اليافي كان يقول عن علاقته مع الفقيد: (كان أبي وكان أمي.. لأنه قريب قروب..) ويتابع بالقول إن الفقيد كان يناديه: (أخي وولدي) إذاً لو أخذنا كلام لطفي اليافي موضع ثقة، فإن هنالك شكوكاً تدور حول هذه الجريمة في أروقة العالمين بخفايا الأمور مذّاك الوقت.