الزمان: عام 1929
المكان: قرية الريحان
الضحية: فوزي الغزي
المتهمون: لطفية اليافي، منير الغزي، رضا الغزي، وجيه الغزي.
وراء الكواليس : الجنرال هنري بونسو.
في يوم الخميس الواقع في 4 تموز من عام 1929م قصد الزعيم الوطني الكبير فوزي الغزي وزوجته لطفية وولداه دلال وخلدون مزرعة شقيقه لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، وفي صباح اليوم التالي (الجمعة 5 تموز 1929م) استيقظ فوزي الغزي وزوجته، وأثناء تناوله لفنجان القهوة شعر بآلام فطلب من زوجته وكانت في الرابعة والعشرين من عمرها برشامة دواء، فتناولت الزوجة لطفية البرشامة من محفظتها وأعطتها لزوجها، وبعد دقائق معدودة أسلم الروح لباريها، وقيل حينها إنه توفي بالسكتة القلبية.
في اليوم التالي (السبت 6 تموز 1929م) شيعت دمشق بمشاركة المدن السورية والعديد من البلدان العربية ابنها البار، ولكن لم تمض أيام معدودة وبعد دفن جثمان الغزي في مقبرة الدحداح، أُخرجت الجثة وشُرحت وتبيّن أن الوفاة بفعل فاعل، فكانت زوجته لطفية وأقرباء زوجها منير ووجيه ورضا الغزي شركاء في جريمة القتل.!؟ وصدرت الأحكام القاسية بحقهم لكن المستعمر الفرنسي خففها.!؟
لعلّ مقتل الزعيم الوطني الكبير فوزي الغزي يوم 5 تموز من عام 1929م كان ولم يزل لغزاً عصياً على الحل.؟ هل كان ضحية موقفه الوطني الصلب.؟ أم كان ضحية لاجتماع أهل دمشق حوله خاصة وأنه كان موضع إعجاب الجيل الشاب (شباباً وصبايا) وهذا لم يرق للمستعمر الفرنسي.؟ أم هو ضحية مباشرة لوضعه دستور سورية عام 1928م ورفضه وعناده على اعتراضات المندوب السامي الفرنسي لإلغاء عدد من مواده.؟ أم هو كما اشتهر عن حكاية اغتياله أنه كان ضحية مؤامرة غير أخلاقية.؟ أسئلة كثيرة طُرحت ولم تزل تُطرح منذ أكثر من ثمانين عاماً ولم يكن هنالك جواب كاف كاشف.
أدلى بدلوه في مسيرة حكاية اغتيال الزعيم الوطني فوزي الغزي، الرئيس والوزير والزعماء الوطنيون والكتاب والصحفيون ولم تزل هنالك حلقة مفقودة بين الحقيقة والواقع.!؟ فهل هذه الحكاية هي الجريمة الكاملة أم هنالك تقصير وإهمال في تصحيح مسيرة حياة رجالاتنا فجعل منها هذا اللغز.!؟
الحكاية:
قيل أن المرحوم فوزي الغزي كان يسكن بقرب منزل شقيقه فريد، وكانت هنالك زيارات متبادلة بين عائلة فوزي وعائلة فريد، وكان لفريد شاب وسيم يدعى رضا وهو في حوالي العشرين من عمره، أي يقارب في العمر الزوجة لطفية، وكان فرق العمر بين الزوجة لطفية والزوج فوزي حوالي أربعة عشر عاماً، فحدث بين الزوجة وبين رضا علاقة غرامية، علم بهذه العلاقة قريب لهما اسمه وجيه، واشتهر عن وجيه ورضا أن سلوكهما في الحياة سيئ وخاصة وجيه، وكان رضا دائم الحديث لقريبه وجيه عن هذه العلاقة الغرامية مع زوجة عمه، وقيل أيضاً إن فريد طرد ابنه رضا من المنزل لسوء سلوكه فقامت الزوجة لطيفة باستئجار منزل لعشيقها رضا.؟ وكانت تتردد إلى ذلك المنزل بمرافقة ابنتها الصغيرة، فشعر المرحوم فوزي بوجود هذه العلاقة الغرامية بينهما فهددها بالطلاق إن استمرت علاقتهما، فقرر العاشقان قتل الزوج بواسطة السم الذي حضّره ابن عم وجيه الصيدلي منير الغزي، وضع الصيدلي منير السم من نوع ” الاستركينا ” الشديد السمية في برشامة الدواء لأن مرارته تظهر في الأكل والشرب بشدة وأعطيت البرشامة إلى لطفية، وفي يوم الخميس 4 تموز عام 1929م، ذهب فوزي ولطفية وأولادهما إلى مزرعة شقيقه فريد في دوما (منطقة الريحان) وسهر مع أخيه وبعض الأصدقاء، وفي صباح اليوم الثاني الجمعة 5 تموز وأثناء تناول الزوج فوزي القهوة وهو يجلس أمام المنضدة يقرأ ويكتب بعضاً من أعماله ونشاطاته طلب من زوجته إعطاءه برشامة ضد الإسهال الشديد الذي كان ملازماً له، (علما بأن الفقيد كان يعاني من عدة أمراض وفقدان أضراسه وأسنانه وابتلاه الله بأمراض شتى سببها التعذيب والتغريب في السجون والمنفى في أرواد والحسكة ودوما (لبنان) والحدث (لبنان) فأخرجت الزوجة من محفظتها البرشامة التي ضمنها السمّ وأعطته إياها وبعد أن تناولها بقليل شعر بآلام في بطنه وأسلم الروح لباريها.. هذه هي الرواية المتداولة عن قضية قتل الزعيم الوطني فوزي الغزي وقد وردت في العديد من المصادر الحديثة والقديمة التي تحدث عن الجريمة، ووردت في نفس المعنى لدى الباحث هاني الخير الذي قال إنه بذل جهداً كبيراً في الحصول على هذه المعلومات. ولكن لابد من الإشارة أن المعلومات الأولى عن سبب وفاة فوزي الغزي كانت بسبب السكتة القلبية وليس هنالك جريمة قتل، وهذا ما تناقلته الصحافة العربية ومنها السورية الصادرة آنذاك (مثال مجلة المصور المصرية العدد 248 تاريخ 12 تموز 1929) ولكن كيف ومتى تم الكشف عن الجثمان بعد أن دفن.؟ هذا السؤال بقي في غياهب المجهول، فقط قرأت إشارة إلى ذلك في كتاب (نشر البسام فيما هو مكتوب على قبور أهل الشام من رقائق الشعر ولطائف الكلام) والذي جمعه أحمد يوسف ظاظا الشهير بالميداني ونشره ابنه زهير، حيث يقول:(ودفن ولا أحد يعلم بالقصة، وكان له صديق ألماني هو طبيبه أيضاً، ولما سمع بالنبأ ركب طائرة إلى دمشق، وأمر بإخراج جثة الوزير من القبر، وبعد الفحص حكم بأنه مسموم، وجرى التحقيق الرهيب، واعترف كل من رضا ولطفية، وحكم عليهما بالسجن المؤبد) وهذه القصة يبدو أنها غير دقيقة لأسباب عدة.
أعيد وأكرر أن قناعتي تكمن في براءة الزوجة لطفية مما نسب إليها وأن هنالك أيد خفية هي من رتبت فصول هذه الجريمة، وهذا ما سنناقشه لاحقاً.
مأتم فتى الشــام:
انتشر خبر وفاة الغزي في البلاد السورية مساء الخامس من تموز عام 1929 وفي صباح يوم 6 تموز قامت دمشق عن بكرة أبيها تودع فتاها الذي كان نتيجة مؤامرة دنيئة لم تحلّ خيوطها حتى الآن..؟ وكان ضحيتها زوجته لطفية اليافي وثلاثة من أولاد عمومته هم: وجيه الغزي – رضا الغزي – منير الغزي وامتلأت صفحات الجرائد الدمشقية آنذاك بأنباء هذه الفاجعة وتبارى الشعراء والسياسيون من البلاد السورية والعربية بنعي واضع وأبو الدستور السوري فقال فارس الخوري :
يبكيك أحرار سورية وأنت أخ يبكيك دستور سورية وأنت أب
من للصعاب إذا اشتدت معاضلها من للخطابة يا ملسان من خطبوا
ويشير بعد ذلك إلى رفقتهما في المنفى بجزيرة أرواد فيقول:
كهوف أرواد مدت بيننا نسباً يا حبذا السجن، بل يا حبذا النسب
حرّ الجزيرة أذكى من مودتنا فزاد حرّ قلوب حشوها لهب
أخا السجون، أخا المنفى، أخا وصباها فرق الموت ما قد ألف الوصيب
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد رثا الفقيد بقصيدة طويلة ذاكراً مناقبه وجهوده في وضع الدستور السوري قائلاً:
يـا واضِـعَ الدُستورِ أَمسِ كَخُلقِهِ مـا فـيهِ مِن عِوَجٍ وَلا هُوَ ضَيِّقُ
نَـظـمٌ مِـنَ الشورى وَحُكمٌ راشِدٌ أَدَبُ الـحَـضـارَةِ فيهِما والمَنطِقُ
أَبـكـي لَـيالينا القِصارَ وَصُحبَةً أَخَـذَت مُـخـيلَتُها تَجيشُ وَتَبرُقُ
طُـبِـعَت مِنَ السُمِّ الحَياةُ طَعامُها وَشَـرابُـهـا وَهَـوائُها المُتَنَشَّقُ
وَالـنـاسُ بَـيـنَ بَطيئِها وَذُعافِها لا يَـعـلَـمـونَ بِأَيِّ سُمَّيها سُقوا
يـا فَـوزُ تِلكَ دِمَشقُ خَلفَ سَوادِها تَـرمـي مَـكانَكَ بِالعُيونِ وَتَرمُقُ
وكانت العراضات تسير في دمشق وتهتف:
هلّلي بدموعك
سورية
وكل البلاد العربية
لفقدك يا فوزي الغزي
يا زعيم الكتلة الوطنية
فوزي الغزي يا مرحوم
بكيت عليك سورية عموم
لم يكن تشييع فوزي الغزي بدمشق حدثاً عادياً كان كارثة ألمت بالشعب العربي وليس بالشعب السوري….
ويوصف هذا الحدث الجلل، إنه منذ الصباح الباكر ليوم السادس من تموز كانت مواكب القرويين من غوطة دمشق والقرى المجاورة مثقلة بالزهور والرياحين تؤمّ دمشق وكانت دمشق في ذاك الصباح تعطلت فيها الحياة الاقتصادية؛ فالمحال التجارية أغلقت والطلبة امتنعوا عن الذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، وفتحت منازل دمشق لتتقبل العزاء بفقيدها وكان أول من فتح منزله إحسان الشريف حيث تواجد في منزله العديد من أعضاء الجمعية التأسيسية وعلى رأسهم هاشم الأتاسي رئيس الجمعية حيث تقبلوا العزاء من عيون البلاد السورية والعربية من محاميهم وقضاتهم وصحافييهم ومهندسيهم وأطبائهم ورجال الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي فقد جاءت الوفود للعزاء بالفقيد من لبنان حيث حضر وفد صحفي من بيروت مؤلف من جبران التويني، خير الدين الأحدب، اسحق عقل، فؤاد الميداني، يوسف يزبك، كميل شمعون، ووفود من مجلس النواب اللبناني مؤلفة من يوسف السودا، موسى نمور، إبراهيم حيدر، ميشيل زكور، وعن المجلس الملي الإسلامي اللبناني حضر مصطفى الغلاييني، صلاح عثمان، عمر بيهم، الحاج بشير جبر، وعن المقاصد الخيرية عبد الرحمن بيهم، الدكتور مليح سنو، محمد خرما، وعن نقابة المحامين في بيروت حضر الدكتور حبيب أبو شهلا، الدكتور عبد الله اليافي، فؤاد الخوري، وعن جمعية الشبيبة الإسلامية أحمد منيمنه.
وكان وفد حمص يضم مظهر أرسلان، مكرم أتاسي، رفيق أبو الخير أتاسي، محمد الخالد الأتاسي، عبد الحسيب أرسلان، يحيى الخانكان، عبد الباقي الدوري.
وفد حماة: الدكتور الشيشكلي – الشيخ سعيد محمد الحافظ – حسني البرازي – عبد الرزاق الأسود – سعيد الزمانبي.
وفد حلب: سعد الله الجابري – الدكتور سعد الله محمد عاكف الجابري – منير الصمادي – أحمد راشد المرعشلي – عبد الغفور المسوتي – حسين أدمون رباط – ميخائيل ليان – عارف فتح الله صقال – محمد سعيد الزعيم.
ومن صيدا: الشيخ عارف أفندي الزين.
وقُدمت آلاف أكاليل الورود من سورية، والعراق، ولبنان، محافل قاسيون وسورية وجمعية إعانة العائلات المستورة الإسرائيلية ومن الطوائف الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية.
وكان دفن الجثمان حوالي الساعة الرابعة من يوم 6 تموز 1929 فحُمل النعش الذي كانت تغطيه الراية العربية بألوانها التاريخية ورموز الدول التي تعاقب عليها على أكف رجالات الجمعية التأسيسية وعدد من الوطنيين منهم فخري البارودي، زكي الخطيب، سعد الله الجابري، حسني البرازي، إحسان الشريف، فارس الخوري، عفيف الصلح، رياض الصلح، محمد النحاس.
وبعد أن خرج النعش من البيت إلى الشارع تهافته الناس وسار الموكب الجنائزي في شوارع دمشق يتقدمه طلاب مدرسة الإسعاف الخيري بموسيقاهم الحزينة ثم طلاب المعاهد والمدارس فالجمعيات الخيرية فرجال المحافل الماسونية فالوجهاء والعلماء والأدباء ورئيس الوزراء ورئيس الجمعية التأسيسية فالوزراء الحاليون والسابقون فالطوائف الإسرائيلية والأرثوذكسية فجمعية وردة دمشق المسيحية فالكشاف الرياضي، والكشاف المسلم اللبناني فرؤساء الحِرف وأحاط بالنعش جلاوزة البلدية ورجال الشرطة وظل النعش محملاً على الأكف حتى جامع بني أمية حيث بلغ إليه الساعة السادسة وقد انضمت إليه وفود دمشق ووفود القرى بأكاليلها ورياحينها وشيبها وشبابهاز
وعلى طول الطريق الذي سار فيه موكب الفقيد كانت سطوح المنازل وشرفاتها تغص بالنادبين والنادبات وبعد أن أودعت جثة الفقيد عزلتها الأبدية في مقبرة الدحداح وقف العلامة فارس الخوري وألقى خطاباً مطولاً عدّد فيه مواقف الفقيد الجريئة وأعماله المجيدةز
وتقدم النائب لطفي الحفار وأخذ يقدم الخطباء فألقى النائب اللبناني يوسف السودا خطاباً باسم نقابة المحامين في بيروت ثم أعقبه النائب زكي الخطيب باسم نواب دمشق ثم ميشيل زكور باسم نواب لبنان ثم صلاح الدين بيهم باسم شباب بيروت ثم أحمد مرعشلي باسم نقابة المحامين في حلب ثم الأمير أحمد الشهابي باسم مكتب الفقيد ثم جبران التويني صاحب جريدة الأحرار باسم صحافة لبنان ثم بدر الدين الصفدي باسم نقابة المحامين في دمشق، ثم ألقى بدر الدين الحامد قصيدة عصماء باسم وفد حماة وتكلم سليمان سعد باسم محافل سورية، ثم بهاء الدين الطباع باسم الكشاف المسلم اللبناني فالشيخ عارف الزين باسم وفد صيدا ثم أحمد منيمة باسم جمعية الشبان المسلمين في بيروت، ثم وديع أفندي باسم طلاب معهد الحقوق ثم نصوح بابيل الذي ختم الحفل باسم صحافة دمشق. واستغرق الاحتفال الجنائزي حتى الساعة التاسعة ليلاً. هذا وقد نُقش على قبره الأبيات الشعرية التالية:
مـضـى العميد الذي عمّت مآثره
بـهـمة قد سمت قدراً على زحل
قـد كـان ركناً عظيماً يستعان به
راضي الصحاب بلا خوف ولا ملل
جلّ المصاب فقلب العرب منفطر
والشرق يبكي لهذا الحادث الجلل
جلّ المصاب فقلب العرب منفطر
يزول فوزي وحسن الذكر لم يزل