مقالات
عماد بلان: مختارات من ذكريات .. مع فـهــد بــلان (3)
عماد بلان – التاريخ السوري المعاصر
مع إطلالة عام 1951 ، التحق الفهد بخدمة العلم ، وبعد استكمال دورة الأغرار أحيل إلى كتيبة المدفعية بمهمة يسمونها ” طبجي مدفع “، وتم فرزه إلى المنطقة الجنوبية الغربية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة . ومع المئات من زملائه الجنود انضم إلى معسكر واقع في حضن واد تحيط به تلال شاهقة تغطيها أشجار كثيفة وتخترقها طرقات ترابية متعرجة تصل الموقع بتلك التلال .
وكأي جندي ، كان الفهد يستيقظ وكافة جنود المعسكرعند الخامسة صباحاً كإجراء روتيني لتحية العلم والتفقد ثم الانطلاق بعد ذلك إلى التدريبات المختلفة. وبعد قيلولة العصر لساعتين ، ومع بدايات المساء ، وقبل أوامر الدخول إلى الخيام للنوم، اعتادت ثلة من العساكر أن تجتمع في ركن غير بعيد عن المعسكر متحلقين حول صديقهم الفهد يغني لهم ويطربهم بأغنيات كانت سائدة ومشهورة آنذاك لفريد الأطرش وعبد الوهاب وغيرهما ، وأحياناً يلبي طلبات بعضهم بغناء أهازيج جبلية تبعث في نفوس السامعين مشاعر مختلطة من الشوق والحنين والحماس والأمل .. إلى أن حدث ذات مساء ما سأسرده على مسامعكم نقلاً عن لسان الفهد، إنه مشهد ينطوي على مفارقات نادرة .. فتفضلوا بالمتابعة :
بهدوء وخفية ، اقترب الضابط المناوب من العساكر المجتمعين حول الفهد والمنصتين إلى غنائه الشجي ، فجأة برز لهم الضابط ونادى : أنت يا عسكري يللي عم بتغني.. تعال لعندي لهون ..!! وقف الفهد وأدى التحية قائلاً : حاضر سيدي الملازم .. وقدم نفسه بالاسم الكامل باستعداد وثبات . أخذه الضابط جانباً وقال له : |أنا سمعتك وأنت تغني .. الليلة بدي إياك تكون الساعة التاسعة في خيمتنا .. خيمة الضباط ، تسهر معنا وتغني لنا .. ماشي ..؟ ردَّ الفهد : أمرك سيدي ..!!
وفي الموعد المقرر، دخل الفهد خيمة الضباط ، وبعد أداء التحية، طلب منه قائد المعسكر أن يتخذ كرسيه عند زاوية الخيمة، وفوق طاولة خشبية صغيرة قدموا له السجائر مع وجبة عشاء ليشعر بالاطمئنان بينهم ويبدأ وصلته الغنائية مما تيسر له من أطرشيات و وهابيات .. وجبليات .
واستمرت تلك السهرات لأسابيع ، وكل مساء حتى منتصف الليل . لكن ، كان عليه أن يستيقظ عند الخامسة فجراً .. حالة صعبة لا يمكن أن يتحملها ، فما العمل ..؟ اقترب الفهد من الضابط المناوب وقال له : سيدي أنا لا أنام إلا ساعات قليلة كل يوم
فهل لك أن تعفيني من تلك السهرات المرهقة..؟ تفهـَّم الضابط الحالة ووعده خيراً. فأمر بتخصيص خيمة صغيرة إنفرادية ومستقلة متاخمة لخيمة الضباط ، وسمح له بالنوم فيها حتى الثامنة صباحاً فقط ، ليستأنف حضوره كجندي بعد ذلك كغيره من زملائه .. وهذا ما تم فعلاً لأسبوع واحد فقط .. إذ حدث بعده مشهد طريف .. فما هو ذلك الحدث.. ؟ تفضلوا وتابعوني :
ذات فجر ، وصل ضابط برتية عقيد من قيادة الأركان ، في مهمة تفتيشية – يعني كبسة مفاجئة -..!! وبعد استعراضه البرنامج الصباحي المعتاد ، تجول في أنحاء المعسكر لمدة ساعة ، بعدها قرر العقيد أن يأخذ قسطاً من الراحة في خيمة الضباط ، وأثناء مروره من أمامها ، حانت منه نظرة عاجلة نحو الخيمة الصغيرة المتاخمة ، فلمح فيها سريراً ينام عليه شخص ..!! سأل العقيد قائد المعسكر همساً : مين هادا يللي لسـَّـاه نايم ..؟ ربما ظنه ضابطاً برتبة عالية.. فرد قائد المعسكر متلعثماً : هادا عسكري مجند عنا .. تركناه نايم لأنه.. لأنه مريض شوي سيدي ..!!
” يا عسكري .. قــُـم .. وانهض على حيلك ” ..!! صرخ العقيد بالفهد الذي نهض مرتعباً ليجد القيادة كلها تحيط بسريره ..!! و بنبرة آمرة صرخ العقيد : اسمع .. بعد عشر دقائق بدي شوفك جاهز في وسط ساحة المعسكر .. مفهوم ..؟.. نفذ الفهد الأمر الصارم ووقف أمام العقيد يقدم نفسه : ” المجند فهد حمود بلان .. حاضر سيدي العقيد ..”.. وبدأت رحلته مع العقوبات : منبطحاً .. زحفاً .. قفزاً .. فوق تحت .. واحد إثنين ..!! .. ثم أمرهم العقيد بأن يـُـستبدل الفهد بحارس مستودع المؤونة الواقع على قمة الجبل المقابل للمعسكر .. تلقى الفهد كلمة السر وحمل سلاحه وتوجه نحو الجبل ليتم الاستلام والتسليم بينه وبين حارس المستودع .
كان الطقس شتاءً، المطرغزير والرياح عاتية.. وقد اعتادت آنذاك عصابات مجهولة أن تستغل حالة الجو تلك لتهاجم مستودعات المؤونة وتسرق محتوياتها بعد أن تقتل حراسها . كان الفهد على علم بأمر تلك العصابات، فقرر أن يجثم عند باب المستودع يعيون متفتحة استعداداً لأي طارىء محتمل ، الوقت منتصف الليل تخترق سكونه عواصف رعدية و رياح وأمطار، يتخللها حفيف شجر من هنا .. و عواء ذئب من هناك .. والفهد ممتشقاً بندقيته المحشوة.. تارة يوجهها يمنة وتارة أخرى يسرة .. مرة للأعلى ومرة نحو الطريق المظلم ..!!
وفي حمأة ذلك المشهد الرهيب ، ومن على بعد بضع مئات من الأمتار ، تنامى إلى سمعه صوت سيارة تقترب تدريجياً من المستودع.. أضواؤها خافتة وتسير ببطىء شديد فوق جروف صخرية ومستنقعات مائية طينية .. أنصت الفهد بتمعن .. وأدرك بأنها سيارة عسكرية توقفت على بعد حوالي أربعين متر من المستودع و ترجل منها شخص مجهول .. ومن كلمات قليلة وجهها ذلك الشخص لسائقه بنبرة عرف الفهد أن القادم المجهول هو العقيد بذاته ..!! ربما جاء ليتفقد الفهد .. نائم هو .. أم أنه ساهر يؤدي واجبه العسكري ..؟!
أيوااا .. لقد حانت للفهد الآن فرصة الانتقام والثأر .. فصاح بالقادم الذي افترضه مجهولاً : قف .. قف .. كلمة السر ..!! و سرعان ما استجاب العقيد و صرخ بكلمة السر .. لكن الفهد عاد وصاح به : قلت لك قف .. قف .. كلمة السر .!! وكرر العقيد كلمة السر.. و عاد الفهد يتجاهل سماعها .. بل لقم بندقيته و وجهها نحو العقيد يأمره : منبطحاً .. منبطحاً .. وإلا سأطلق النار ..!! ومن على مسافة عشرين متر انبطح العقيد ومضى زاحفاً نحو الفهد ، إلى أن باتت المسافة بينهما خمسة أمتار فإذا بالفهد يعلق سلاحه ويؤدي التحية قائلاً: المجند فهد حمود بلان ..حاضر سيدي ..!! وقف العقيد يلهث وحاله يرثى لها .. ولا حاجة لوصفها بعد أن قطع خمسة عشر متراً زحفاً خلال مستنقعات غارقة بالطين والحجارة والأشواك ..! وبعد أن استأنف أنفاسه ، قال للفهد : والله .. والله لإخرب بيتك .. أنا بفرجيك يا عسكري ..!! وبالفعل ” فرجاه ” النصيب المنتظر.. فقد سجنه ثلاثة أيام ، ثم نقل خدمته من أقصى الجنوب ، إلى أقصى الشمال الشرقي من سوريا .. إلى القامشلي ..!!
ودارت الأيام .. ومرت الأيام ، ومضت السنون ، وبات العالم العربي يعرف مطرباً مشهوراً اسمه : فهد بلان ، وكان في عز شهرته آنذاك .. !! بعد تلك السنين ، وذات ليلة ، حدثت مفارقة أخرى لم تكن بالحسبان .. فما الذي حدث في تلك الليلة .. تفضلوا وتابعوني بلا ملل :
في شتاء عام 1969 ، كان الفهد بصحبة صديقه الحميم المرحوم/ نواف السعدي/ الذي كان عقيداً في الشرطة العسكرية آنذاك، وكان الرجلان متوجهان بالسيارة في دمشق الحبيبة إلى المدخل الخلفي لسينما الزهراء التي كان الجمهور المحتشد فيها على موعد بعد ساعة مع حفل غنائي كبير يحييه مطربهم الشهير فهد بلان .. ومعه عدد من نجوم الفن والغناء من لبنان ومصر . وقبل أن يطفىء الفهد أنوار السيارة ، مرَّ أمامه رجل حاني الظهر ، وقد ارتدى معطفاً ثقيلاً واعتمر قبعة ، وبرفقته سيدتان . همس نواف السعدي للفهد قائلاً : فهد .. بتعرف مين هذا ..؟ أجابه : لا.. لا أعرفه.. مين يكون ..؟ قال له نواف: هذا اللواء المتقاعد فلان الفلاني ..!! انتفض الفهد واستدرك قائلاً : بالله عليك هذا هو فلان .. يا إلهي على هالصدفة ..؟؟ ترجل من سيارته لاحقاً بذلك الرجل ومرافقتيه – كانتا زوجته وابنته – .. اقترب منه تحت جنح الظلام حاجباً بكفه نصف وجهه قائلاً : لحظة يا سيد .. لحظة.. ممكن كلمة السر.. وإلا سأمنعك من حضور الحفلة ..!! فوجىء الرجل ذو الخامسة والسبعين من عمره بالموقف الطارىء الغريب ..!! رفع قبعته قليلاً ثم عدَّل نظارته السميكة فوق عينيه وأخذ ” يبحلق ” في وجه هذا الرجل المشاكس .. ثم صرخ : يووووه .. ولك هذا أنت .. وأخيراً التقينا ..؟ لم يتمالك الرجل نفسه عندما التفت إلى زوجته وابنته قائلاً بانفعال شديد : هذا هو المطرب .. قصدي – العسكري – فهد بلان يللي زحـَّـفني على الطين لما كنت عقيد بالجيش ..!! .. تعانق الرجلان .. وبعد الحفل لبى الفهد وصديقه دعوة السيد اللواء المتقاعد إلى العشاء في بيته الدمشقي الدافىء .. فكانت الأحاديث .. و طابت الذكريات ..!!