مقالات
اليهود في القامشلي
اليهود في الجزيرة السورية
يعتبر وجود اليهود في الحواضر الإسلامية والعربية قديم جداً، فقد كانت البلاد الإسلامية عموماً تشكل مناخاً ينعم فيه اليهود بالأمن والرخاء مقارنة مع ما كانوا يعانون منه في أوربا، الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي المتوفى عام (569 هـ) والذي قام برحلته في زمن الخليفة العباسي المستنجد العباسي (555- 566 هـ/ 1160- 1170 م)، ذكر وجود اليهود وتعدادهم في قصبات وبلدات الجزيرة الفراتية على الشكل الآتي: قلعة جعبر (1000 نسمة)، والرقة (700)، حرّان ( 20)، رأس العين (2000)، ونصيبين (2000)، وجزيرة ابن عمر(4000)، والرحبة (الميادين) (1000)، وقرقيسياء (البصيرة) (500)، والموصل ( 700) ..الخ.
انطلقت في الخامس من آب 1926م، بعض التشكيلات النظامية الفرنسية بقيادة الجنرال بيلوت من موقع تمركزها في تل الحسچة (الحسكة ) وقامت باحتلال تل زهرات خزنة (1 كم جنوب نصيبين) غير بعيد عن كوخ يعرف بمزرعة القامشلية، استقرت الثكنة الفرنسية فوق هذه التلة التي باتت تشرف من الشمال على البلدة الناشئة التي ستأخذ اسم القامشلية، وتكون أعلى نقطة فيها، و ستتحول البلدة خلال عقد إلى بلدة حديثة ومركزاً تجارياً وحيوياً مهماً.
لم تكن القامشلي قبل الدخول الفرنسي سوى سهولاً لبلدة نصيبين ومركزاً لقبائل عربية أهمها طيء، وبحسب تقرير لوزارة الحرب البريطانية سنة 1922، كان لقبيلة طيء نحو 22 قرية زراعية آنذاك، كذلك يوجد قبائل عربية أخرى في المحيطة من القبائل النصف مستقرة أو الرحل، في الوقت الذي انتشرت فیه ثلاث قبائل كردية في محيط نصيبين أهمها دكشوري، لكن هذه القبائل فقدت الكثير من خصوصيتها القومية أمام تاثرها بمحيطها العربي، عبر اتخاذ لباس العشائر العربية وعاداتها ولغتها وفق ما اشار له التقرير البريطاني، الأمر الذي ينطبق على جميع الأقليت الدينية أو الأثنية من سريان ويهود وأرمن وشيشان في الجزيرة.
في بداية القرن العشرين، ومع السيطرة الفرنسية على الجزيرة، هاجرت نحو 150 أسرة يهودية من بلدة نصيبين إلى مدينة القامشلي إحدى البلدات التي شرعت فرنسا بإنشائها في منطقة الجزيرة، ومع وصول القوافل الأولى للمهاجرين الأرمن واليهود إلى المدينة الحديثة، تأسست الحوانيت الأولى (المؤقتة) على يد التجار اليهود والأرمن، باستخدام مواد بسيطة من الطين و بعض الصفائح كأغطية، لم تصمد أمام أمطار تلك السنة، قبل ان يعاد تأسيسها ببناء أقوى في السنة القادمة، لتنطلق المدينة الوليدة بأسواق للحرفيين وبائعي الصوف الأرمن والتجار واصحاب البضائع اليهود وبعض السريان الزراعيين الذي سيشكلون لاحقاً أغلبية سكانية في المدينة. ثم بدأت حركة الاسواق والإعمار وفتحت المقاهي، وبدأت المدينة بعدد سكان نحو 2000 نسمة بداية سنة 1927، قبل ان يصبح عدد السكان في نهاية ذات العام 12000 نسمة.
حياة اليهود في القامشلي
سنة 1934 زار السيد سيلفر رئيس الهيئة الإسرائيلية العالمية بلدة القامشلية، وأعدّ تقريراً يتضمن تفاصيل زيارته، ويوثق التقرير بأنَّ أنَّ أول يهودي هاجر إلى القامشلي كان الحاخام (موشيه ناحوم عبد الله) الملقب بخادم الرب واستطاع شراء بعض الأراضي فيها، ليلحق به اليهود الآخرين، ويبنون المحال التجارية على الضفة الغربية لنهر جغجغ، في المنطقة التي تتوسط السوق والتي باتت تعرف بالحي اليهودي، وكان الشارع يعرف أيضاً آنذاك بالشارع اليهودي الكبير، ولايزال حتى الآن يعرف بسوق اليهود، وكانت معظم المحلات هي لبيع الأقمشة، و قد كان السوق مزدحماً بعشائر المنطقة طوال العام وجميع السكان في البلدة يرتدون الأزياء البدوية بمن فيهم اليهود. ويفخر موشيه ناحوم بتبرعه بجزء كبير من المبلغ الذي تم تخصيصه لبناء أول مدرسة و أول معبد يهودي بطول 30 متر وعرض 8 أمتار، على مساحة 1200 متر مربع بالحي اليهودي، يضم المعبد بئراً، وتغطى جدرانه الداخلية بسجادات مصنوعة من وبر الجمل. كما يصف التقرير اليهود الذين وجدوا فضاء للتعايش بعيدا عن العصبيات في القامشلية، ويصفون علاقاتهم بالممتازة مع عشائر المنطقة العربية، فضلاً عن قدرتهم على التنقل بحرية وممارسة تجارتهم مع البدو في كل المناطق، لكنهم بدأوا يعانون من تعصب (المسيحيين- الأكراد) القادمين من تركيا وفق وصف التقرير، و وصف (المسيحيين – الأكراد) المقصود به جماعات من مسيحيي قرى جبل طور عابدين ممن ينتمون لحلف قبلي كردي، فهم من الناحية العشائرية مع الأكراد المسلمين، لكن ديانتهم وجذورهم مسيحية.
لقد كانت منازل التجار اليهود الطينية تمتلئ مساءً بالبدو. وكان اليهود يعدون اغنى من جميع سكان البلدة من العرب والمسيحيين والأكراد، و رغم أن الهجرة اليهودية من نصيبين إلى القامشلي كانت بأعداد قليلة جداً، فإنها مثلت عنصرا حضريا اقتصادياً وتجارياً هاماً جداً في المنطقة. كما قامت الهيئة التي زارت القامشلي بتشكيل المجلس الذي سيهتم بشؤون اليهود، تشكل من 7 أشخاص، على أن يتم توفير دخل المجلس هذا من الضرائب التي يتم فرضها على اللحوم والختان ..الخ، وتبيّن إحصاءات فرنسية جرت في عام 1943 بأن عدد اليهود في القامشلي بلغ (1319) نسمة، في حين كانت أعدادهم في الحسكة لا تتجاوز (43) نسمة، و(76) نسمة فقط في قضاء دجلة. وكان لهم تجمع كبير في قرية العويجة الواقعة على ضفاف جغجغ قرب القامشلي (5 كم) بعد أن استحوذوا على أراضيها في بداية الثلاثينات، وكانوا يشتغلون بالزراعة هناك وتربية المواشي، ويتزيون بزي أهل المنطقة العربي. في تلك الفترة كانت أنشطة المنظمات الصهيونية في الشمال السوري تثير حفيظة القادة الوطنيين في سورية وفلسطين، إذ اتهمت تقارير صحفية بعض السماسرة الحلبيين تسهيلهم قيام المنظمة الصهيونية بشراء بعض القرى على ضفاف جغجغ وتسجيلها باسماء اليهود المتواجدين في القامشلي، تمهيداً لجعلها نقطة تمركز على طريق المهاجرين اليهود من اوربا الشرقية إلى فلسطين.
في عام 1970 كانت أعداد اليهود في سورية بالكاد تصل إلى (4574) نسمة، بينهم (2894) في دمشق، (1266) في حلب، (414) في القامشلي في الجزيرة.
حانوت عزرا
يعتبر حانوت عزرا من أقدم معالم مدينة القامشلي، وعزرا هذا هاجر من نصيبين، وكان أول من افتتح محلاً في البلدة الناشئة، لذلك سمي السوق باسمه، سوق عزرا أو (سوق اليهود)، باع عزرا الأخشاب والحبال والسمن، قبل أن يتطور إلى بيع التوابل وكل ما له علاقة بالطب البديل، وحتى تلك التي يحتاجها أولئك الذين يتعاطون السحر، وقد بقي عزرا يعمل في حانوته حتى وفاته، ثم تسلم الحانوت بعده ابنه ناحوم، ثم بعد ذلك حفيده ألبير ابن ناحوم الذي هاجر أخيراً للولايات المتحدة الأمريكية، ويشاع أنه هاجر من هناك إلى تل أبيب في نهاية الثمانينات. هاجر معظم اليهود من القامشلي وريفها للاستيطان في فلسطين المحتلة أو إلى دول أخرى، ولم يبقَ اليوم سوى شخص واحد اليوم قائم على أملاكهم. الكثير من محلاتهم وأملاكهم تم تأجيرها لذوي النفوذ بثمن بخس يودع في البنك التجاري.
عزرا وزوجتهُ إستير، خلفه تقف – كنّتهُ أديبة – زوجة ابنه الوحيد ناحوم، وخلف إستير يقف حفيده البكر- ألبير.
عزرا وبجواره إستير زوجته ، والصورة خلال حفل زفاف حفيده مردخ بن ناحوم الذي يقف وراء عروسه تماماً – الفتى ذو النظارات هو عازار، هاجر مردخ وكذلك آخر حفاد عزرا وهو بينيامين في الثمانينات إلى نيويورك وبقي عازار وأخيه الأكبر ألبير لإدارة أعمال الأسرة، قبل أن يهاجروا في وقت لاحق(1) .
(1) مهند الكاطع – التاريخ السوري المعاصر