ثمانية وثلاثون عاماً مضت حتى اليوم على قيام ما اصطلح على تسميته بالحركة الانفصالية في سورية في الثامن والعشرين من ايلول سبتمبر 1961.
وهي الحركة التي نتج عنها فصل سورية عن مصر بعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة فقط على قيام الوحدة السورية – المصرية في 22 شباط فبراير عام 1958، وهي الوحدة التي فرضها الشعب السوري بغالبية فئاته على مجموعة السياسيين السوريين وعلى مجموعة قادة الجيش وعلى جمال عبدالناصر في آن، خصوصاً ان مسيرة النضال الشعبية السورية ضد العثمانيين الأتراك، ثم ضد فرنسا، ثم ضد المؤامرة الدولية الصهيونية التي أقامت دولة اسرائيل فوق الأراضي العربية الفلسطينية صيف 1948، رفعت رايات التحرر العربي الوحدوي القومي، ولم تقتصر على رفع الرايات القطرية السورية، لأن التزام الشعب السوري المشروع العربي الوحدوي القومي كان التزاماً جماعياً بديهياً فطرياً تاريخياً، وهو الالتزام الذي قد يكون أضعفه فشل التجربة الوحدوية المصرية – السورية، بكل ما كان في ذلك الفشل من أسباب ومسببات ومسوغات كانت كامنة داخل التجربة الوحدوية ذاتها، ومنذ الأشهر الأولى لقيامها، أي انها لم تكن أسباباً ومسببات ومسوغات تآمرية خارجية بدليل ان سقوط عهد الانفصال في الثامن من آذار مارس 1963 لم يؤد الى عودة سورية الى الحظيرة الوحدوية المصرية الناصرية، على رغم ان الذين تصدوا للانفصال وتمكنوا من اسقاطه في الثامن من آذار، كانوا، كما أعلنوا، وحدويين يتطلعون الى احياء التجربة الوحدوية السورية – المصرية، أي ان مرحلة ما بعد الثامن من آذار 1963 كانت استمراراً عملياً لحركة الثامن والعشرين من ايلول 1961، مع تَغيير الشعارات المرفوعة، واسماء القادة – الأشخاص الذين حلوا محل من قاموا بالحركة الانفصالية وهي حقيقة تاريخية تحرض على طرح تساؤلات منها: لماذا قوضت التجربة الوحدوية السورية – المصرية بانقلاب عسكري فجر الثامن والعشرين من ايلول 1961؟
ولماذا بقيت سورية في حال انفصال عن مصر الناصرية بعد الثامن من آذار 1963 على رغم ان الشعب السوري الذي سعى الى تحقيق الوحدة مع مصر في 22 شباط 1958 ظل هو نفسه الشعب المقيم فوق الأراضي السورية، لم يحل محله شعب آخر بعد نجاح ثورة الثامن من آذار؟
وبما ان كاتب هذه السطور كان على صلة عضوية بالمسيرة الشعبية النضالية الوحدوية التي سعت الى فرض الوحدة السورية – المصرية عام 1958، ثم بالتجربة الوحدوية ذاتها، ثم بحركة 28 ايلول 1961، ومن ثم بالمسيرة النضالية الشعبية التي تمكنت من اسقاط عهد الانفصال الأول فجر الثامن من آذار 1963…، بل: وربما انه مضى حتى اليوم حوالى ثمانية وثلاثين عاماً على قيام الحركة التي وصفها جمال عبدالناصر بالانفصالية خريف 1961… فإن الأوان قد يكون بعد هذا كله قد آن، لطرح الملاحظات – الحقائق الآتية:
1- غالبية الذين تحركوا من معسكراتهم فجر الثامن والعشرين من ايلول 1961 لاحتلال مقر رئاسة الأركان في دمشق، ومحاصرة منزل عبدالحكيم عامر في شارع عدنان المالكي، كانوا أكثر وحدوية من غلاة الوحدويين أو الزاعمين أنهم كذلك، إلا ان أخطاء الممارسات القيادية في التجربة الوحدوية كانت بلغت حداً في سورية أصبح الصبر أو السكوت عنها أمراً فوق قدرة شعب على التحمل، فلقد تحول الإقليم الشمالي الى رهينة في قبضة الاجهزة المباحثية التي كان يقودها عبدالحميد السراج ورجاله المحترفون، والى بؤرة للاستثمار والتربح في قبضة المنتدبين المصريين للعمل في الاقليم الشمالي عسكريين ومدنيين، غير مؤهلين قط للتعامل الصحيح الناجع مع شعب عربي آخر خارج حدود مصر، والى معمل للتجارب السلطوية الاشتراكية التي ربما كانت صالحة يومئذ لفرضها على مصر، لكنها لم تكن صالحة قط لفرضها على الإقليم الشمالي – سورية، والى أداة لانتهاز الفرص لتحقيق المكاسب الشخصية، مادية ومعنوية، في قبضة غالبية الوزراء وكبار المسؤولين السوريين الذين كان همهم الأول: السعي لكسب ود وثقة جمال عبدالناصر، وعدم اعتراضهم على ما كان يُمارس من اخطاء على مستوى القيادة العليا والقيادات الفرعية للدولة الوحدوية، الا ان هذا الاتهام الأخير، لا يشمل قادة حزب البعث الاشتراكي يومئذ عفلق – البيطار – الحوراني والوزراء البعثيين الذين آثروا الانسحاب من المشاركة بالحكم بعد اشهر قلائل من قيام الدولة الوحدوية، على ان ينافقوا جمال عبدالناصر، وعلى ان يغضوا الطرف عن أخطاء الممارسات القيادية التي كانت رؤوس خيوطها جميعاً في قبضة جمال عبدالناصر وحده.
2- في ما نعلم جيداً: كان هدف عبدالكريم النحلاوي ورفاقه الدمشقيين وهم يزحفون نحو مقر رئاسة الأركان في دمشق فجر الثامن والعشرين من ايلول 1961 هدفاً اصلاحياً بحتاً غير انفصالي قط، وهو الهدف الذي صارحوا به عبدالحكيم عامر خلال ساعات حوارهم المطول معه بعد تمكنهم من السيطرة على مقر رئاسة الاركان ومقر الاذاعة والتلفزيون القريب منه. وقد أبدى تعاطفه الصادق، وانتهى حوارهم معه الى تفاهمه معهم، والى الاتفاق على إصدار البيان التاسع من جانبهم مقابل ان يصدر عبدالحكيم عامر بعد اذاعته بياناً يتسق مع البيان التاسع، يؤكد ان الجمهورية العربية المتحدة ستظل قائمة بإقليميها الشمالي والجنوبي برئاسة جمال عبدالناصر، لكن على أساس الأخذ بالإصلاحات التي طالب بها النحلاوي ورجاله، وهي ستة، منها: ان تكون قيادة الجيش الأول السوري من ضباط سوريين فقط، وان تلغى القرارات الاشتراكية التي فرضت على الاقليم الشمالي، وان يتم ترحيل الضباط المصريين من الاقليم الشمالي الى الاقليم الجنوبي، وإعادة الضباط السوريين من القاهرة الى دمشق، وإذا كان معاون قائد الجيش الأول السوري مصرياً، فيجب ان يكون معاون قائد الجيش المصري سورياً، وهكذا لكي تتحقق المساواة بين الاقليميين. الا ان عبدالحكيم عامر، بعد اذاعة البيان التاسع من جانب النحلاوي ورجاله، نكث بوعده بعد ان جرت محادثة هاتفية بينه وجمال عبدالناصر، ورفض عامر ان يذيع من جانبه البيان المتفق عليه… وقد كان هذا التراجع من عبدالحكيم عامر بناء على أمر من جمال عبدالناصر، هو المنعطف الذي توجهت فيه سورية وهي في قبضة النحلاوي ورجاله من الضباط الشوام – الدمشقيين، نحو الانفصال عن مصر، ولولا ذلك التراجع لما توجهت سورية نحو الانفصال بعد نكوص عبدالحكيم عامر عن تنفيذ وعده.
3- روى لي اللواء عبدالكريم زهر الدين في لقاء لي به في منزله في شارع بغداد – ساحة العباسيين في منطقة القصاع في دمشق، وانا أساجله لعبة النرد الطاولة أوائل عام 1962، ان أحد ضباط النحلاوي وهو مهيب الهندي شقيق المناضل القومي الوحدوي هاني الهندي، اقتحم مكتب زهرالدين في مقر رئاسة الأركان، حزيناً غاضباً بعدان رست حركة النحلاوي في ميناء الانفصال مستنكراً اتهامه بـ”الانفصالي”، وقد اقترب من مكتب زهر الدين لينتزع من الدرج مسدس القائد العام بقصد الانتحار، الا ان زهر الدين، كما روى لي بلسانه، تمكن من انتزاع المسدس من كف مهيب الهندي.
4- حين اكتشف النحلاوي أن أحد رجاله المتحالفين معه وهو فيصل سري الحسيني تسلم مبلغاً من المال هدية من الملك حسين بوساطة شقيقيه الحسيني المتعاملين مع المخابرات الأردنية قبل قيام حركة النحلاوي، أحيل الى التحقيق ليعترف بذلك، فاعترب ونال جزاءه. كذلك حين علم النحلاوي وزهر الدين بأن حيدر الكزبري وهو الضابط الذي حاصر منزل عبدالحكيم عامر في دمشق فجر 28 ايلول سبتمبر 1961، وتمكن من احتلاله بعد قصفه بقذيفة مدفعية، تحوم حوله شبهة التعامل مع الملك حسين، وشبهة الرشوة منه، سارعت القيادة الى التحقيق معه، فلم تتمكن من ادانته، ومع ذلك أبعد عن القيادة كما أُبعد الدكتور مأمون الكزبري في ما بعد عن رئاسة الوزارة لسبب مشابه لسبب إبعاد حيدر الكزبري.
5- حاول النحلاوي مخلصاً صادقاً، ومعه زهرالدين وبقية أعضاء مجلس قيادة الحركة، اقامة حوار مع جمال عبدالناصر لإحياء الجمهورية العربية المتحدة بعد اشهر قلائل من قيام حركة 28 ايلول. وأشهد أنني أجريت حواراً مطولاً مباشراً مع النحلاوي في غرفة مدير مكتبه الضابط زهير حموي أوائل 1962 مقر رئاسة الأركان، حول ما انتهت اليه حركته حتى ذلك اليوم، وانه أخذ بيدي الى مكتب عبدالكريم زهرالدين قائد الجيش الذي كان مجتمعاً فيه مع بقية ضباط حركة 28 ايلول، وأذكر منهم موفق عصاصة ومحمد منصور، وطلب إليّ أن اتحدث معهم كما تحدثت اليه بصراحة، وقد فعلت، ونبهت الى خطورة تكريس الانفصالية السورية، وان زهر الدين بعد انتهاء حديثي المطول الذي استمر حوالى الساعة قال لي بالحرف: “نحن ما وضعنا أرواحنا على أكفنا وقمنا بهذه الحركة الاصلاحية لينعم الانتهازيون من الوزراء وغيرهم بما ينعمون به. نحن وحديون، وسنعيد الوحدة مع مصر”.
ثم فهمت منه، في جلسة الحوار المباشر تلك ذاتها، ان ثلاثة من رجاله سيتوجهون الى مصر للتحاور مع جمال عبدالناصر على أمل إحياء الوحدة السورية – المصرية إحياء يجنبها اخطاء ما كان وقع، ويعينها على الاستمرار. وبالفعل، كلفت القيادة ثلاثة من ضباطها، وهم زهير عقيل، مهيب الهندي، فايز الرفاعي بالتوجه سراً الى القاهرة حيث أجروا حواراً مطولاً مع جمال عبدالناصر في منزله في منشية البكري، وبعودة الوفد الى دمشق فهمت من اللواء عبدالكريم زهر الدين ان جمال عبدالناصر صارحهم بأنه غير متحمس لمشروع إحياء الوحدة بين سورية ومصر بعد حدوث ما حدث، وقد يكون أوحى لهم بوجوب تغيير رئيس الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي قبل البحث بمشروع كهذا. وهكذا، وبناء على هذا الاتفاق الغامض الشفهي بين جناح النحلاوي وزهر الدين ورجالهما من ناحية، وجمال عبدالناصر من ناحية أخرى، أقدمت القيادة بترتيب من النحلاوي على زج رئيس الجمهورية الدكتور ناظم القدسي في سجن المزة، وعلى إقالة الحكومة التي كان يرأسها الدكتور معروف الدواليبي، وعلى حل المجلس النيابي الذي كان يرأسه الدكتور مأمون الكزبري فجر 28 آذار 1962، على أمل بل على نية ان تبادر القيادة الى اذاعة نداء من اذاعة دمشق موجه الى جمال عبدالناصر ستعرض عليه فيه اقامة حوار فوري بين دمشق والقاهرة حول اعادة الوحدة بين سورية ومصر… الا ان إقدام جاسم علوان على احتلال اذاعة حلب بعد يومين من قيام حركة 28 آذار، واعلانه القيام بحركة ناصرية بهدف تحقيق الوحدة الفورية بين سورية ومصر من دون أية شروط سورية، كشف للنحلاوي وجماعته ان جمال عبدالناصر كان يخطط، عبر جاسم علوان، لإعادة سورية الى الحظيرة المصرية ضمن اطار الجمهورية العربية المتحدة من دون شروط تماماً في الوقت الذي شجع فيه جمال عبدالناصر النحلاوي وجماعته على القيام بحركة 28 آذار 1962 التي زجت بناظم القدسي رئيس الجمهورية في سجن المزة، وأقالت الحكومة، وحلت المجلس النيابي… وبذلك خسر جمال جمال عبدالناصر الفرصتين معاً لأن حركة جاسم علوان سرعان ما فشلت باختفائه عن الأنظار، ولأن مؤتمر حمص برئاسة الضابط بدر الأعسر، كان قرر قبل قيام جاسم علوان بحركته ترحيل النحلاوي وستة من رجاله الى خارج سورية، فاختاروا التوجه الى المانيا الغربية كمنفى… حيث ارسل اليهم جمال عبدالناصر وهم في المانيا مشردون، اكثر من مبعوث لمفاوضتهم على التحالف مع جمال عبدالناصر، وقد كان الوزير الناصري السوري جادوا عزالدين والوزير السوري أكرم ديري والضابط السوري وفيق اسماعيل كان مقيماً في المانيا كديبلوماسي تابع للجمهورية العربية المتحدة والضابط السوري طلعت صدقي، من هؤلاء المبعوثين الذين كلفهم جمال عبدالناصر بالتفاوض مع النحلاوي ورجاله الذين يرافقونه في المنفى وقد كان جادو عزالدين والديري وصدقي مقيمين في القاهرة.
6- بعد حوالى ثلاثة اشهر من نفي النحلاوي الى المانيا، كنت أصبحت على اقتناع عميق بأن سورية تتوجه من السيء الى الاسوأ، وان رجال الحكم بعد تكريس الانفصال عاجزون حتى عن حماية بيوتهم، وبأن سورية في عهد الوحدة السورية – المصرية كانت في أحوال أفضل عما آلت اليه في عهد الانفصال… وبأن رجال الحكم الانفصالي بدأوا يتوجهون بسورية نحو المزيد من الاضعاف يوماً بعد آخر، ولهذه الأسباب مجتمعة لم أجبن عن الظهور على شاشة التلفزيون السوري في بث مباشر، لأوجه الانتقاد المرتجل المنفعل الى النظام والحكومة ورئيس الجمهروية، ولأعلن رفضي لاستمرار تعاوني مع النظام والحكومة والرئيس وكذلك استقالتي من منصبي القيادي في التلفزيون، وقد كانت مهمتي من خلال هذا المنصب، سياسية بالمقام الأول. وما كدت أخرج من إلقاء حديثي المرتجل على شاشة التلفزيون حتى وصل الى مكتبي مبعوثان أرسلهما اللواء عبدالكريم زهرالدين كان أحدهما المطرب فهد بلان الذي كان يرتبط بعلاقة حميمة مع اللواء زهرالدين باعتبارهما ينتميان الى الطائفة الدرزية السورية، وقد أخذني هذان المبعوثان بسيارة زهرالدين الرسمية الى منزله في ساحة العباسيين، حيث كان لحظة دخولي منزله يتحدث عبر الهاتف مع رئيس الوزراء خالد العظم الذي كان يبلغ زهر الدين بعزمه على اصدار أمر باعتقالي… وقد نصحني زهر الدين بمغادرة الأراضي السورية فوراً، وقد غادرتها تلك الليلة قبل تمكن الحكومة من اعتقالي الى بيروت حيث التقيت مصادفة في ساحة البرج بزميل اذاعي سوري كان يقيم في لبنان، متعاوناً مع السفارة المصرية في بيروت. وقد عرض علي السفر الى القاهرة، فوافقت. وفي منزل الملحق العسكري المصري زغلول عبدالرحمن في منطقة الروشة تم التخطيط لعملية نقلي الى القاهرة التي اصدرت بياناً رسمياً عبر وكالة الشرق الأوسط بوصولي اليها، وقعه وزير الارشاد الدكتور عبدالقادر حاتم، وقد كان مما ورد فيه: “ان القاهرة حضن لكل عربي وحدوي مقاتل وحماه”، على رغم انني كنت هاجمت جمال عبدالناصر في تعليق تلفزيوني بثه التلفزيون السوري مباشرة قبل وصولي القاهرة بعدة أشهر عقب معركة تل النيرب التي خاضها الجيش السوري ببطولة فائقة ضد قوة اسرائيلية عسكرية خاصة مهاجمة، وكنت في أرض المعركة كمراسل حربي للتلفزيون السوري. وقد كان عنوان ذلك التعليق أين طائراتنا يا عبدالناصر؟ أين دمنا يا عبدالناصر؟ فقد كان لسورية سرب من طائرات القتال الليلي في مصر حين وقعت حركة النحلاوي الأولى وقد احتجزه جمال عبدالناصر في وقت لم تكن فيه لسورية طائرات للقتال الليلي، سوى طائرات ذلك السرب الذي كان حافظ الأسد نسر احدى طائراته القتالية.
هكذا، ومنذ اليوم الأول لوصولي القاهرة التي رحبت بي ترحيباً اعلامياً استثنائياً وأكرمتني تنفيذاً لأمر صدر عن جمال عبدالناصر، بدأت بكتابة واذاعة التعليقات السياسية من “صوت العرب” لمناهضة الانفصالية السورية التي تمكنت من سورية عقب اخراج النحلاوي ورجاله منها، وربما أكون هاجمت عبدالكريم النحلاوي ورجاله الذين تسببوا بانفصال سورية عن مصر وهم يقومون بحركة تمرد عسكرية أرادوها مخلصين صادقين ان تكون إصلاحية لا ان تكون انفصالية… فما كادت تمر اسابيع قلائل على وصولي الى القاهرة، حتى تلقيت عبر البريد رسالة عتاب مرسلة إليّ من المانيا الغربية استناداً الى عنواني في القاهرة وهو اذاعة “صوت العرب”، وقد كانت الرسالة بخط عبدالكريم النحلاوي أو أحد رفاقه، وقد عتب علي ان أهاجمه من “صوت العرب” على رغم معرفتي من خلال صلتي به انه وحدوي وليس انفصالياً، طالباً منى ان أواجه ضميري قبل ان أنعته بالانفصالي، مؤكداً انه وحدوي حتى نخاعه العظمي هو ورفاقه المنفيون الى المانيا الغربية… وانه حاول الإصلاح الا ان جمال عبدالناصر لم يكن مستعداً لسماع الرأي الآخر… وحين شجعهم عبدالناصر على القيام بحركة 28 آذار 1962 بهدف اعادة الوحدة السورية – المصرية استناداً الى شروط سورية واضحة، فقاموا بها، خذلهم بتحريض جاسم علوان على القيام بحركة العصيان العسكري في حلب، وباحتلال إذاعتها. فور وصول رسالة النحلاوي تلك اليّ، قمت بتسليمها الى مدير مكتب جمال عبدالناصر في منشية البكري عن طريق الدكتور عبدالقادر حاتم. ولست أشك في انها ما تزال راقدة منذ ذلك العام 1962 في الملف الخاص بي في أرشيف رئاسة الجمهورية المصرية…
7- بعد ان فرض الانفصال ذاته منذ فجر 28 ايلول 1961، وعبوراً أيضاً بفجر 28 آذار مارس 1962 وبفجر 8 آذار 1963 وصولاً الى قيام الحركة التصحيحية في سورية في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970 أتيحت لي ولكثيرين غيري فرص التأمل وخوض المزيد من الممارسات والتجارب السياسية التي أعانتني وغيري على اكتشاف ان جوهر الخلاف الذي دفع كلاً من سورية ومصر نحو التصادم – التناقض خلال سنوات التجربة الوحدوية، انما كان وربما لا يزال يتمحور حول اختلاف المزاج السوري الآسيوي الذي يشكل أهم خصائص الشخصية السورية التاريخية، عن المزاج المصري الافريقي الذي يشكل أهم خصال الشخصية المصرية التاريخية، وهي ملاحظة تقودنا الى اكتشاف لاجدوى القفز من فوق مفهوم وحدة الأراضي الطبيعية، والى التساؤل عما ان تكون طروحات أنطون سعادة مؤسس المشروع القومي السوري في بلاد الشام، هي الصواب أم هي الخطأ، باعتباره مشروعاً يقوم على مفهوم وحدة مجتمع الأراضي الجغرافية الطبيعية التي ينظمها الاتساق والتشابه الى حد التطابق. أفلم يقم مجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون المغاربي على أساس هذا المفهوم الذي طرحه أنطون سعادة منذ حوالى ثمانين عاماً؟ لماذا اذا لا يبدأ بالتجهيز لإحياء مشروع سورية الطبيعية على سبيل المثال؟
هل لسبب كهذا فك العقيد القذافي، الافريقي، ارتباطه بالمشروع العربي القومي توجهاً منه نحو القارة الافريقية حيث تتوافر شروط وحدة المجتمعات الطبيعية التي منها مجتمع الاراضي الليبية الافريقية. وهل لسبب كهذا أصدر أحد كتّاب “الحياة” هو حازم صاغية كتابه الذي نعى فيه القومية العربية؟ بل… هل القومية العربية التي دفعت كلاً من سورية ومصر عام 1958 الى اقامة دولة واحدة تجمعهما، هي كائن موجود حقاً، ام تراها وهماً جميلاً احتلمنا به وهو ليس سوى فقاعات رغاوية؟ فإن لم تكن هذه القومية العروبية حلماً ووهماً بلا جسد، فما الذي أنجح الحركة الانفصالية السورية اذاً قبل ثمانية وثلاثين من الاعوام السالفة.
لكم يُربك العقل ويحزن القلب في آن، أن يكتشف المواطن العربي القومي الوحدوي، مناضلاً كان أم مفكراً سياسياً ربما قبل، ربما بعد فوات الأوان، ان العروبة القومية التي آمنا بها، لم تتجاوز خلال سنوات القرن العشرين كاملة، كونها “حالة ثقافية” لا أكثر، وأنها تضمر في حقيقتها نوازع غير وحدوية الا ضمن الحدود التي ترسمها الجغرافيا أو الأراضي الطبيعية… فهذه، أولاً، هي التي تحدد خصال ونوازع وطبائع الشخصية التاريخية للمجتمع التاريخي المقيم فوقها، وهي نوازع وطبائع وأمزجة كثيراً ما لا تتسق ولا تتوافق مع مجتمعات اخرى تفصلها عنها الجغرافيا الطبيعية…
8- كل هذا، محاولة عفوية لاستخلاص العبر والدروس المتاحة من كل ما كان حدث منذ قيام الوحدة السورية – المصرية التي انتهت الى انفصال سورية عن مصر قبل ثمانية وثلاثين عاماً سلفت. وهي دروس وعبر قد تكفي للاعتراف بعبثية انتظار قطار لن يأتي… وبجدوى نجاعة تجربة كتجربة مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال، وهي تجربة وحدوية تسلحت بالاقدام على ما هو متاح وممكن… وان هذا لخير من انتطار موعد الولوج في ما هو غير متاح وغير ممكن – لأسباب موضوعية بحتة – ومن صرف الجهد والوقت عبثاً لمحاولة عقد قران ضبع على غزالة، أو تزويج ثور بذبابة… وقد برهنت سنوات القرن العشرين على ان بعض العرب زيت، وان بعضهم الآخر ماء… كل منهما محصن – ويا للحزن – ضد ذوبانه في الآخر.
أم تُرانا نهرِفُ بما لا نعرف؟!
* توفي عبد الهادي البكار عام 2009