مقالات
عماد بلان: مختارات من ذكريات .. مع فـهــد بــلان (1)
عماد بلان – التاريخ السوري المعاصر
عبارة قالها أحدهم قديماً : ” كلما اتسعت الرؤية .. ضاقت العبارة “.. وعلى ذلك يمكنني القول : ربما ، كلما ضاق الإسم ، كـبـُـر المـُـسَـمَّـى، والإسم هنا قوامه ضيق بحروفه الثلاثة : فهد ..!! لكن المُسمَّى رجل كبير بتاريخه.. شامخ بعطاءاته، متميز في إبداعاته، أصيل في كرمه، مقدام في نخوته وشجاعته في الحق .. هو الفنان العظيم الراحل.. فقيد الفن العربي : فهد بلان ..
إنها حكايات عديدة ، سمعتها شخصياً من الفهد ، وهو عمي الحبيب الذي افتقدته كما فقدناه جميعاً ، حكايات سمعتها منه خلال سنوات ليست بالقصيرة ، منها عندما كنت أرافقه في رحلاته الفنية في سوريا والأردن ولبنان وتونس و الكويت والقاهرة ومنها ما كان يمتعنا بها خلال سهراتنا برفقته الرائعة في السويداء أو في دمشق ..هي حكايات شبه نادرة ، قلائل جداً من سمعها من جمهوره ومحبيه ، بل من أقربائه كذلك ..
وأخيراً ، هي ليست حكايات أكتبها وأنشرها طمعاً في نيل شهرة أو سمعة على سلالم تاريخ رجل عظيم رحل عن دنيانا هذه ، ولكني أفعل ذلك لشدة محبتي للرجل الكريم الذي كان لأفضاله عليَّ بالذات ما يعجز الكلام عن وصفه .. وأعود إليكم إلى البدايات :
إنه : فهد حمود أحمد قاسم بلان ، ولد عام 1933 في بلدة الكـَـفر، تلك البلدة الممتدة على السفوح الشرقية الشامخة لمدينة السويداء ، البلدة ذات التاريخ النضالي الطويل .
هناك في ” الكـَـفر”، تفتحت عينا الفهد على الحياة وسط أسرة فقيرة متواضعة، والده – أبو هايل – رحمه الله كان رجلاً بكل معاني الرجولة التي كانت سائدة تلك الأيام ، طويل القامة ، عريض المنكبين ، مفتول الذراع ، أشقر البشرة ، ذو شخصية آسرة قوية . أمضى مدة من حياته في سلك الدرك الأمر الذي دفعه للانتقال من بلدة الكفر إلى السويداء مع زوجته و ولديه منها : غالب – وهو والدي – وفهد ، رحمهم الله جميعاً . وللفهد أيضاً أخوة ثلاثة آخرون غير أشقاء وهم : هايل، نسيب، وعبد السلام – هم اليوم جميعهم في ذمة المولى عز وجل و رحمته .
ما أكمل الفهد العام السادس من عمره حتى انفصل والده عن أمه التي بدأت رحلتها مع الشقاء والفقر والحرمان .. وكيف لا ..؟ و برقبتها مسؤولية طفلين صغيرين ، وليس في يدها من مال يكفي لإعالتهما ، فالأب الذي تركها وطفليها في مهب رياح الحياة ، سرعان ما تزوج من إمرأة أخرى ، كانت الثالثة آنذاك في حياته . ومع ذلك فلم يقبل ببقاء طفليه مع طليقته نكاية بها ، بل سارع في ملاحقتها من مكان لآخر ليخطفهما منها إلى حضانته .
لم تجد الأم الحنونة من حيلة سوى أن ترحل بطفليها ، غالب وفهد، إلى الأردن هرباً من بطش الأب وملاحقته وتهديده لها بشتى الوسائل، وهو الرجل ذو السيطرة والجبروت والقسوة .
ومن قرية ” ملح” بدأت الأم وطفلاها رحلة العذاب برفقة رجل بدوي تعهد بقيادة مجموعة من عائلات غلب القهر والفقر أفرادها فاختاروا الهجرة من الوطن إلى حيث يمكنهم أن يعملوا ويكسبوا رزقهم الحلال .
خلال الرحلة ، كان الفهد يغفو في حضن أمه على ظهر بغلة، لينهض بعد ساعة على إلحاح شقيقه الأكبر غالب ليحتل مكانه ويتبادل معه الدور.. واحد ينام والثاني يمشي وهكذا.. استمرت رحلة المسير يوماً كاملاً حتى وصل موكب التعساء المشردين إلى نقطة قريبة من حدود الأردن ، ليستوقفهم البدوي المرافق ويأمرهم بنفض جيوبهم وإفراغها مما فيها من نقود قليلة ليقبضها زاعماً أنه سيدفعها رشوة لحرس الحدود الأردنية لتمرير القافلة دون اعتراض، وهذا ما حدث فعلاً . أما بعد ذلك ، فالله تعالى وحده هو من سيتكفل برعايتهم وحمايتهم في أرضه الواسعة التي لا ولن تضيق في وجه عباده الصالحين ..
وعند الحدود الفاصلة بين البلدين، ترجل الجميع من على رواحلهم من بغال وحمير وسلموها لصاحبها البدوي الذي عاد راجعاً، بينما تابع المهاجرون رحلتهم سيراً على الأقدام حتى وصلوا مدينة عمـان بعد يوم من المسير المرهق ..