ولد صبري بن أحمد المدلل عام 1918 ، واسمه الحقيقي محمد المدلل.
ألحقه والده في السادسة من عمره بشيخ الكتّاب فتعلم قراءة القرآن الكريم، صوته الجميل لفت أنظار أبيه إليه، فصار يصحبه معه إلى حلقات الذكر في بعض الزوايا الصوفية التي تلقف منها وحفظ عدداً من التوشيحات التي مال إلى أنغامها أكثر من كلامها.
في الثانية عشرة من عمره تتلمذ على يدي عمر البطش الذي أولاه عناية خاصة، فأغنى معارفه حتى استقام له كل شيء، وهو طوال ملازمته لعمر البطش لم يقطع صلته بالزوايا الصوفية التي ظل يتردد عليها ويتعلم من شيوخها حتى صار من أقوى منشديها.
عمل في بداياته مؤذناً، وقبس تجويد آي الذكر الحكيم وغناء الموشحات والقدود الدينية والدنيوية من شيوخ المذاهب الصوفية، وفن غناء الموال الشرقي من أحمد الفقش سيد من غنى الموال في حلب، وأخذ عنه أيضاً أسلوب أداء القصة الشريفة والمدائح النبوية المتبع عند أصحاب الطريقة الشاذلية.
أحب ألحان الملحن الحلبي القدير بكري الكردي، فغنى له بعض أعماله في إذاعة حلب عام 1949 ويعود الفضل إلى المدلل في ذيوع وانتشار طقطوقة “ابعت لي جواب” التي غدت من وراء ما أضفاه عليها في الأداء، أغنية سائرة. وقد حفزته هذه الأغنية فيما بعد، لأن يغني من محفوظاته رائعة زكريا أحمد “يا حلاوة الدنيا” التي تفوق فيها على صاحبتها فتحية أحمد”.
لم يستسغ صبري المدلل العمل في إذاعة حلب على الرغم من نجاحه، ويذهب بعض العارفين، بأنه ترك العمل الموسيقي بسبب أرضيته الدينية، لأنه عمد بعد تركه الإذاعة مباشرة، إلى تأسيس فرقة للإنشاد الديني من كبار المنشدين المعروفين في حلب، التي صارت تقدم حفلاتها الخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية المختلفة في الجوامع والتكايا.
وفي سنة 1954 التقى بالمنشد فؤاد خانطوماني، وتعاون معه في تأسيس فرقة إنشاد ديني، تخصصت في تقديم الأناشيد والتواشيح، وكان لحن «صلاة الله ذي الكرم على المختار في القدم» أول لحن تقدمه هذه الفرقة، وبعد فترة وجيزة انتشرت أعمالها في العالم العربي.
وبعد سنوات على ذلك، ضم للفرقة عدداً من العازفين المرموقين، ليقدم من خلالها ألواناً من الطرب التراثي الجميل الذي كان يحن إليه مذ أقلع عن الغناء في الإذاعة، وظلت هذه الفرقة تعمل بإشرافه وتوجيهه أكثر من عشر سنوات حتى غدت من رموز حلب الموسيقية.
دعي المدلل مع فرقته للمشاركة في مهرجان الموسيقا العربية الذي عقد في باريس عام1989 ، فحقق نجاحاً لم يتوقعه، ثم دعي في العام ذاته للغناء في مهرجان قرطاج، فأذهل التونسيين المحبين للطرب بباعه الطويل في ضروب الغناء التي غناها. وعندما اشترت الحكومة التونسية قصر الزاهرة الذي كان يملكه الباحث الموسيقي البارون “رودولف ديرلانجيه” في بلدة “سيدي بوسعيد” القريبة من العاصمة تونس دعته عام ١٩٩٦ ، للغناء بهذه المناسبة. وقد استطاع المدلل أن يعيد من وراء غنائه، تلك الأجواء الموسيقية الماتعة التي كان يعيشها القصر في حياة البارون ديرلانجيه.
لم تقتصر حفلات صبري المدلل وقد تجاوز الثمانين من عمره على باريس وتونس، إذ رافق فرقة الكندي التي أسسها عازف القانون الفرنسي “جوليان فابس” في جولاته إلى مختلف العواصم والمدن الأوربية وإلى البرازيل واستراليا دون أن يقف عامل السن حائلاً بينه وبين رغبته في تقديم ما اصطلح على تسميته بالسهرة الحلبية بكل فنونها وإبداعاتها، لتعريف الناس في أصقاع الدنيا على ما تمتاز به مدينة حلب عن غيرها من المدن بالتراث الموسيقي الذي تملكه وتفخر به.
كانت فرقة “جوليان فابس” تضم بين أفرادها المشاهير من العازفين العرب والسوريين، ولا سيما عازف العود الحلبي الخطير “قدري دلال” صاحب كتابي القدود الدينية والموشحات.
صوت صبري المدلل هو بحد ذاته ظاهرة يجب الوقوف عندها وتقريها، فهو على الرغم من تقدمه في السن وتراجع مساحات صوته كان ما زال يمتلك القدرة في التحكم بالطبقات الصوتية الثلاث، المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة، والتكيف في الانتقال بين النغمات بسهولة دون عناء يذكر، ودون أن يفكر بالاستعارة التي لجأ إليها كبار المطربين ومنهم محمد عبد الوهاب عندما تقدم بهم العمر.
في أواخر أيامه أصيب صبري مدلل بمرض أقعده في منزله بمدينة حلب، وبعد صراع طويل مع المرض توفي سنة 2006.