مقالات
د. عادل عبد السلام : الحاتيون أسلاف الشركس
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
قرأت منذ أمد على أحد المواقع الشركسية للتواصل الاجتماعي، ذكراَ للحاتيين وللحثيين رافقه إدراج شريط فيديو ينطق بلغات قديمة من بينها جمل (قيل أنها لغة حاتية ؟) مدعمة بلوحة تحمل كتابة ورموزاً كالطلاسم. والأمر الذي أثار استغرابي في كلمات نص اللغة الحاتية أنها صورة طبق الأصل عن كلمات وجرس اللغة الشركسية التي نتكلمها اليوم وباللهجة الغربية…. ولما كان الشريط غيو موثق، والمتكلم باللغة الحاتية/ الشركسية غير معرف، و مجهول الهوية… فإنني أميل إلى الشك في مصداقية النص الشركسي….وذكرني بسؤال أحدهم لآخر بقوله :
(من أين عرفت أنها كذبة ؟؟؟؟؟ فأجابه: عرفنها من كبرها). لأن الحاتيين الذين يرى عدد من اللغويين أن لغتهم ذات أصول أديغية (شركسية)/ أيخازية، تكلموها قبل نحو 5000 سنة…. ما يطرح تساؤلات كثيرة عن بقاء اللغة الشركسية دون تغير أو تطور طوال تلك الفترة).
كل ذلك دعاني إلى توضيح بعض جوانب الموضوع للقارئ الكريم. علماً بأنني أبحث موضوع الحاتيين وأبناء جلدتهم من قبائل الكسك (الكاسك أو الكشك) منذ زمن ليس بالقصير. وانهيت دراسة عنهم غير منشورة عنوانها:
الحاتيون والكسَك والأديغة (الشركس)
, Гэщэгхэр, Адыгэхэ Хьаттхэр
أجتزئ منها هنا ما يخدم المهتم بهدف تبسيط الأمور، نظراً لتعقد المسألة وتشابك جوانبها، وتداخل تواريخ أقوام عاشت قبل آلاف السنين على الرقعة الأرضية الممتدة من القفقاس الشمالي الغربي (بلاد الشركس) إلى الأناضول الشرقي والأوسط من تركيا الحالية. وما يهمنا هنا بشكل خاص هو التعريف بالحاتين وتشابك المعلومات عنهم مع الحثيين.
فالحاتّيون وأبناء عمومتهم قبلئل الكَسَك (Gashag) (الكشك: عند المسعودي) هم شعب قديم جداً من السكان الأصليينAborigin) التناء )، في الأناضول الأوسط الشرقي (تركيا اليوم)، عاش قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. وكانت بلادهم تعرف بأرض حاتي، وهي منطقة جغرافية في آسيا الصغرى، حدودها الشمالية هي البحر الأسود وسلاسل جباله في بلاد الكاسكيين أحد فروع الحاتيين و قبائلهم. وعاصمتهم مدينة حاتوش (بالقرب من بوغاز كوي الحالية). وقد ورد ذكر(الحات) في اليوميات الآشورية- الأكادية والحثية منذ عهد صارغون الكبير وخليفته نارام- سن، سنة(2150 قبل الميلاد). حين شن هؤلاء الحروب ضد الملك الحاتي (بامباPamba ولقبه: (ملك أرض حاتّي وبلدان أخرى). و كانت حاتيا مؤلفة من دويلات مدن وإمارات، تخضع لحكم إقطاعي – تيوقراطي (ديني)، تؤكده النصوص الحاتية القليلة الحافلة بأسماء الآلهة والرموز الدينية وأسماء الأماكن والأشخاص. ولقد كان لآشور مراكز تجارية في أرض حاتّي. ويعد جوشوا، ج. مارك Joshua J. Mark (2012) خير من كتب عن الحاتيين، اقتبسنا منه قوله:
“أصبح من السائد والبديهي أيضاً، القول أن الحاتيين كانوا السكان الأصليين لما عرف منذ 2350 ق. م. وحتى سنة 630 ق. م. بـ (أرض حاتي) Land of the Hatti . الأمر الذي يشهد على تأثير الثقافة الحاتية في هذا الجزء من الأناضول. فالحاتيون تكلموا اللغة الحاتية”.
فالحات شعب ومجموعة من الأسرة القفقاسية (غير هندية-أوروبية) عرفت بلادهم في زمن الدولة السومرية- الأكدية باسم (حاتو) (Hattu). كما صنف المؤرخ (مارك فان دو ميروب Marc Van De Mieroop) (2004( (2007) مملكة حاتي بين 1500-1200 ق. م. في قائمة دول شعوب المنظومة الدبلوماسية والتجارية الكبرى التي يسميها (نادي القوى العظمى)، الذي يضم ممالك : ميتاني، وبابل، وآشور، وحاتي، ومصر.
وتذكر الوثائق إلى أن الحاتيين كانوا يتألفون من 12 قبيلة وإمارة، كما تذكر أن حلفاً مؤلفاً من 17 ملك وأمير يرجح أنهم كلهم أو أغلبهم حاتيون، تم بقيادة الملك الحاتي بامبا Pamba، الذي يعد أشهرملوكهم في القرن 22 قبل الميلاد. وهو حلف تشكل لمحاربة الغزاة الأكديين. ومن ملوك الحاتيين ، بيي أوستي Piy-usti (القرن 17 ق. م). وأوحنا Ohana ملك زالبوا (القرن 17 ق. م)، وحوزّيا Huzziya ملك مدينة وإمارة (زابلا)، و غيرهم. ومن المدن الحاتية، التي احتلها الحثيون وأصبحت تنسب إليهم، مدينة حاتوش (Хьату-щ منزل حاتو أو مقر حاتو) عاصمة الحاتيين ثم الغزاة الحثيين، و ناراك، وسابينووا، وزيبالاندا، وحاكئبس Hakips (ХьакIы-пс) حاضرة قبائل الكاسكيين، أولاد عم الحاتيين في الشمال الجبلي . ويبدو أن هذا الاسم شركسي مؤلف من مقطعين هما: حاكئـ ويعني (الضيف، أو ذنب الكلب)، و بس، ويعني (ماء أو نهر). ونحن نعرف أن أسماء عشرات الأنهار في بلاد الشركس اليوم تنتهي أسماؤها بمقطع (بس Ps, Psi).
أما الحثيون فهم شعب يختلف عن الحاتيين كلياً، فهم من أرومة ولغة هندية- أوروبية الأصل. وتحيط بوصولهم إلى أرض الحات فرضيات غير مؤكدة. فهناك فرضية تقول بمجيئهم من البلقان، وفرضية ثانية أكثر قبولاً ترى أنهم جاؤوا من جنوبي روسيا (ر. هروزني Hrozny)،
هناك شبه إجماع من الباحثين، على ان اسم (الحثيين) ما هو إلا تحريف عن اسم الحـــــــاتيين الأصلي. علماً أن اسم الحثيين السابق هو (النيسيليين أو النيسيين) ولغتهم هي النيسية. وسبقهم الحثيين في سكنى أرض حاتّي، كما تبني الحثييون أغلب المعتقدات الدينية و الرموز المقدسة للحاتّيين. فالمعبود الرئيسي للحاتيين (حِبات) Hepat،(اسم علم شركسي معروف اليوم: ХьэпIатI) إلهة الشمس، ظل مقدساً من قبل المحتلين الحثيين. إضافة إلى عشرات الآلهة الحاتية التي تبناها الحثييون.
كذلك تكلم الحاتّيون لغة مختلفة عن لغة الحثيين. فاللغة الحثية هي لغة ذات انتماء هندو- أوروبي، في حين تنتمي اللغة الحاتّية (Hattic) إلى أسرة اللغات القفقاسية الشمالية الغربية كما أكده تريفور برايس (2004 ص. 106، و 2005 ص. 12)، بل ويرى ألكسي كاسيان (2009، مجلد 41 ص. 403)، أنها لغة إديغية -أبخازية (شركسية). وهناك من يرى أن اللغة الحاتّية ذات الأصول القفقاسية- الشركسية كانت لغة شعب أرض حاتّي، إلى زمن الاندماج التدريجيي للغة الحاتّية في اللغات الهندو- أوروبية، كاللغة الحثية واللوفية والبالائية المتأخرة والدخيلة على المنطقة. ومن المعروف أن اللغة الشركسية المعاصرة غنية بأسماء أسر و أشخاص من الجنسين تبدأ بالسابقة (Prefix) الـ : – حَ (Хьэ-)، أو حات، حاتي (Хьат-, Хьати-)، مثل :
حتئاتئـ ، حَتئيتئـ، حَبْاق، حاتقوة، حاتهـ، حاتيقواي، حَساس، حَكواكو، حَقون، حاتو، حَبراتئـ، حَباتِر، حَنَخو، حَنَصوقو، حَتئـِم، حَخو، حَزيِش، حَتانَ،حاغور، حاتش، حاتازوق وغيرهم….. و قبيلة (حاتيقواي) الشركسية ، واسم (حاتقوة) الشركسي يعني (إبن الحات)، وكذلك اسم الأسرة (حاتهـХьэтх ) الشركسية هي وغيرها أمثلة بارزة على العلاقة بين شركس اليوم وحاتيي التاريخ.
إن الوصول إلى حقائق مؤكدة بخصوص ما تقدم، ليس بالأمر السهل، لافتقار الباحثين للوثاثق المادية والآثارية والكتابية والمنقولة الكافية وغيرها. وهذا ما يفسر عدم وضوح الرؤية، واتباع الدارسين منهجيات مختلفة حول الجانب اللغوي، والأثاري، والديني وغيره من جوانب. ومن أهم المسائل المتعلقة بالموضوع، والتي تتمركز حول تعدد الآراء حول (القرابة) بين اللغة الحاتية واللغة الأديغية- الأبخازية (الشركسية)، ومدى واقعيتها، هي المسألة اللغوية التحليلية. ويرجع الفضل في اكتشاف اللغة الحاتية المندثرة إلى الباحث التركي (أوغوزسويسال (Oguz Soysal ، إذ اكتشف جذور نحو 300 كلمة حاتية. والحاتية هي لغة إلصاقية، ولاتظهر فيها فروق بين الأسماء والصفات، غنية بالسوابق واللواحق. كل هذا وغيره من خصائص قواعدية للغة الحاتية دفعت اللغويين إلى القول بأنها على علاقة وثيقة بأسرة اللغة الشركسية (الأديغية)- الأبخازية، للتشابه المميز بينهما في تركيب الأفعال وبنيتها في كل من الحاتية والشركسية. وبإضافة عائق الفجوة الزمنية البالغة قرابة 3000 سنة الفاصلة بين اللغتين، يمكن تبرير صعوبة إجراء المقارنات اللغوية المؤكدة للقرابة المقترحة بين الحاتيين والشركس.
ويذكر الباحث التركي(علي تشوريي) في حديثه عن الحاتيين في قناة نارت الشركسية في عمان الكثير من أمثلة المتشابهات الحاتية- الأديغية. كما ذكر جملة بالحاتية تقول:
(دُقو الذي لمس المرأة ) ((Дыкъоу шъузым нэсыгъэр، ودُق، اسم رَجُل شائع بين الشركس. والجملة هي نفسها في اللغتين الحاتية والشركسية (الأديغية) نطقاً ومعنى. و يذكر المرأة او الزوجة على أنها (شوز Шъуз)، و لَمسَ (Нэсыгъэр) تماماً كما هي في اللهجات الشركسية الغربية اليوم.
ومع ذلك تبقى مسألة موطن الحاتيين في الأناضول، والشركس في شمال القفقاس الغربي معلقة بين عدة فرضيات:
ا) هل كان الموطن الأول للحاتيين والكاسكيين (اسلاف الشركس) هو القفقاس الشمالي الغربي، هاجر قسم منهم إلى الأناضول وأسسوا مملكة لهم فيه. بتأثير تغيرات مناخية دفعتهم إلى الجنوب الأناضولي الأدفأ، إضافة إلى ظروف معينة. أم
ب) هل كان موطنهم الأول هو الأناضول، وهاجر أغلبهم إلى القفقاس نتيجة الغزو الحثي لبلادهم (أرض الحات)؟ ويذكر ولتر ريتشموند (Walter Richmond) 2013 في مؤلفه (الإبادة الشركسية) (The Circassian Genocide)، ” أنه وبعد مرور 150 سنة من إغفال الحديث عن الشعب الشركسي الأسطوري أخذت رويتر والتايم ووسائل إعلام عالمية أخرى تتحدث عنهم خاصة مع ما دار حول إقامة الألعاب الأولولمبية في سوتشي عاصمة الشركس المحتلة،…. من المرجح أنهم هم أحفاد الحاتيين الذين بنوا مجتمعاً متقدماً في الأناضول الأوسط في الألف الثالث ق.م. حين غزاهم الحثييون بحدود سنة 2000 ق. م. فهاجروا إلى مدن الساحل الشركسي بين سوخوم وأنابا، وهم الأديغة (Zigei )، الذين حطم المغول حضارتهم في القرن الثالث عشر الميلادي. وقضى الروس على بقاياهم في القرن التاسع عشر” .
3) أما فرضية قيام مملكة أو إمبراطورية قديمة واحدة كبيرة للحاتيين امتدت من السواحل الشمالية لتركيا الحالية والأناضول الأوسط والشرقي. إلى السواحل الغربية للقفقاس ومنه إلى الجنوب الأوكراني، أي حكمت حوض البحر الأسود كله ماعدا غربيه، وأن مواطن الشركس في القفقاس وفي بلاد حاتي والكاسك هي بقايا متخلفة عن تلك المملكة، هي فرضية تحتاج إلى معطيات وبراهين يفتقر إليها العلم حالياً. ونذكر في هذا السياق أن هناك جيباً اثنياً في روسيا اليوم يشكل وحدة إدارية اسمها الخات أوالحات (Hat)، ظهرت حول أصول سكانها عدة فرضيات. منها أنهم بقايا شعب عاش في شمالي أوكرانيا، أوأنهم فرع من شعب الحاتيين الأناضوليين االذي اندمجوا بالغزاة الحثيين.
وللمستزيدين والمهتمين بشأن ماتقدم، سيما الجانب اللغوي، فيما يلي أهم المراجع والمصادر:
• Ardzinba, Vladislav. (1974): Some Notes on the Typological Affinity Between Hattian and North-West Caucasian (Abkhazo-Adygian) Languages. In: “Internationale Tagung der Keilschriftforscher der sozialistischen Länder”, Budapest, 23.-25. April 1974. Zusammenfassung der Vorträge (Assyriologica 1), p. 10-15.
• Chirikba, Viacheslav (1996): Common West Caucasian. The Reconstruction of its Phonological System and Parts of its Lexicon and Morphology. Leiden: CNWS Publications, 452 pp. [Chapter XI. The relation of West Caucasian to Hattic, p. 406-432].
• Dunaevskaja, I. M. & D´jakonov, I. M. 1979. “Xattskij (protoxettskij) jazyk”. In: Jazyki Azii i Afriki, III. Jazyki drevnej perednej Azii (nesemitskie), Iberijsko-Kavkazskie jazyki, Paleoaziatskie jazyki, ed. by G. D. Sanžeev, p. 79-83. Moskva. Nauka.
• Girbal, Christian. (1986): Beiträge zur Grammatik des Hattischen (Europäische Hochschulschriften Reihe XXI, Bd. 50). Frankfurt am Main, Bern, New York: Verlag Peter Lang, V+201 pages.
• Ivanov, Vyacheslav V., “On the Relationship of Hattic to the Northwest Caucasian Languages,” Moscow: Nauka (1985) 26-59. In Russian with English summary.
• Kassian, Alexei. (2010): ”Hattic as a Sino-Caucasian language. In “ Ugarit Forschungen”, Band 41. Muenster.
• Soysal, Oğuz (2004): Hattischer Wortschatz in hethitischer Textüberlieferung, Leiden/Boston: Brill.
– مقابلة مع الأستاذ الدكتور جباغ قابلو أستاذ التاريخ القديم في جامعة دمشق (2015).
عادل عبد السلام (لاش) دمشق 2018