من الصحافة
نظام الإصلاحات العثماني وآثاره على الولايات العربية (الشام 1839- 1876م) -4
طرحنا في مقالة سابقة قضية آثار نظام الإصلاحات العثمانية على الولايات العربية وخاصة بلاد الشام كسلسلة دراسة متكاملة؛ فبدأنا بشرح وضع الدولة العثمانية في آخر عهدها وبعد ذلك شرحنا سبب ضعفها وسبب لجوئها لنظام الإصلاح، واليوم وكحلقة أخيرة في السلسلة نطرح تأثير هذه الإصلاحات على الولايات العربية وخاصة بلاد الشام.
التنظيمات العثمانية في بلاد الشام
كان من نتائج التنظيمات العثمانية أن أخذت الدولة بنظام الحكم المركزي، بعد أن تمكنت من القضاء على النظام الإقطاعي، إلا أنّ الأمر الوحيد الذي يؤخذ على الدولة العثمانية أثناء تطبيقها لهذه التنظيمات أنها غالت كثيرا في المركزية، ولم تطبق التنظيمات في جميع الولايات العربية والعثمانية في درجة واحدة من السرعة والشمول، كما وجدت صعوبة في تطبيقها في بعض الولايات الأخرى، فنجدها طبقت التنظيمات في ولايات الشام سورية وبيروت وحلب ومتصرفية القدس قبل غيرها من الولايات العربية وبسرعة وشمول أكثر(1)، إما تطبيقها في ولايات العراق الثلاث البصرة وبغداد والموصل فقد كان أقل سرعة وشمولًا، إذ لم يكن من السهل تطبيق نظام الحكم المركزي فيها، وكما لم يكن من السهل أن تستجيب عشائر العراق للتشريعات الجديدة العثمانية(2)، ومع ذلك شهد العراق بعض الإصلاح أثناء ولاية مدحت باشا لبغداد ، حيث نظم إدارة الولاية، وأخضع العشائر لسلطة الدولة، وأما تطبيقها في الولايات العربية البعيدة كالحجاز واليمن فقد كان ضئيلا جدا.
أما عن تأثيرها في ولايات الشام، فقد استطاعت الدولة العثمانية أن تنفذ جزءا كبيرا من برنامجها الإصلاحي (التنظيمات) في هذه البلاد، وفي فترة لا تزيد كثيرا عن نصف قرن حققت الدولة العثمانية الكثير من الإنجازات التنظيمية، لا سيما في ولاية سورية وكانت أولى هذه الإنجازات التنظيمات الإدارية، فبالرغم من أن قانون تشكيل الولايات 1864م لم يأت بجديد في مجال التقسيم الإداري للولاية، أن تقسيم الولاية إلي ألوية وسناجق، والألوية إلى أقضية، كان معروفا ومعمولا به من قبل أن يصدر هذا القانون، ولكن الجديد في هذا القانون هو أن الدولة العثمانية أعادت النظر بموجبه في التقسيمات الإدارية لولايتها، فضمت ولايات أخرى، وشكلت ولايات جديدة، ونالت بلاد الشام في ظل هذه التنظيمات نصيبا من هذه التغييرات(3)، إذ اختفت ولاية صيدا وقسمت بلاد الشام إلى ولايتين هما ولاية تضم أجزاء الجزيرة والأناضول.
– الآثار الإدارية
نظمت الدولة جهاز الولاية الإداري، وحددت اختصاصات وصلاحيات موظف فيه اعتبارا من الوالي حتى مختار القرية، كما أنشئت المجالس الإدارية المحلية وحاولت إشراك الشعب في تحمل مسؤولية الحكم.
– تنظيم القضاء
كانت أولى تأثيرات ما سمي بالإصلاح القضائي في الدولة العثمانية هو تدفق القوانين الوضعية إلى داخل الدولة العثمانية، وامتداد تأثيراته إلى الولاية العثمانية العربية لا سيما بلاد الشام حيث تكثر الأقليات المسيحية، إذ صدرت في أعقاب خط شريف كلخانة 1839م، وخط همايون 1856م، مجموعة من القوانين لتنفيذ توصيات هذين المرسومين، فأدى ذلك إلى حدوث تغيرات كثيرة شملت مختلف مجالات الحياة، إذ أسفر تطبيق النظام القضائي المدني في بلاد الشام إلي سلخ الدعاوى الجزائية من المحاكم الشرعية، وتحويل النظر في القضايا الجنائية والحقوقية إلى محاكم جنائية ومدنية مختلفة يكون الأجانب أطرافا فيها، ويعمل بتلك المحاكم قضاة أتراك وأوروبيون، فأدى الازدواج في المحاكم وفي القانون، إلى نوع من الخلط والاتجاه إلى الغرب والتشريعات العلمانية في بلاد الشام(4).
– الآثار العسكرية
حظي الجهاز العسكري في عهد التنظيمات باهتمام الدولة وعنايتها، فأنشأت في بلاد الشام الجيش الخامس ومقره دمشق، وكان جيشا حديثا ومنظما، وفرضت على الأهالي التجنيد الإجباري الذي أعلنته في خط كلخانة، وجاء فيه: “الجندية فريضة على الأهالي وإن أعطاء العساكر لأجل محافظة الوطن هو من الفرائض بذمة الأهالي”. وقد أقامت الدولة من أجله المدارس العسكرية، واتبعت في تحصيله أسلوب القرعة، فكان السلطان يبعث بفرمان القرعة في كل عام إلى بلاد الشام، حيث تجري مراسيم خاصة عند قراءاته بحضور الوالي ومشير الجيش الخامس، والقاضي والمفتي، والأعيان والعلماء والوجهاء، ثم يعقد مجلس القرعة ويحضر الأفراد المكلفون الذين بلغوا سن الخدمة العسكرية إلى المجلس، وبعد ذلك تجري القرعة، وقد أشرفت الدولة على تطبيق نظام القرعة في العديد من الولايات، وألوية بلاد الشام مثال لواء مرعش، ونابلس والقدس وغيرها.
– الآثار الاقتصادية
اهتمت الدولة بالناحية الاقتصادية كثيرا، فاعتنت بموارد الولاية ونظمت الضرائب وسنت الأنظمة التي تحصل الضرائب بموجبها، وحدت من سوء استغلال المحصلين والملتزمين للفلاحين، وراقبت ميزانية الولاية، وأشرقت على إدارتها المالية إشرافًا تامًا. أما في مجال الزراعة فقد أصدرت الدولة قانون الأراضي الهمايوني سنة 1858م الذي استهدف وضع حد لفوضى المكيلة التي كانت سائدة في العهد العثماني الأول، وكانت محاولة جادة من الدولة للسيطرة على أراضيها، ووضع حد للمتلاعبين بها. كما اهتمت الدولة بتسجيل الأراضي وتوزيع سندات التسجيل “الطابو” على المالكين.
– الآثار التعليمية والثقافية
أما في حقل التعليم فقد طبقت الدولة العثمانية في بلاد الشام قانون التعليم العثماني الصادر في عام 1869م والخاص بإصلاح التعليم في جميع مراحله. يوجب هذا النظام توسعة عملية إنشاء المدارس في بلاد الشام وانتظامها، فأصبح لها نظام تعليمي رسمي يشمل جميع المراحل من الابتدائية إلى الجامعة، يقوم على تدريس اللغة التركية ويعمل على نشرها وتعميمها(5).
أما فيما يخص المنشآت التعليمية، فقد نشطت إدارة معارف ولاية الشام في بناء المدارس وذلك بفضل إيرادات صندوق المعارف المتنوعة، كالمخصصات الأميرية والإعانة السنوية التي تحصّل من الأهالي، ومخصصات الأوقاف والإعانات المتفرقة والرسوم التي تحصّل من طلبة المدارس السلطانية(6)، ويمكننا تقسيم أنماط التعليم في بلاد الشام في عصر التنظيمات إلى نوعين وهي: المدارس الحكومية والمدارس الخاصة.
– تنظيم الشؤون الطائفية
لما عاد العثمانيون إلى بلاد الشام سنة 1840م، تابعوا إقرار المساواة بين الطوائف وفقا لما جاء في خط كلخانة 1839م “… ولكي يكون أهل الإسلام وباقي الملل الذين هم من تبعة سلطتنا السنية سائلين مساعداتنا هذه الشاهانية بدون استثناء أعطيت من طرفنا الشاهاني الأمنية الكاملة بمقتضي الحكم الشرعي لجميع أهالي ممالكنا المحروسة على نفوسهم وأعراضهم وناموسهم…”(7).
فكان لذلك أسوأ الأثر في الولايات العربية ولا سيما في بلاد الشام حيث تكثر الأقليات المسيحية، ذلك أن الدولة العثمانية بالرغم من إعلانها مبدأ المساواة بين كافة رعايا الدولة، لم تستطع تطبيق هذا المبدأ تطبيقا كليا، فظلت الوظائف العامة لا سيما العسكرية، والإدارية والقضائية مقتصرة على المسلمين وحدهم، فكان لهذا التمييز صدى قوي في الأوساط الطائفية، إذ أوجد الضغينة في قلوب المسلمين ونفخ في صدور النصارى روح الاعتزاز والتطاول، إذ أخذ المسيحيون ينظرون إلى التنظيمات على أنها تعطيهم نفس الحقوق التي للمسلمين، بينما أخذ المسلمون ينظرون إلى المسيحيين نظرة الشك ويرون في التنظيمات أنها السبب في تطلع المسيحيين إلى وضع اجتماعي ممتاز عما كانوا عيه من قبل، فكانت النتيجة أن أخل ذلك بالتوازن بين العناصر الطائفية (المسيحيين والمسلمين) إذ وجدت هذه العناصر نفسها متقابلة وجه لوجه، وزاد في تأثير البغضاء بينهما لجوء بعض الأقليات المسيحية في بلاد الشام إلى الدول الأوروبية لحمايتها وتأييد وضعها شبه المستقل، فانتهت بذلك التنظيمات إلى تعميق الهوة بين المسلمين والمسيحيين، حتى أن المؤرخ الفرنسي ثومان Thomin في كتابة تاريخ بلاد الشام يظهر أن مذابح لبنان سنة 1860م ترجع في أسبابها غير المباشرة إلى التنظيمات العثمانية(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساطع الحضري. المرجع السابق، ص94
(2) محمد أنيس. الدولة العثمانية والشرق العربي (1516-1914) مكتبة الانجو مصرية، القاهرة 1985، ص218
(3) أحمد عزت عبد الكريم. التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني، مج1، ص83
(4) طارق البشري. المرجع السابق، ص624
(5) أحمد عبد الرحيم مصطفى. المرجع السابق، ص 218-219
(6) عبد العزيز محمد عوض. نقلا عن كتاب الدستور، مج 2، ص259
(7) عبد العزيز محمد عوض. نقلا عن كتاب الدستور، مج 1، ص2-4
(8) محمد أنيس. المرجع السابق، ص218