مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش) : بحيرة دمشق واندثارها
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
يقع ما يعرف بحوض دمشق في سورية مع كورتيه (الغوطة والمرج) في مكان منخفض مغلق بين مرتفعات جبلية وتلّية تحيط به من كافة أطرافه بحيث يمكنه الحفاظ على مياه الأنهار والسيول والأمطار التي تصله، ويمكن أن يشكل بحيرة إن كانت كمياتها كبيرة. الأمر الذي حصل في الزمن الغابر العائد للحقب الرابع الجيولوجي أي قبل 2.5 مليون سنة. ففي الفترتين المعروفتين بـ :
1- فترة (الرِّس Riss) التي بدأت قبل 480.000 سنة، وأواسط الزمن الرابع المقابلة للعصر الحجري القديم الأدنى ، امتلأ الحوض بمياه بحيرة كبيرة غمرت أغلب أجزاء الحوض، بحيث وصل مستوى ىسطح المياه فيها إلى ارتفاع 700-735 م فوق مستوى سطح البحرالمتوسط الحالي. ففي هذه الفترة تميز شرق البحر المتوسط بمناخ رطب غزير الأمطار مع درجات حرارة منخفضة حتى معتدلة بل ودافئة أحياناً. اعقبتها ظروف مال فيها المناخ نحو الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وزيادة التبخر مع تراجع صبيب الأنهار والسيول، مما أدى إلى تقلص حجم البحيرة وانكماشها وتراجع ضفافها باتجاه وسط وشرقي حوض دمشق. وتحول فيها أرض البحيرة السابقة إلى الكثير من البحيرات الصغيرة والجزر الواطئة المنتشرة في أنحائها.
2- وفترة )الفورم Wuerm ) التي بدأت قبل 20.000- 22.000 سنة وتشكلت فيها بحيرة أصغر احتلت الجزء الشرقي الأخفض في حوض دمشق، والي تتماشى حدودها مع حدود كورة المرج شرق الغوطة. إذ عاد المناخ في هذه الفترة ليصبح بارداً ورطباً ومطيراً بدرجات أقل مما كان عليه الحال في فترة الرِّس، كما تخللته فترات ارتفعت فيها الحرارة.
3- بعدها ومنذ نحو 10.000 سنة وحتى اليوم (الفترة المعروفة بـ : الهولوسين) مال المناخ إلى الجفاف مع المرور بفترات مناخية أرطب وأقل حرارة وأكثر أمطاراً نسبياً خاصة بين 3000-8000 سنة مضت واستمرت إلى اليوم. وكانت المحصلة زوال بحيرة دمشق وتحول بقاياها إلى مجرد مستنقع ضحل مساحته 5 -6 كم مربع ندعوه ببحيرة العتيبة تجاوزاً، يمتلئ بمياه نهر بردى في السنين المطيرة.
كانت نتيجة الأوضاع المذكورة أن امتلأ الحوض بترسبات بحيرية بلغت سماكتها نحو 400 م يغلب عليها الكلس البحيري وتربته القليلة الخصوبة في كورة المرج. ومع تراجع ضفاف بحيرة دمشق جرت مياه الأنهار والسيول القادمة من المرتفعات على سطح المساحات التي انكشفت، فوضعت عليها المجروفات والترسبات النهرية اللحقية مشكلة تربة غوطة دمشق الخصبة والتي قامت عليها مدينة دمشق.
ولما كانت طبوغرافية السطح على الرغم من انبساطها العام متموجة وتفتقر إلى الاستواء الصرف ظهرت على سطح الحوض ربوات وعلوات قليلة االارتفاع، منها موقع مدينة دمشق الأول الذي قام على ربوة (تل السماكة) بين حي مادنة الشحم وحي الخراب على الجانب الأيمن (الجنوبي) من نهر بردى (5 – 6 أمتار فوق المستوى العام لأرض دمشق)، كما أقيمت قلعة دمشق (في العهد الروماني ؟؟؟) على حافة الربوة الشمالية وامتدادها لتبقى بمنجاة من فيضانات نهر بردى، إذ من المعلوم أن قياس ارتفاع مياه بردى في العهد العثماني كان يعرف بزيادتها حتى (تحت القلعة) كما يذكر الحلاق البديري(وفي تاسع جمادى ﺍﻷﻭﱃ 1168 هـ.ﻣﻦ نهار ﺍﻟﺜﻼﺛﺎﺀ ﻧﺰﻝ ﻣﻄﺮ ﻋﻈﻴﻢ ﻭﺛﻠﺞ ﺟﺴﻴﻢ، ﻓﺰﺍﺩﺕ المياه حتى ﻃﺎﻑ نهر ﺑﺮﺩﻯ، ﻭﻭﺻﻠﺖ ﺍﻟﺰﻳﺎﺩﺓ إلى تحت ﺍﻟﻘﻠﻌﺔ)، التي ندر ان غمرتها مياه فيضان النهر.
كذلك استفاد الإعمار القديم لحوض دمشق من العديد من الروابي التي أصبحت تلالاً صنعية بتكدس بقايا وآثار التجمعات السكانية مثل تلال الغريفة و فرزات والسكا والخزامي تل أسود وتل الرماد وغيره. وما كان للإعمار أن ينتشر في حوض دمشق في ظروف الأوضاع المناخية المتأخرة لولا وجود نهري بردى والأعوج والينابيع المتفرقة التي ساعدت مياهها على ممارسة الزراعة وتربية الحيوان و انتشار العمران، ولولاها لكان الحوض جزءاً من البادية السورية، إذ يقل المتوسط السنوي لأمطار الحوض عن 250 ملم ، وهو الحد الفاصل بين الرزاعة البعلية والمروية في المنطقة.