مسجد التكية السليمانية 966هـ/1559م
تاريخه: تُعتبر التكية والمدرسة السليمانية من الأوابد الضخمة في دمشق، وتتميز بالتصميم المتناظر الذي ساد أيام المعمار سنان آغا والمتأثر بأسلوب التخطيط الفارسي. على الرغم من أن الكثير من الباحثين جاؤوا بأن المعمار سنان (1489-1588م) هو الذي قام ببناء التكية، إلا أنه بالرجوع إلى المصادر لا يوجد ما يثبت بأن المعمار سنان رافق السلطان سليمان القانوني بزيارته إلى دمشق، ويذهب الباحثان الألمان واتسينجر وولتسينجر بأن المهندس الرئيسي للتكية والمدرسة السليمانية هو ملّا آغا الإيراني الأصل وكان يناوبه من حين لآخر مراقبو بناء من الأتراك[4]موقعه: يقع جامع التكية السليمانية ضمن مجموعة عمرانية ضخمة على الجهة اليمنى من ضفاف نهر بردى، تلفت الأنظار بقبابها العديدة المنتظمة كالعقد حول قبة رئيسية كبيرة يحيط بها مئذنتان ممشوقتان ترتفعان في السماء. بُنيت هذه المنشأة العثمانية على أنقاض القصر الأبلق[2] وحلّت محله وذلك في عهد السلطان سليمان القانوني[3].
كان هناك عدة أسباب لبناء التكية السليمانية أهمها هو جعلها محطة لحجاج مكة من الأتراك ومكاناً لإقامة طلبة العلوم الدينية وبناءً على ذلك لم يكن الجامع وحده يكفي لتحقيق تلك الغاية، ونتيجة لذلك وضعت البوابتان الرئيسيتان في المحور الشرقي-الغربي كيفما يتفق مع اتجاه طريق الحج[5]؛ نالت التكية اهتماماً بالغاً من قبل الرحالة المستشرقين الذين وثقوها كتابةً ورسماً، فهذا الرحالة الألماني سيتزن [6]Seetzen (1767-1811م) يصفها قائلاً: “ذهبت إلى ما يسمى بالتكية التي يعتقد أن بانيها السلطان سليم، وتقع خارج المدينة فيما يسمى بالمرج، الذي يجري فيه نهر بردى، تتكون التكية من جزأين كبيرين مختلفين بالحجم يحيط بهما رواق من الجانبين وفي الجزء الأكبر هناك مسجد فخم وبركة ماء كبيرة، مبلط بالمرمر والرخام، وبهذا الجزء أيضاً صفان من القباب يؤلف أحد الصفين سقف المبنى والآخر سقف الرواق ويكسوهما من الخارج الرصاص، وهناك مطبخ كبير يعد فيه لطعام يومياً“.وهناك الرحالة كريمر Kremer الذي يصف التكية قائلاً: “البناء مربع ذو سور عال وفي الداخل هناك مدخلان على جانبي المبنى مقابل بعضهم البعض، ذات أبواب عالية وأبواب حديدية ثقيلة، الساحة الداخلية التي يحويها المسجد تحتوي على قبة جميلة ذات طابع وزخرفة عثمانية“.
كما زار الرحالة والرسام الإنكليزي وليام هنري بارتلت(1809-1854م) دمشق، ورسم عدداً من المناظر الطبيعة. ومن بين رسوماته الشهيرة لمدينة دمشق، صورة بعنوان “نهر بردى”. تبين الصورة التكية السليمانية على اليمين، يقع على الضفة الجنوبية لنهر بردى ضمن مشهد طبيعي خلاب. وبالمقابل على يسار الصورة، هناك ما كان يدعى بمتنزه الشرف. كما تظهر صورة بارتلت رتلاً طويلاً من الخيم الممتدة على الضفة الشمالية للنهر مقابل التكية. وفي مقدمة اللوحة يظهر بارتلت بعضاً من الفعاليات الحياتية: رجالٌ جالسون تحت الخيمة، وآخرون واقفون يتحدثون على ضفاف النهر، وأحدهم يقطع النهر الضحل بهدوء على ظهر حصانه، بالإضافة إلى جِمالٍ ترعى بحرية على ضفاف النهر، كلها تفاصيل توحي بالهدوء والاستراحة والهناء.
عمارته: بنيت التكية السليمانية على نمط العمارة العثمانية في اسطنبول، وتشغل مساحة قدرها 86×127م. كانت التكية محاطة بسور حجري وإلى الغرب منه هناك مساحة واسعة كانت تستخدم لنصب خيام الحجاج، يتخلل السور الحجري ثلاث أبواب رئيسية أحدهما في الشمال والثاني في الشرق والثالث في الغرب. أما الجهة الجنوبية فتحوي مقبرة دفن فيها عدد من الأمراء العثمانيين. أهم ما يميز التكية وجود حديقة محاطة بأروقة وغرف مسقوفة بالقباب، وقد جرى توزيع الأعمدة في الرواقين على أساس أن كل قبتين صغيرتين من قباب الرواق تقابل قبة كبيرة من قباب الغرف الكامنة خلفها، وكذلك تظهر بين كل غرفتين مقببتين مدخنة شاقولية، وبذلك يكون في كل غرفة مدفأة على جدارها الجنوبي فضلاً عن وجود باب ونافذة تطل على الصحن ونافذتين تطلان على الحزام الشيق للحديقة المحيطة بالتكية.
وفي المنتصف يوجد بحرة حجرية عظيمة مستطيلة الشكل، أما المحور الذي يمتد بين البابين الشرقي والغربي يقسم التكية إلى قسمين غير متساويين، قسم جنوبي فيه الجامع وست غرف متساوية الحجم تقعان على شرق وغرب البحرة ويتقدمها رواق يفصل بينها وبين الحديقة، والقسم الآخر شمالي يحتوي على مطبخ تعلوه أربع قباب ومستودعات في الوسط وقاعتين كبيرتين على الطرفين الشرقي والغربي.
رغم طابع البساطة المسيطر على عمارة التكية السليمانية وفقرها بالزخارف، إلا أن تناوب اللونين الأبيض والأسود في أروقتها، ووجود المقرنصات على واجهة جامعها، وانتشار لوحات القيشاني فوق عتبات قاعاتها، كل هذا لعب دوراً هاماً في تصعيد الحيوية اللونية للبناء[7]. وأكثر ما يميز لوحات القيشاني هو تشابك سعف النخيل مع الأوراق الرمحية التي تلتف حول الرأس والحافة، بالإضافة إلى وجود الحديقة التي ساعدت وبشكل كبير في إغناء المنظر العام للتكية السليمانية.
مسجد التكية السليمانية: يتألف المسجد من طابق أرضي مربع الشكل طول ضلعه 16م، مع سدة صغيرة في الزاوية الشمالية الغربية وشرفة صغيرة تقع في منتصف الجدار الشمالي فوق الباب الرئيسي من الداخل. واجهة المسجد من المداميك الأبيض والأسود المتناوب مع زخرفة من الرخام والقاشاني في الواجهة الشمالية، حيث مدخل المسجد المحلّى بالمقرنصات؛ والساكف الحجري فوق باب جامع مكتوب عليه باللغة العثمانية:
يحد الجامع من الخارج من الجهة الشمالية رواق مزدوج محمول على صفين من الأعمدة، الجزء الأول منه مغطى بثلاث قبب أما الجزء الآخر الذي يتقدم الأول فمغطى بسقف مائل من الخشب المعالج بصفائح الرصاص؛ أعمدة الرواق الداخلية تحمل أقواساً مدببة وتتألف من جذع رخامي وتاج نحت على شكل مقرنصات بينما قاعدة العمود فهي من الصخر البازلتي الأسود.
أما أعمدة الرواق الخارجية فهي بدورها تحمل أقواساً مدببة أقل ارتفاعاً تتناوب في تشكيلها أحجار سوداء وبيضاء وتتألف الأعمدة من جزع العمود الرخامي وقاعدة من الرخام الأبيض، أما التاج فنحت على أشكال معينات هندسية من حجر رمادي فاتح مائل إلى الحمرة؛ ويغطي المسجد قبة كبيرة يتراوح قطرها حوالي 14 متراً وترتفع على عقود تشكل رقبة الحاملة لها، والمؤلفة من عدد من النوافذ ذات الزجاج المعشق و حٌمل القبة أربعة أقواس محمولة على أركان الجدران في زواياها مثلثات كروية ويعلو جدران الحرم نوافذ كانت محلاة بالمعشق.
مئذنته: هما مئذنتان متشابهتان ترتفعان فوق جمع التكية السليمانية، تعتبر هاتان
المئذنتان بداية الانحراف عن طراز المآذن الدمشقية في العصرين الأيوبي والمملوكي، وذلك عن طريق إدخال نمط المآذن العثمانية الذي كان سائداً في اسطنبول. تتميز مئذنتا التكية السليمانية بنحول الجذع وبكثرة أضلاعه بشكل يصبح معها أقرب إلى الدائرة، كما تتميز بارتفاعهما مقارنة بالمآذن الدمشقية الأخرى، وأهم ما يميزهما القلنسوة المخروطية ذات الرأس المؤنف. قام فتحي أفندي الدفتردار بتجديد المئذنتين في منتصف القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلاجي، وفي سنة 1928م حدث زلزال أدى إلى ظهور ميل قليل في المئذنة الغربية مع ظهور تشققات من جهات متعددة، ثم استمر الميل حتى بلغ مقدار 25سم مما اضطر دائرة الأوقاف الإسلامية إلى هدمها وإعادة عمارتها من جديد كما كانت عليه في السابق[8].
[1] الشهابي، قتيبة. (1993). مآذن دمشق. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، ص231.
[2] أطلق على هذا القصر اسم القصر الظاهري وقصر السلطان، بناه السلطان الظاهر بيبرس في بداية العهد المملوكي في موقع المرج والميدان الأخضر على ضفة نهر بردى اليمنى. بينه وبين فرعه بانياس. وفي تاريخ بنائه يقول ابن طولون: “وهو إنشاء الملك الظاهر ركن الدين عقب رجوعه من حجته في المحرم سنة ثماني وستين وستمائة وكذلك رأيت هذا التاريخ على بابه الشمالي وعلى أسكفته مكتوب: عمل ابراهيم بن غنائم المهندس”. وكان الظاهر بيبرس حين قدومه إلى دمشق ينزل تارة في قلعة دمشق وتارة في القصر الأبلق وقد حدثت وفاته في هذا القصر في يوم الخميس الثامن والعشرين من المحرم سنة 676هـ/1277م ونقل جثمانه إلى القلعة ودفن فيها إلى أن أنجز بناء تربته في المدرسة الظاهرية فنقل إليها. وظل هذا القصر في البدء خاصاً بسلاطين المماليك ينزلون فيه لدى حضورهم إلى دمشق. روى ابن العماد لأن تيمورلنك حين احتل دمشق نزل بالقصر الأبلق وروى الغزي أن السلطان سليم حين دخل دمشق سنة 922هـ نزل فيه أيضاً مما يدل على أن القصر ظل مستخدماً إلى العهد العثماني وكذلك ظلت المحلة التي أعمرت حوله وشيدت فيها مباني الأمراء والمؤسسات العامة آنذاك تدعى حارة القصر إلى وقت متأخر من العهد العثماني. (انظر: الريحاوي، عبد القادر. (2005). روائع التراث الدمشقي. دمشق: التكوين للطباعة والنشر، ص95)
[3] سليمان بن سليم بن بيازيد عين الملوك العثمانية ورأس السلاطين الإسلامية، ملك القسطنطينية العظمى، تولى السلطنة بعد موت أبيه السلطان سليم في أواخر سنة ست وعشرين وتسعمائة. كان ملكاً مطاعاً مجاهداً يحب العلم والعلماء ويقف عند الشرع الشريف. (انظر: الغزي، الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، ج2، ص139)
[4] ولتسينجر، كارل. واتسينجر، كارل. الآثار الإسلامية في مدينة دمشق. ، ص215.
[5] ولتسينجر، كارل. واتسينجر، كارل. الآثار الإسلامية في مدينة دمشق. ص217.
[6] الرحالة Seetzen, Ulrich الذي زار دمشق بين 1803-1805 ليتعلم اللغة العربية
[7] الريحاوي، عبد القادر. (2005). روائع التراث الدمشقي. دمشق: التكوين للطباعة والنشر، ص69
[8] الشهابي، قتيبة. (1993). مآذن دمشق. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، ص231.