من الصحافة
صبحي العمري ومعركة الطفيلة 1917
حاولت الدعاية الاعلامية البريطانية المتفوقة سرقة بطولة العمري وتسويقها على أنها للورانس. لكن معركة تحرير الطفيلة الخالدة بشهدائها وشهيداتها كانت أعظم من التشويه وظل اسم العمري محفوظاً لدى الأجيال بالطفيلة ومرتبطاً بالمعركة رقم 19 حجماً من معارك الحرب العالمية الأولى. حيث أدار العمري بشكل ميداني تغلب أهالي وفرسان الطفيلة والعشائر الأردنية المجاورة بالشجاعة على تسليح العثمانيين وخبرات حلفائهم الألمان والنمساويين. الجندي المستنير الذي تاب عن جيش الاحتلال العثماني وساهم بتحرير الأردن منه قبل أن يقوم بالمساهمة بتحرير البلدان المجاورة. شكل مع باقي الأبطال نواة القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي. وكان من النادرين الذين خدموا جندياً محنكاً في الحجاز والأردن والعراق وسوريا واكتسب عداوة الانجليز والفرنسيين.
ولد صبحي العمري سنة 1898 ابناً باراً لأبيه الشيخ أحمد العمري الذي عيِن قاضيا للشرع بدمشق في العهد العثماني والفيصلي.
تلقى علومه الابتدائية في مدارس الحكومة بدمشق حيث عمل والده والتي كانت مخصصة لكبار الموظفين بينما يعيش غالب الشعب بلا تعليم، أما دراسته المتوسطة فقد كانت في المدارس العسكرية، وعند اعلان الحرب العالمية الاولى فرضت الخدمة الاجبارية وتم الحاقه بمدرسة صف الضباط في بيروت وتخرج منها في العام التالي 1915. وفي عام 1916 نقل الى عين كارم قريبا من مدينة القدس والتحق بمركز التدريب على استعمال الرشاش، وكان هذا المركز تديره القوات الألمانية والنمساوية حليفة الاحتلال التركي.
بعد انتهاء الدورة التدريبية نقل الى احدى مفارز الفرقة 27 واشترك مرغماً في معارك غزة وبئر السبع والحفير، ورفِع الى رتبة ضابط ومنح الميدالية الحربية الثانية والمدالية الحربية النمساوية، وأهم هـــذه الأوسمة الصليب الحديدي الألماني الذي لا يمنح إلا لمن يقومون بأعمال حربية تدل على بسالة غير عادية في ميدان القتال، بترشيح من قائد اللواء العثماني الذي كان يخدم فيه وهـــو ألماني يدعى كولونيل تيلر.
وكان العمري مقتنعاً بضرورة الاستقلال وارجاع حكم البلاد الى أهاليها، وقد انتقل ذلك إليه من أبيه الذي كان كما كل الأحرار يتوق للحظة الاستقلال عن الاحتلال العثماني الذي ما نتج عنه الا التخلف والاضطهاد والظلم وقمع كل الثورات الصغرى وسرقة خيرات لكي تصرف على بذخ حرملك السلاطين في استنبول.
جاء في مذكراته المخطوطة عن الدوافع التي كانت وراء التحاقه بقوات الثورة قوله : ” لقد تركت الجيش التركي، لا عن فكرة او حماس طارئين، بل نتيجة لأفكار وحوادث وأمور ظلت تتجمع وتتفاعل في نفسي طيلة سنين. لقد رأيت بعيني حالة البؤس والشقاء الذي كان يعانيه أبناء قومي، وشاهدت الاعدامات بالعشرات، وقرأت في عيــون القوم كراهية لنا وبغضاء، جئت ناقما متحمسا للإشتراك في انقاذ أبناء أمتي من الظلم والذل واستعمار الاتراك “
لذا وفي لحظة اعلان الثورة العربية عام ١٩١٦ ترك العمري جبهة غزة وقرر التطوع والالتحاق بجيوش الثورة العربية الكبرى لكن قراراً كهذا له تبعاته. وهكذا ترى العمري يحصل على إجازة ويعود لأخذ رأي أبيه فيما عقد العزم عليه كما تقتضي العادات الأصيلة بمشاورة الأكبر بكل عائلة وعشيرة. فما كان من أبيه الرجل العادل والحر الا أن يشجعه ويبارك خطوتـــه رغم علمه بامكانية استشهاد ابنه وما سيتحمله هو وباقي أفراد عائلته نتيجة لذلك حيث عرف عند العثمانيين الانتقام الجماعي من عشائر وعائلات فرسان الثورات الصغرى وهذا ما سيكون حتمي على جنود الثورة الكبرى. والواقع أن الأتراك عندما اكتشفوا ما حدث، سارعوا واعتقلوا الأب الشيخ وألقوا به في السجن كرهينة ثم أرسلوه الى المنفى في أوكار التعذيب بالأناضول، ولكنه فر من أيدي الحرس في الطريق بمعاونة من فرسان الدروز وظل يقيم متخفيا مع قبائل أردنية بدوية (يظن أنها من السرحان أو الرولة بحسب الوصف الجغرافي) حتى الاستقلال عن الاحتلال العثماني.
أما العمري الابن فقد سعى حتى تم نقله الى مفرزة الشوبك قريباً من سجن معان سيئ الذكر، حيث كانت للترك مفرزة قـوية في الشوبك يشرف بها مهندسين ألمان على قطع الأشجار الحرجية في الأردن من غابة الهيشة – من أجل تشغيل واستكمال بناء سكة حديد القطار العسكري- وشحنها بالقطارات على خط فرعي تم انشاؤه لهذه الغاية.
وفي شهر أيلول 1917 عندما وصلت أنباء تحرير العقبة واستسلام قوات الاحتلال العثماني وحلفائهم من الألمان والنمساويين، استغل العمري حالة الذعر في صفوف العثمانيين والمهندسين الألمان فغادر حامية تقطيع الأشجار للقطار العسكري متخفيًا واتجه الى العقبة المركز العام لجيش الثورة، وتم استقباله في العقبة وعين برتبة ملازم ثاني آمر لسرية رشاش اللواء الهاشمي و كان أول ضابط نظامي يلتحق بجيش الثورة في الأردن و أصغر الضباط سنا.
شجاعته و حنكته العسكرية
لعب صبحي العمري دوراً رئيسياً في معركة الطفيلة التي أبيدت نتيجة لها قوة الاحتلال التي يرأسها حامد فخري ومستشاريه الألمان. وكانت قوات الثورة بقيادة الشريف ناصر بن علي قد زحفت في منتصف شهر كانون الثاني 1918 فاستولت على محطة جرف الدراويش و طهرتها، ثم اتجهت غرباً الى الطفيلة وقامت بتحريرها. وحاول الأتراك وحلفائهم الألمان والنماسويون اعادة احتلال الطفيلة، فأعدوا في عمان حملة قوية قوامها ألف مقاتل بقيادة الاميرالاي حامد فخري تساندها المدافع والرشاشات والطائرات الألمانية، وزحفت القوة من عمان الى الكرك ثم اجتازت وادي الحسا وبلغت السهل الذي يشرف على الطفيلة من ناحية الشمال صباح يوم 25 كانون الثاني 1918. أما قوات الثورة التي كانت في الطفية بقيادة الأمير زيد بن الحسين فلم تكن تزيد على ستين رجلا من النظاميين هم جنود مفرزة الرشاشات الأربع بقيادة صبحي العمري، وجنود المدفعيين الجبليين الذين لم يكن مع كل منهما سوى ثماني طلقات واثني عشر خيالا من فرسان عشائر الطفيلة وتسليحهم بنادق ملح البارود الأقل قوة، و كان يقود النظاميين الرئيس عبدالله الدليمي ومعه الرئيس راسم سردست.
أتى المدد من متطوعي العشائر الأردنية بحوالي مئتين من الهجانة وفرسان عشيرة الجازي من قبلية الحويطات بالاضافة لفرسان عشائر الطفيلة، بادر أهالي الطفيلة بشكل فطري للاصطدام بقوة الحتلال التركي ومشاغلتها بالسلاح الأبيض والحجارة، ثم أرسل الأمير زيــد مفرزة الخيالة بقيادة عبدالله الدليمي مع مدفع ورشاشين فأخذ هؤلاء يناوشون قوات الاحتلال العثماني من الأتراك والألمان والنمساويين.
ورويدا رويدا تكاثر أهالي الطفيلة واجتمعوا للالتحام بالمعركة وعلى رأسهم الشيخ ذياب العوران وجاء الأمير زيد ببقيه قوته الى ميدان المعركة وأبدى العثمانيين تردداً في زحفهم نتيجة الروح القتالية الملموسة لدى أبناء الطفيلة. في هذه الأثناء وصل حوالي 150 رجلاً من قرية عيمة الأبعد عن أهالي مركز الطفيلة ومعهم أبناء القرى المجاورة لها وتمركزوا في مواجهة ميمنة العدو، وظلت المعركة غير محسومة حتى العصر عندما حدث تطور مفاجيء وحاسم.
ذلك أن صبحي العمرى شاهد أهـل عيمة فتعاون مع جنوده على حمل الرشاشين الى حيث كانوا يقفون، مخترقاً منطقة خطرة تحت نيران العدو، ثم فاجـأ العدو بطلقات الرشاشين فاضطربت ميسرة قوات الاحتلال العثماني، وقامت عشائر الطفيلة أثناء ذالك بهجمة قوية مفاجئة وهم يهللون و يكبرون، فانفرط عقد الكتائب التركية ورؤساهم من الضباط الألمان والنمساويين بصورة غريبة غير متوقعة وأركن معظمهم الى الفرار، بينما أطبقت قوات العشائر الأردنية عليهم من المقدمة ومن الميسرة.
من هذا نرى أن الفضل الذي اختص الكولونيل لورنس نفسه به أنه قاد معركة الطفيلة وفقا للقواعد الكلاسيكية وأنه دفع قوات الثورة الى القتال وألحق الهزيمه بجيش الاحتلال العثماني انما هو في الواقع فضل قوات العشائر الأردنية وبحنكة وتدبير صبحي العمري الذي كافأه الأمير فيصل بترقيته الى رتبة ملازم أول ( ترفيع ميداني). أما الأمير زيد الذي أشرف على سير المعركة فقد كافأه بألفي جنيه نقداً (كانت ستدفع للحصول على ما يعادله من المدافع والرشاشات والذخيرة التي حررت بمعركة الطفيل من الأتراك) ليقوم هو بتوزيعها على الجنود النظاميين رفاقه في السلاح.
واستبسل بعدها صبحي العمري على رأس سرية الرشاشات، في الحملة التي شنها جيش الثورة في شهر أيلول 1918 وحطم خلالها مواصلات الأتراك الخلفية حول درعا، كانت العمليات التي أنجزها العرب خـلال تلك الحملة تتويجاً لكفاحهم الدامي ضد الاحتلال التركي، وقد حققوا فيها انتصارات باهرة. وفي هذه العمليات، أبدى صبحي العمري من الجرأة والاقدام ما أكسبه تقدير الأمير فيصل فأمر بترقيته الى رتبة رئيس.
استطاع العمري ان يكسب ثقة الأمير فيصل وكبار القادة العرب بمـا أبدى خلال الحرب من بسالة ونشاط، فعين مرافقاً للشريف ناصر بن علي ضمن المرافقين في الديوان الهاشمي، وعندما تبددت أطماع الفرنسيين، كلفه الأمير فيصل ان يترك الخدمة العسكرية في الجيش النظامي ويشارك في تشكيل قوات العمليات الخاصة ضمن استراتيجية “حرب العصابات” التي أخذت تنازل القوات الفرنسية.
وبقي العمري مع الشريف ناصر حتى استدعاهما الملك حسين بن علي لموافاته في مكة المكرمة، وهناك أقام بعض الوقت ومنحه الملك وساماً ورفّع رتبته العسكرية، ثم طلبه الأمير على بن الحسين أمير المدينة المنورة حينذاك كي يعمل على تشكيل لواء هجانة نظامي، ولكن أنباء قيام الأمير عبدالله بإنشاء امارة شرق الاردن فتحت له باب الأمل من جديد، فغادر الحجاز الى عمّان.
ولكن العرب لم يكونوا قد فرغوا من ثوراتهم في في سبيل الاستقلال، ففي عام ١٩٢٥ اندلعت الثورة السورية ضد الفرنسيين، فانتدبه الملك فيصل للسفر الى دمشق للوقوف على حقيقة الوضع، وفطن الفرنسيون له فاعتقلوه أسبوعين ثم أعادوه الى العراق، وقدم طلبا بالاستقالة فرفض طلبه، وبعـد الحاح منه حصل على إجازة لمدة ثلاثة أشهر منحها له رئيس الاركان نوري السعيد يومذاك، فجاء الى الإمارة الأردنية وجهز نفسه ثم انتقل الى وادي الشلالة حيث ألف قوة من الثوار الأردنيين تضم حوالي اربعين ثائراً (عرف بعضهم من قبيلة بني حسن الأردنية) وسار على رأسهم الى جبال الدروز والغوطة.
تفرد صبحي العمري في جيش الثورة بالأردن بأنه ضابط رشاش ممتاز، ولكنه في الجيش العراقي تحول للخدمة في سلاح الفرسان فنال قصب السبق بين زملائه وأصبح لاعب بولو ممتاز. وهو يفاخر بأن جميع الأوسمة التي منحت له انما كانت تقديراً لخدماته في ميادين القتال.
في وصف صبحي العمري
اذا أردنا أن نصف العمري، قلنا أنه رجل ضخم المنكبين حسن الطلعة قوي البنية معتدل القامة، يبدو أصغر من سنه الحقيقي بعشر سنوات. والذي يلتقي به دون معرفة سابقة لا يمكن أن يلاحظ في ملامح وجهه الهادئة أثر من آثار المعارك العديدة التي خاضها في ميادين القتال أو الاشهر والسنين التى قضاها بين معتقل وسجن ومنفى.
أما الصفقة الغالبة في حياة العمري فهي عدم الاستقرار ومجابهة الاحداث الشاقة والمهام العسيرة. بل هي أكثر من هـذا اذا توخينا الدقة والانصاف . . . لقد توزعت حياته بين الخدمة الإجبارية في جيش الاحتلال العثماني إبان الحرب ثم التوبة عنه والاشتراك في معارك الثورة العربية الكبرى من الشوبك حتى شمالي حلب، ثم الخدمة في الجيش الأردني والاشتراك في اخماد عدد من حوادث العصيان والفوز بكراهية الانجليز حتى أمكن لهم اخراجه من الجيش ومن الأردن كلها، ثم الخدمة في الجيش العراقي ثم المعتقل والسجن والمنفى، فكانت حياة حافلة بالألم والقسوة والدماء والدموع .
وتبقى سيرة هذا البطل عاطرة بأمثولات التضحية والفداء، حياة عريضة فيها الألم والشقاء والمتاعب وهي مع ذلك تتضح بروائح الوطن وأنفاس الشهداء. لقد أدى العمري واجبه كاملاً لوطنه حتى وفاته في عام 1973، و في هذه الأيام نجد عزاء في سيرة أحد أبطال الثورة، كرس حياته لمقاتلة المستعمرين برصاص البنادق دون شقشقة اللسان.