من الصحافة
الدمشقي العتيق… أحمد السمان
من أقدم عاصمة عرفها التاريخ.. مملكة الياسمين، وسنديانة الأساطير أشرق ضياء لوسيم ذي عينين بنيتين يأنس لظرافته وحذاقته وخفة ظله..
عاش في أحضان بيت من بيوت الشام العتيقة التي عانقتها أشجار الياسمين و«الكباد» في حي مئذنة الشحم قلب دمشق العريقة. إنه أحمد عبد العزيز السمان مواليد 1907 عرف بأنه المثقف وأستاذ القانون والإداري والسياسي والوزير.. زوجته الأديبة سلمى رويحة التي غادرت الحياة مبكراً، وابنته الأستاذة الأديبة غادة السمان… رحلته مع الزمن حافلة بالتحديات، فقد خاض محنة الانتداب الفرنسي، وساهم في نيل سوريا للاستقلال من خلال انضمامه إلى «الكتلة الوطنية»، وعضويته في أهم المنظمات الشبابية المدافعة عن حقوق سوريا، التي أطلقت على نفسها «القمصان الحديدية» تميز الشباب الأعضاء بارتدائهم قمصان ذات لون رمادي في إشارة إلى الوحدة والانضباط، ودلاله على القوة ضد الانتداب الفرنسي، وبعد الاستقلال كان له الدور الريادي في تأسيس الجامعة السورية، التي تعرف اليوم بجامعة دمشق، ومن ثم أصبح رئيساً لها، وبعد ذلك تقلد منصب وزير التعليم في مطلع الستينيات من القرن الماضي.
لأحمد السمان مؤلفات عديدة منها: كتاب «موجز الاقتصاد السياسي» في ثلاثة أجزاء، و«الوقائع والنظريات الاقتصادية في العصرالحديث»، وله أبحاث ومقالات ودراسات عديدة منها دراسة «تعريف ونقد» وقد حملت توقيعه عن كتاب «دواوين القوانين» لمؤلفه الأسعد ابن مماتي الوزير الأيوبي الذي يؤرخ للنظم الإدارية والمالية والزراعية لمصر في القرن الهجري السادس، وقد نشرت في المجمع العلمي العربي العدد الرابع عام 1953. ونشر المجمع العلمي في العدد الثاني عام 1954 دراسة أخرى عن كتاب «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من آثار» لمؤلفه محمد بن عبد الله بن بلهيد النجدي، وقام الدكتور أحمد السمان بتقديم دراسة ملخصة عن هذا السفر المكثف ـ ما وصفه، وحملت الدراسة في طياتها (الأخبار الأدبية، اندراس المدن القديمة، أيام العرب، الحياة الاجتماعية والاقتصادية، الشعر النبطي، منازل القبائل العربية..)
وكتب مقالات في مجلة «الآداب» اللبنانية، التي كان يرأس تحريرها سهيل إدريس، ففي العدد الرابع ـ أبريل/ نيسان عام 1956 نشر مقاله تحمل عنوان «ماذا أعددنا للمعركة» وجاء فيها «ما أحسب سياستنا جميعا تغيرت منذ وجدت إسرائيل، أو حسبت لهذه الدولة حساباً، وإنما أعلم المصير القاتم الذي ينتظر قدر الفخار، حين يصطدم بقدر الحديد، كما أعلم المصير الذي ينتظر اقتصاد الترف وحياة الترف، حين يصطدم باقتصاد الحرب، وحياة الحرب، الويل يومئذ للمغلوب».
رغم أنه وصف بالبورجوازية كونه تسنم مناصب مهمة فكان عميد كلية الحقوق.. رئيس جامعة.. وزيرا، إلا أنه ظل ابن ذلك الحي العتيق في دمشق دائم الانتماء للبسطاء الذين كبر بينهم يوم كانت والدته تعمل في الخياطة، وهو مؤذن في جامع الخضيرية في حي الشاغور الشامي. حين غادر تلك الأحياء إلى ساحة النجمة ثم سفره إلى بيروت وفرنسا والعراق والسعودية، كان الحنين يعيده من جديد إلى سوريا فيقابل كل تلك الوجوه التي كبرت وشابت إلا على المحبة، وفي إحدى الروايات التي حكاها صباح قباني في كتابه «من أوراق العمر» حيث يذكر «في أحد أزقة الحارات الدمشقية التقى بعد طول غياب بائعاً جوالاً عجوزاً كان يعرفه من أيام الصبا. فتهلل وجه العجوز لرؤيته، وأوقف عربته الخشبية الصغيرة التي عليها بضاعته القليلة وحيّا ابن الحي القديم، وأراد أن يستفهم منه عن العمل الذي يمارسه فسأله باللهجة الشعبية الممطوطة: «قل لي أين تشتغل بها الأيام يا أبو حميد؟ وخشي أحمد السمان أن يقول إنه يعمل (عميداً لكلية الحقوق) فيظن الرجل أنها مهنة لا تليق به فما كان منه إلا أن سارع يجيب بدماثته الأصيلة على استفهام البائع العجوز:» اشتغل بالسرايا يا خال!». فسعد الرجل بهذا الخبر وبأن ابن حارته العزيز يعمل في وظيفة محترمة، فودعه ومضى يدفع عربته وهو ينادي على بضاعته بنبرة جذلى بعد أن اطمأن إلى شغل أحمد السمان!».
السمان من عشاق الموسيقى، ولديه موعد أسبوعي مع صوت أم كلثوم ليلة إذاعة حفلتها على المذياع، ويرغم الجميع على الاستماع، وكان مؤمنا بالمساواة بين الذكر والأنثى فعلم ابنته غادة وأخاها سلمان السباحة وركوب الخيل والصيد، رغم اعتراض نساء الأسرة، وكان يحمل لابنته التي ستصبح أديبة كتبا يناقشها فيها، ومنها كتاب «وحدي مع الأيام» لفدوى طوقان.
وتتذكر ابنته غادة السمان فتقول: «والدي هو الشخصية الطاغية في طفولتي ومراهقتي الأولى، كان رجل علم قضى حياته في محراب الكتاب… عشق والدي للموسيقى منحني فرصة اكتشاف هذا العالم المذهل لبيتهوفن وباخ وموزارت وتشايكوفسكي وسواهم… تثقيف والدي لي كان شديد التنوع علمني الفرنسية أولا كي «ألثغ» كأبناء نهر السين ثم القرآن كي يستقيم لساني، وأغرقني بقراءات التراث العربي والشعر الإنكليزي» وتواصل في وصفها لوالدها («لقد ظل أبي دائما ذلك الرجل الفقير البسيط العاشق للموسيقى والفن، حتى بعد ان صار رئيساً للجامعة فوزيراً، ولا أذكر انه ركب سيارة الوزارة، بل كان يذهب إلى مقر عمله مشياً على الأقدام».
ما زالت حجارة وبيوت وياسمين حواري الشام تتذكره وتنقل سيرته جيلاً بعد جيل، إلا ان شخصية أحمد السمان لم تأخذ حقها في الدراسة والأبحاث والإعلام ولم يسلط الضوء على دوره في الاقتصاد والقانون والأدب والنضال كما يجب، وهو أستاذ لكثير ممن برزوا على الساحة السورية والعربية، نذكر منهم على سبيل المثال الأديب والوزير السعودي الراحل غازي القصيبي.
نتمنى أن تشهد الأيام والأعوام المقبلة تخليدا لأعمال وذكرى لقامات أشبه بشجر السنديان التي بنيت عليها الأوطان.