مختارات من الكتب
ميشيل عفلق : مأساة فلسطين وتعديل الدستور السوري عام 1947
مأساة فلسطين وتعديل الدستور السوري
لم تقتصر (1) مصادفات القدر على أنها جمعت في ظرف واحد بين حادثين خطيرين في حياة العرب هما مشروع تقسيم فلسطين ومشروع تعديل الدستور السوري، بل إن هذه المصادفات قد ذهبت إلى أبعد من ذلك فجعلت أمر وقوع هذين الخطرين على حرية فلسطين العربية وحرية الشعب العربي في سوريا معلقا على تصويت “أكثرية الثلثين” من أعضاء هيئة الأمم المتحدة، ومن أعضاء المجلس النيابي السوري. والواقع ان بين المأساتين اللتين تهيئان للعرب أكثر من وجه للشبه.
فالعرب قد نظروا بشيء من التفاؤل إلى هيئة الأمم المتحدة التي تأسست بعد الحرب للدفاع عن مبادئ الحق والعدل والسلام، فإذا بهذه الهيئة تتجاهل حقهم الصريح في أرضهم وارض أجدادهم وتزمع ان تهبها لشعب غريب ظالم باغ.
والعرب في سوريا قد نظروا إلى الاستقلال الذي انتزعوه من المستعمر بدمائهم وتضحياتهم العزيزة نظرة كلها الاستبشار والأمل، متوقعين ان يكون الاستقلال محققا للحرية التي حرمهم الأجنبي منها، وللعدالة التي احتجب نورها عن سمائهم زمناً طويلا.
ولكنهم فوجئوا غداة نيل الاستقلال بنوع من الضغط على الحرية والانحراف عن العدل لم يعهدوا جزءا منه أيام حكم المستعمر الأجنبي. وها هم اليوم يقلبون أنظارهم بين هيئة الأمم البعيدة وبين “الهيئة الوطنية” القريبة، مذكرين بالمبادئ والعهود، لعل في التذكير نفعا، ولكن أين المؤمنون!.
إن تاريخ الحركة الوطنية في سوريا لم يخلُ منذ بدئه من شوائب الاستغلال والاستئثار، ولكن ما آل إليه الأمر في هذه السنوات الأخيرة، بل في هذه الأيام الأخيرة، من طمع الأشخاص وجشعهم، ومن اشتداد وطأة الأنانية وتعريها من كل حجاب أو نقاب، كل ذلك يدفع الشعب إلى الأسف على أيام الحركة الوطنية الخوالي، بما حوته من هنات وسوءات، والى ذكر أشخاصها وزعمائها بالخير الكثير، لأنهم بالرغم من كل شيء لم يعدموا حسن التقدير والتقديس للقضية التي رفعوا لواءها، وللأمة التي أرادوا تمثيلها، وللدستور الذي جاهدوا للحصول عليه حتى وفقوا إلى وضعه كأمتن أساس لبلادهم وأعلى نبراس لجهادهم.
إن هذا الشعب الذي لن نمل من وصفه بأنه شعب عربي، لنذكر الحاكمين بطباعه وأخلاقه وتقاليده، قد يغتفر لرجال الحكم كثيرا من المساوئ، وقد يغضي عن السرقات والمحسوبيات والتصرفات النفعية ولو إلى حين، ولكن شيئا واحدا لا يستطيع شعبنا ان يطيقه أو يسكت عنه، خاصة وانه قريب العهد بالجهاد الوطني وما يوحيه الجهاد والوطنية من كرامة ووقار، وترفع عن الصغار، هو ان يرى الشخص ساعياً إلى المجد ـ وأي مجد زائف!ـ
بغير الأساليب المشروعة واللائقة، بدلا من ان يسعى المجد إليه من محض اختيار الناس وطوعهم، إن الشيء الذي لا يطيقه الشعب هو إن يرى في مطلع عهد الاستقلال والحرية ان الشخص إذا اؤتمن على سلطة عامة، لم يكن أهلا للائتمان فسخرها لنفسه وحصرها في شخصه.
ومما يزيد في استغراب الشعب واستنكاره انه لا يجد أي مبرر لتعديل للدستور هو بمثابة القضاء عليه، وان كل المبررات التي تحتج بها فئة التعديل باطلة. فالأضرار التي لحقت بالبلاد من جراء التصميم على تعديل الدستور، ابتداء من الانتخابات النيابية وما جرى فيها من تزوير فاضح شامل، حتى المضبطة (2) في جلسة المجلس النيابي الأخيرة، إنما هي مهزلة لها في حياتنا القومية أضرار بعيدة المدى، عميقة الأثر، لا تقل عن كارثة الغزو الأجنبي، لأنها في حقيقة الأمر تلغم الاستقلال وتصم الجمهورية وتهيء لضياعهما معا.
ولو ان اعلى المزايا اجتمعت في شخص من الأشخاص لما عادلت جزءا يسيرا من هذه الأضرار الأخلاقية والقومية التي جرها على البلاد حبه للتحكم وشهوته في السيطرة والاستئثار. فكيف بنا والحكم الذي يريدون تجديده وتخليده لم يكن سوى سلسلة من الفضائح والمظالم وأعمال التعسف والغش والفساد والإفقار!.
إننا إذ نتطلع في هذا الظرف بأنظارنا وقلوبنا إلى فلسطين المجاهدة المهددة. ونصمم على الاستماتة في سبيل حقنا الخالد فيها. ورد باطل المعتدين. لا ننسى ان قضية الحق واحدة وان حرية العرب لا تقبل التجزئة، فالشعب مصمم بنفس القوة على تثبيت حقه في الحرية والعيش الكريم، وتقديم البرهان للأمم المستخفة بحقوقنا، المتشككة في أخلاقنا ومثلنا على اننا ندفع العدوان من أية جهة أتى ولن يكون الدفاع عن دستور سوريا وإنقاذها من خطر الدكتاتورية اقل قدرا ونفعا وسمواً، في نظر المصلحة العربية العليا، من الدفاع عن عروبة فلسطين.
16تشرين الثاني 1947
(1) نشر في جريدة “البعث” في 16 تشرين الثاني 1947.
(2) وهي المضبطة التي أريد بها الإحتيال على الدستور لتجديد انتخاب رئيس الجمهورية.